عباس ناصر *
يجهد اللبنانيون في تبيّن معالم تفرّدهم عن محيط سبقهم إلى لغة الضاد.
هم حريصون على أن يكون التمايز واضحاً في كل مسالك حياتهم، ولا يدحض ذلك تشديدهم، وأحياناً تغنّي بعضهم، بأن بلدهم جزء من أمة العرب، علماً بأن لبنان صار كامل العروبة بعد اتفاق الطائف فقط، إذ كانت العروبة قبل ذلك مجرد وجه حضاري واحد من وجوه هذا البلد المتعددة. (الدستور اللبناني قبل الطائف كان يقول: لبنان ذو وجه عربي).
الوجوه الحقيقية للبنان هي الطوائف. فهي كانت ولا تزال تعبّر عن الوطن الحقيقي لكل لبناني، أو في أحسن الأحوال، هي مدخله إلى هذا الوطن.
لذا ليس في الانتماء إلى الطائفة، أو حتى في التعصّب والتحزّب لها، أي حرج، بل إن من الخطيئة التي قد لا تُغتفر التنكّر للطائفة التي تعتبر الحاضن السياسي والاجتماعي، وقبلاً الحضاري لجماعة معينة. الشيعة في لبنان لم يشذّوا عن شركائهم في الوطن.... قالوا كما قال غيرهم «لبنان وطن نهائي لأبنائه»، أي إنهم آمنوا بنهائية الكيان، لكنهم يبدون راهناً الأكثر قلقاً من الانصهار الكامل في هذا الوطن. وهذه مفارقة تسطع معالمها عند كل تعداد لمميزات هذه الطائفة، ولا سيما مميزات القوة فيها.
فالطائفة الشيعية هي أولاً إحدى أكبر الطوائف إن لم تكن أكبرها، وهي ثانياً أقوى الطوائف بالمعنى الكامل للكلمة، إذ هي الطائفة الوحيدة المسلحة بترسانة عسكرية استطاعت أن تقف في وجه إسرائيل، وهي ثالثاً تكاد تكون الطائفة الوحيدة التي التفّت حول زعامة، (وإن اعتبرها البعض ثنائية، حركة أمل وحزب الله) لا يشبهها ــ سواء من حيث عدد التابعين، أو حجم الولاء ــ أحد في الطوائف الأخرى.
يصح القول إن الميزة الثالثة (الالتفاف حول الزعامة) هي أمر طبيعي للقول الأول بأنها طائفة قلقة من انصهارها في لبنان ــ الوطن، لكن هذا يفترض وفقاً للمنطق الجدلي أن يسهّل عليها الدخول في الوطن، فهي تدخله بقوة، يجعلها تتفوق على أخواتها.
واستطرداً لا بد من لحظ أن الشيعة قبل حزب الله وقبل السيد موسى الصدر كان انخراطهم في لبنان ــ الوطن يمر حكماً عبر بوابة الأحزاب اليسارية والقومية، ولا سيما أنهم ما كانوا يشعرون بأن لبنان وقتذاك قد قبلهم وأن الوطن المصطنع برأي بعضهم قد فصّل على قياس غيرهم.
لم يكن هناك من إطار شيعي بالمعنى الطائفي الخالص. كان تحسس الحرمان والاضطهاد تحسساً جماعياً، لكن تجاوزه بدا فردياً، بمعنى البحث من خارج الطائفة عمّا يرفع الضيم، وقد مثّلت الأحزاب اليسارية البوابة الأعرض لذلك، لكونها وفّرت المطلوب من دون عملية الاستتباع لأي طائفة أخرى.
مع الصدر بدأت عملية لملمة الوعي الجماعي للطائفة. فنشأت مؤسسات طائفية بالكامل، منها «المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى» و«حركة أمل» التي كانت تسمّي نفسها وقتذاك «حركة المحرومين».
كان مشروع الصدر لبنانياً بالكامل، لكن كان واضحاً جداً أن المدخل إلى هذا الـ«لبنان»، هو الطائفة أولاً وأخيراً.
