لطفي حجي *
يُبرز تعدّد الدراسات في البلدان الأوروبيّة حول الإسلام، مدى سعي الأوروبّيين لفهم ما يجري عندهم وعندنا، لأنّ الدراسات في هذا المجال الحسّاس بالنسبة إلى الجميع، لها محاور مثل الإسلام في «ديار الإسلام» ومحور الإسلام في «ديار الغرب».
والمحور الثاني أصبح مجال اهتمام مكثَّف في السنوات الأخيرة. وقد تكون أحداث الحادي عشر من أيلول، والحرب على أفغانستان، واحتلال العراق، وبروز فصائل إسلامية متعدّدة فيه، أسهمت في دفع السياسيّين والباحثين وعلماء الاجتماع إلى محاولات الفهم، خصوصاً أنّ العديد من الشبّاب المسلم سواء الأوروبيّون أصلاً أو الحاصلون على الجنسيات الأوروبيّة من أصول عربية، ذهبوا بأعداد يمكن اعتبارها مرتفعة للتطوّع للقتال في أفغانستان ومن بعدها العراق. وهو ما يعني في العرف الجاري أنّهم يخالفون أصول بلدانهم الفكرية، إضافة إلى مخالفتهم لمواقف أنظمتهم السياسية.
ما الذي يدفع شابّاً في مقتبل العمر حاصلاً على جنسية من بلد أوروبي يحلم بها أترابه من بلدان جنوب المتوسّط، ويعيش أوضاعاً مادية مستقرّة ولو نسبيّاً، إلى التطوع للقتال في بلدان أخرى والقيام في حالات عديدة بعمليات انتحارية؟
إذا تجاوزنا ما يُعرَف بتيار «رهاب الإسلام» عند الباحثين الغربيّين الذين ينطلقون من قناعات دينية عدائية ومن منطلقات عنصرية أحياناً أخرى، فإنّنا نجد مقابل ذلك محاولات عديدة لدى باحثين تتّسم بحوثهم بقدر لا يُستهان به من الموضوعية، يسعون إلى تقديم حلول للمسلمين في «ديار الغرب» تخصّ معضلة الاندماج دون فقدان الهوية أو التخلّي عن المبادئ الدينية بالنسبة إلى المتديّنين منهم.
هذا الصنف من الباحثين ليس بالمتديّن، ولا من ذوي الأصول الإسلامية، لكن المعرفة عنده أقوى من التحيّز لعرق أو دين. كذلك استطاع بجرأته العلمية وبحوثه الميدانية أن يتحرّر ـــــ ولو إلى حدّ ـــــ من القيود الأيديولوجيّة التي لا تزال تقيّد العديد من الباحثين العرب.
فمن خلال معالجتهم للأقليات الإسلامية في الغرب، ولتنوّع الحركات الإسلامية التي اتخذت من الغرب ملجأً لها هرباً من قمع أنظمة بلدانهم، نجحوا إلى حدّ في تفكيك جوهر الإشكاليات التي عجز المسلمون عن حلّها، والمتمثّلة بالأساس في دمقرطة الإسلام، وفي التسليم بتعدّد القراءات للدين الواحد، وفي ضرورة تجديد الخطاب الديني بما يتلاءم مع مبادئ الجمهورية عبر الاهتمام بالأئمّة، وفي كيفيّة عيش المسلم الذي أصبح أوروبي الجنسية دون أن يشعر بالتمزّق بين مبادئه الإسلامية وقوانين الجمهوريّة، وكيف يمكن هذه الاخيرة أن تكفّ عن استعمال العلمانية ذات العناصر المتغيرة (على حدّ تعبير الباحث الفرنسي فرنك فريكوزي) لتمييز دين عن آخر، أو تفضيل عبادة على أخرى، بما يؤدّي إلى مخالفة جوهر العلمانيّة التي قامت على مبدأ التكافؤ بين مختلف الأديان.
ومصدر قوّة ذلك المسعى أنّه ينطلق من منطلقين أساسيين: الأول هو أنّ أصحاب هذه البحوث يغلّبون الأبعاد العلمية الموضوعية على المسائل الأيديولوجية المسبقة، بما يعني أنّهم نجحوا في القطع مع المدرسة الاستشراقية القديمة التي كانت تنطلق في بحثها من أفكار التفوّق العنصري والحضاري وأحيانا الديني. أمّا المنطلق الثاني فيتعلّق برغبتهم في تطوير مجتمعاتهم من خلال السعي لابتكار أنجع السبل للتعايش بين مختلف مكوّناتها، باعتباره الضامن للاستقرار. بمعنى آخر، فإن الباحث الموضوعي في هذا المجال ـــــ مع إقرارنا بأنه ليس هناك موضوعية مطلقة ـــــ تغلب عليه روح المواطنة على الانتصارات الأيديولوجية الوهمية. ويقوم بدوره وهو يدرك أنّه لا يشارك الجماعات مدار بحثه في قناعاتهم وأفكارهم. وقوّته في ذلك، أنّه يقوم بمهمّته العلمية من منطلق المواطن الذي يبحث عن النظام السياسي الأمثل من خلال تطوير التجارب السياسية التي عاشها ويعيشها بلده. وإذا أردنا اختصار طبيعة ذلك العمل ـــــ على ما يمكن أن يطاله من نقد ـــــ قلنا إنّه العقل العملي الذي يستفيد من تراكم الخبرات عندهم والساعي إلى تجاوز الصراعات الهامشيّة التي تعطّل تطوّر المجتمع.
