strong> أُبيّ حسن *
من المؤكّد أنّ اختلاف النظام السياسي يؤثّر في طريقة تفكير محكوميه ونظرتهم إلى محيطهم وما يجري حولهم في هذا العالم. وهذا ما نشهده حاليّاً في سوريا من خلال نظرة طيف قد يكون واسعاً من بعض السوريّين إلى حركة 14 آذار اللبنانية، وهي نظرة سلبية. وكذلك نظرة بعض اللبنانيّين، منهم من هو في حركة 14 آذار، إلى النظام السوري (وحتى المجتمع السوري) بُعيد وقبل اغتيال الرئيس رفيق الحريري. وهي نظرة لا تخلو من استعلاء وفوقية للمجتمع السوري، قبالة ما يشبه الحقد الدفين والعميق من الشريحة ذاتها على النظام السوري الذي «فجأة» أرادوا أن يحمّلوه مسؤولية معاناتهم التي سببها الأصلي هو النقص في التكوين المعرفي لدى الطوائف التي يتكون منها لبنان الدولة.
وعلى الرغم من كلّ العوامل الاجتماعية والثقافية والتاريخية والجغرافية، وحتى الوجدانية التي تجمع بين سوريا ولبنان (وهي عوامل أقوى وأكبر بكثير من العوامل التي تجمع سوريا مع أي بلد عربي آخر)، إلّا أنّ ثمة اختلافات جذرية بينهما، وهي اختلافات كائنة قبل اغتيال الحريري، وما نجم عنه من تداعيات سلبيّة أحدثت شرخاً في العلاقات بين سوريا ولبنان، اختلافات لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها بادعاءات كاذبة أو مقولات تجاوزها الواقع كمقولة «شعب واحد في بلدين».
فمثلاً الحُريّات العامة في لبنان شبه مصونة بحكم تقاليد اعتادها ذلك البلد منذ بداية تكوينه حتى تاريخه وطوال أكثر من ثمانين عاماً، والحديث بلغة طائفية، بعيداً عن العصبية (كما يبدو غالباً) يُعَدُّ أمراً بدهياً في لبنان! وذلك كلّه على نقيض الواقع ـــــ الرسمي في الحد الأدنى ـــــ في سوريا، وإن كان الحديث الطائفي يجري في سوريا خلف الجدران الموصدة والأبواب المغلقة جيداً، أو على طاولات نخبة المجتمع من مثقّفين وسياسيّين ومتابعين للشأن العام.
وحتّى طوال فترة الوجود العسكري السوري الذي استمرّ قرابة ثلاثين عاماً في لبنان، كانت تتكون هويّتان: سورية ولبنانية. صحيح أن فيهما ما يجمعهما، لكن أيضاً فيهما ما يفرّقهما. فبالتأكيد طريقة تفكير اللبناني ليست كطريقة تفكير السوري بحكم كون لبنان نظامه الاقتصادي حرّاً ونظامه السياسي طائفياً، وهو في ظاهره على نقيض شقيقه النظام السوري.
فضلاً عن أنّه، منذ نشوء ذلك الكيان كنظام (ودولة) يخضع لمفهوم السوق الحرة ومفتوح على الغرب. هذا كلّه أسهم، بلا شك، في تغيير نمط حياة أفراده، وبالتالي طريقة تفكيرهم التي فرضتها أنماط الحياة المتعلّقة بالمناخين السياسي والاقتصادي الكائنين في ذلك البلد، ما يعني أن تلك المعطيات أفرزت للفرد اللبناني وعياً بهُويّة لبنانية مستقلة و(ربما) مغايرة لهُويّة السوري.
وعلى الرغم من استقلالية الهُويّة اللبنانية ووعيها لاستقلاليتها وتميّزها عن الهُويّة السورية، إلّا أنّ هذا لا يعني قطعاً أنها غير قابلة للانفجار والانشطار والتشظّي ضمن لبنان ذاته ومع شريكها الآخر في البلد. وحقيقة هذا ما يحصل في لبنان كل بضعة عقود. والنقص في التكوين المعرفي لدى الطوائف المكونة للبنان تترجمه العلاقات الخارجية للطوائف اللبنانية مع خارج ما على حساب لبنان الواحد الموحَّد والجامع لكلّ مكوّناته البشرية. فدائماً يجد الموارنة هواهم في فرنسا، فيما يجد السُّنّة مصالحهم مع السعودية، وفي المقابل وجد الشيعة مصالحهم مع إيران (بعد ثورتها الإسلامية) ومع سوريا إلى حدّ ما. هذا على الأقلّ ما نشهده راهناً، أمّا في ما مضى من الزمن فاللبنانيون أدرى به منّا.
ومنعاً لحدوث أي التباس في المراد من النقص في التكوين المعرفي المشار إليه آنفاً، تجدر الإشارة إلى أنّ ذلك النقص ليس حكراً على طوائف المجتمع اللبناني، بل يكاد يشمل كل الشرائح الاجتماعية المكوّنة للعالمين الإسلامي والعربي مع وجود استثناءات قليلة. غير أنّه يبدو واضحاً للعيان وجلياً في لبنان كون نظام لبنان ـــــ شبه الديموقراطي ـــــ يسمح دائماً لمثل ذلك النقص أن يطفو على السطح، وذلك على نقيض الأنظمة الشمولية التي تتفنّن في كبت وتزييف كل شيء تحكمه حتى النقص في التكوين المعرفي للشرائح التي تتكوّن منها مجتمعاتها!
هذا ولن ننسى أنّ للصحافة اللبنانية المستقلة والمتمتّعة بهامش معقول من الحرية، وما لهذا الهامش من أثر، في مجمله أو مجزوئه، على المتلقي اللبناني، إمّا سلباً وإمّا إيجاباً، في تكوين هُويّة واعية. هذا كلّه على نقيض النظام في سوريا البعثية التي قضت (عن حسن نية أو سوئها) على التنوع وشوّهت ما بقي منه في ظلّ نظام شمولي، لم يكن بمقدوره نتيجة طبيعة السلطة والمجتمع المنطوي بدوره على عناصر وجماعات عرقية وإثنية ودينية متباينة ومتنافرة، إلّا أن يكون كذلك. مع التأكيد على طبيعة المجتمع وتكوينه، من غير إغفال مرحلة عقدي الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي بكلّ ما فيهما من حراك عادة ما يكون محطّ أنظار عشّاق الماضي من المصابين بلوثة نوستالجيا.
قصارى القول، أنّ ما شهده ذلك البلد من انشقاق عمودي في بنيته المجتمعية التي مثّلها الخلاف الكائن ما بين المعارضة (بقيادة حزب الله وحلفائه) وحكومة الرئيس فؤاد السنيورة (الممثل الشرعي لتيار المستقبل وحلفائه)، بُعيد عدوان تموز 2006، يؤكّد لنا أن طبيعة العوامل المكونة للهُويّة اللبنانية، التي كان يتوهّم البعض أنّها ديموقراطية في الحدّ الأدنى، ليست أقل سوءاً في نتائجها من الاستبداد القائم في الأنظمة الشمولية.
* كاتب سوري