مع حزب الله استشعر الشيعة العزّة والقوة... لقد صاروا شوكة النظام اللبناني في لحظة من اللحظات، ومع أن لافتة الحزب كانت ولا تزال إيديولوجية تنظر الى الأمة نظرة تتجاوز حدود لبنان، إلا أن الأدبيات الوطنية المحلية فاضت في قاموسه. ويسيّلها الحزب الآن في إطار حركة الاعتراض الداخلي التي يمارسها راهناً والتي تعتبر سابقة في تاريخ حراكه السياسي.
لكن على رغم ذلك لم تتحول الأدبيات تلك إلى قناعة فردية تجعل من «الشيعي» لبنانياً أولاً، ثم شيعياً.
لا شك في أن عوامل ذاتية ــ تاريخية تؤدي دوراً كبيراً في هذا المجال، منها الشعور التاريخي للشيعة بالاضطهاد ومحاولة البعض لفظهم من الأمة أساساً، وبالتالي الشيعة مسكونون بالقلق التاريخي الذي لازم وعيهم ولاوعيهم الجماعي على امتداد القرون الماضية. لكن لا شك في أن ثمة عوامل راهنة تدفع في اتجاه إعادة تحسس القلق، واستحضاره بأدبيات اللحظة، ومشخّصاتها.
من الواضح أن الأدبيات الوطنية غزت البيت الشيعي بشكل ملحوظ في السنوات العشر الأخيرة، فالعلم والنشيد والأغاني..... صارت لافتةً حتى في أقوال العامة، ومعلوم أن العوام متأخّرون دوماً في تلقّف التغيرات، ولا سيما إذا كانت كبيرة ومصيرية، إذ هم أقرب دوماً الى التقليد والمحافظة.
حتى مصطلحات السياسيين صارت زاخرة بالـ«لبنان» الوطن، والبلد، والشراكة، التي كادت تفيض أو تساوي تلك العبارات التي تشير الى الأمة والجماعة بما هي كيان يتجاوز كيان الوطن بالمعنى الراهن للكلمة.
كأن الشيعة وهم أقلية في محيط سنّي أكثري شعروا أو توهموا بأن دخولهم المشروع بل المطلوب إلى الوطن دونه ممنوعات من نوع آخر.
ما استطاعت القوة أن تبدد لدى الشيعة شعورهم أو توهّمهم برفض الآخرين لهم. لقد أصبحت القوة، قوة دافعة في اتجاه معاكس.
يؤمن الشيعة بأن قوتهم العسكرية لا يمكن تسييلها في إطار معركة داخلية، ولا سيما أن حزب الله (وهو الإطار الجامع للشيعة اليوم) يدرك أن على عاتقه مهمة تجميل وجه الشيعة في العالم، ولا سيما في العراق.
فالحزب الذي قدّم القدس والأمة في خطابه السياسي، مطلوب منه أن يقول إنه جزء من الأمة، أي من السنّة بالمعنى السياسي. يمانع المشروع الإمبريالي، ويقاتل المشروع الصهيوني، تماماً كما يفعل السنّة.
لقد تقدم الحزب على ما سواه في ذلك، ولا سيما في هز عنفوان إسرائيل، وقد عجز غيره عن بلوغ ما بلغه، إلا أن حرق المصلّين السنّة في العراق انتصاراً بشكل أو بآخر لدولة تتنصر لها أميركا، وتنتصر هي للمشروع الأميركي، ظل يضع الحزب في دائرة الشبهة باعتبار أن المرجعية واحدة «للشيعيتين» العراقية واللبنانية.
هكذا اصطدم حزب الله والشيعة في لبنان بأن نضالهم السياسي المحلي، بقطع النظر عن أحقّيته، وُضع بالضرورة في وجه السنّة، محلياً وعلى مستوى الأمة.
لا يريد الشيعة أن تبقى قوتهم في سلاحهم حصراً، يريدون قوة في الوطن، توطّد رابطتهم به وبطوائفه، لكن القوة هذه لا تزال مثيرة للجدل.
إما أن يخسر الشيعة رصيدهم في الأمة، وإما أن يشعروا بأنهم سيقوا من جديد في معادلة وطنية ما زالوا يعتقدون أنها تهضمهم حقوقهم، وتدفعهم ليظلوا طائفة قلقة، في وطن يلفّه القلق....
وطن قلق من طوائفه وقلق عليها أيضاً.
* إعلامي لبناني