وهذا العقل، يقابله لدى فئة ليست بالقليلة في أوساط النخبة العربية، عقل مكبَّل بقيود الأيديولوجيا، الذي تنتج منه ـــــ في مجال بحثنا ـــــ حالة من «رهاب الإسلام» التي تكاد تكون أكثر راديكالية ممّا هو سائد لدى بعض الباحثين في الغرب.
والإسلاموفوبيا تجعل أصحابها عاجزين عن فهم الظواهر كما هي، فيُصابون بالذهول ويُكثرون من إطلاق صيحات الفزع ويبرعون في تخويف الآخر ـــــ الذي هو الغرب في هذه الحالة ـــــ مما يجري في بلدانهم، مستنجدين أحياناً ببعض الحلول الجاهزة. وذلك السلوك من «الاسلاموفوبيّين» العرب يزيد في تهميشهم وعزلهم إلى حدّ يشعر فيه البعض منهم أنّ الأوطان التي يعيشون فيها ليست بأوطانهم، وأنّهم يعانون من مشكلة اندماج معكوسة.
صحيح أنّه ليس عندنا في البلدان التي تعيش تناغماً دينياً وإسلامياً مشكلة اندماج، أو مشكلة تمزّق المسلم بين دينه وجنسيته الجديدة، لكن عندنا ظواهر قد تكون أعمق وأخطر من تلك، تحتاج إلى دراسات تتضافر فيها المناهج العلمية وإرادة القوى السياسية، باعتبار أنّ الأمر يهمّ المجتمع. لكن ذلك يحتاج بدوره إلى عقل نقدي وإلى دولة تقبل النقاش في تلك المسائل وترعاه وتوفّر له شروط نجاحه، وهي عناصر تكاد أن تكون غائبة في بلداننا العربية.
نحن ننقسم بين صيحات الفزع من الظواهر الجديدة، وبين الفتاوى على القياس التي تصل حدّ القول بجلد الصحافيّين، وبتحريم المقاومة المشروعة، وبتحليل التوريث السياسي.
إنّ النخبة التي تعيش فوبيا الإسلام عليها أن تضع أقدامها على أرض مجتمعاتها لتدرك أنّنا نعيش بالفعل، ظواهر تحتاج إلى الدراسة بدل الهروب منها، وإلى الفهم بدل الخوف منها والتخويف بها، وإلى البحث لها عن حلول نابعة من ذواتنا بدل البحث عن الوصفات الجاهزة التي لم تجد نفعاً. ومن بين تلك الظواهر، أزمة الفتوى في المؤسّسات الدينية الكبرى في العالم العربي، مثل الأزهر، وفي مجالس الإفتاء في باقي البلدان العربية والإسلامية، التي أصبح المفتي فيها موظّفاً رسمياً في دول لا تحترم الحريات، بما في ذلك الحريات الدينية داخل الديانة الواحدة، ولا تؤمن بالمؤسّسات، ولا تسعى لإقامة جمهورية تتّضح فيها الأدوار باحترام الدساتير والقوانين.
وهناك أزمة فتوى أيضاً في عدد من الفضائيات ذات التوجّه الديني التي أصبح التحريم فيها والتضييق على الخلق هو القاعدة، ما قلّص دائرة المؤمن/ السائل ودفعه إلى هجرة المجتمع وبناء مجتمعه الخاص، فتعمّق بذلك الانقسام بدل التوحد.
ولم يعد يخفى أنّ هناك أزمة عميقة في الفكر الإسلامي، جعلت فئات من الشباب ترفض الفكر المعتدل المستنير وتتّجه نحو السلفية الراديكالية، التي تُدخل أصحابها في دوّامة من التكفير والتناحر يصعب الخروج منها. وإذا علمنا ـــــ على سبيل المثال ـــــ أنّ صنفاً من ذلك الشباب يكفّر الشيخ يوسف القرضاوي، الذي يُعدّ مرجعاً في العالم الإسلامي، لأدركنا إلى أيّ مدى يمكن أن يصل هذا الفكر.
نحن نعيش كذلك أزمة دولة لا تريد التفكير في مستقبل مجتمعاتها وتحوّلاتها العميقة، ولا تريد إشراك نخبها الواعية في البحث في الظواهر الأساسية، ومن ثمّة التأثير على القرار السياسي والإسهام في تغيير المجتمع وتجنيبه الهزّات التي يمكن أن تعصف به.
إن فقدان الحرية في ديارنا جعل جزءاً من النخبة تائهة، وحرّف منطلقات بحثها وجعلها تتخبّط في دائرة مفرَغة لم تحقّق النتائج المنشودة على امتداد عقود. ومن ثم، تصبح تلك النخبة مطالَبة بقلب التعامل مع الظواهر لتصل إلى النتائج المرجوّة.
* كاتب وصحافي تونسي