وفيق قانصوه *
سلّطت أحداث 11 أيلول في الولايات المتحدة الأضواء على توسع النفوذ السعودي وتغلغله في معظم أنحاء العالم الإسلامي، وحتى في العالم الغربي، وهو النفوذ الذي لم تكن الولايات المتحدة بعيدة عن «التورّط» في نشوئه ونموّه منذ وقت طويل، ولا سيما منذ مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما استُخدم مال الفورة النفطية في تمويل «الجهاديين»، وخصوصاً في أفغانستان، من أجل محاربة «الإلحاد» الشيوعي.
هذا التوسع اتخذ أبعاداً سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وخصوصاً دينية عبر «تصدير الوهابية»، ما حوّل السعودية إلى أشبه ما يكون بـ«مملكة بلا حدود»، وهو عنوان المؤتمر الذي عقدته «رابطة العقلانيين العرب» على مدى ثلاثة أيام في جامعة «كينغز كولدج» اللندنية، الأسبوع الماضي، وضمّ مجموعة كبيرة من الباحثين العرب والأوروبيين والآسيويين.
وهدف المؤتمر إلى موضعة التوسع السعودي في سياقه التاريخي، وركّز على العوامل التاريخية والبنيوية التي مهّدت الطريق لهذا التوسع، منذ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970، وذلك عندما استخدمت المملكة العربية السعودية مواردها النفطية الهائلة لدعم نفوذها السياسي الذي طغى على ما عداه في العقود الثلاثة الماضية، وما رافق ذلك من سيطرة على الإعلام العربي، شمل معظم الجرائد والمجلات والقنوات الفضائية وشبكات الإنترنت، فضلاً عن تمويل عشرات دور النشر في العالمين العربي والإسلامي.
تحت هذه المحاور قدّم المشاركون أوراقاً تطرقت إلى مراحل انتشار الدعوة الوهابية بين عامي 1745 و1932 والمجادلة الفكرية العنيفة بين أنصار الوهابية وخصومها على مدى قرنين من الزمن (التونسي حمادي الرديسي)، ونشوء الإمارة السعودية وتأثيراتها في شرق الجزيرة العربية وأوضاع السكان السعوديين في الأقاليم الشرقية المتاخمة للخليج الفارسي (الأستاذة في جامعة لندن نيليدا فوكارو).
«التوسع السعودي في الحلقة اللبنانية 1920ـــــ1952» كان عنوان مداخلة المؤرخ اللبناني فواز طرابلسي الذي رأى أن لبنان «كان الساحة الأولى للتوسع السعودي خارج الخليج»، وخصوصاً على الصعيد الاقتصادي، وذلك منذ أربعينيات القرن الفائت عندما أدى هذا البلد دور الوسيط في تجارة الذهب بين أسواق الإنتاج العالمية وسوق الاستهلاك السعودية، وقبل وقت طويل من تحوّله إلى مصرف ومصيف لرأس المال الخليجي والسعودي في الستينيات والسبعينيات. وخالف طرابلسي المقولة السائدة أن لبنان كان ساحة لتأثير السياستين الأميركية والمصرية (ومن ثم السورية) فقط، مشيراً إلى أن هذا البلد لطالما كان، أيضاً، مجالاً فرنسياً ـــــ سعودياً، ولافتاً إلى أن الرئيس الراحل رفيق الحريري «لم يكن السعودي الأول» الذي شغل منصب رئاسة الحكومة، بل سبقه بأربعة عقود حسين العويني!
وتحت عنوان «العلاقات السعودية ـــــ الأوروبية في السياسة والاقتصاد والبيئة» تحدث أستاذ العلوم السياسية في جامعة أمستردام بول آرتر عن تاريخ عن هذه العلاقات، بدءاً من الحظر النفطي (1973ـــــ 1974)، مروراً بأحداث 11 أيلول، وصولاً إلى الوضع الراهن، ملاحظاً أن هناك ميلاً لدى الدارسين إلى المبالغة المضحكة في تصوير نفوذ عالمي للسعودية أبعد ما يكون عن الواقع. فيما ركّزت، في المقابل، مداخلة الباحث الأميركي من جامعة بنسلفانيا روبرت فيتاليس على ما سمّاه «وكالة (عمالة؟) آل سعود للإمبراطورية الأميركية»، نافياً عن المملكة السعودية أي دور أو وظيفة إلا استخدامها «غطاء لتنفيذ سياسات أميركا في العالم العربي». فيما كانت مداخلة أستاذ العلوم السياسية في جامعة كاليفورنيا أسعد أبو خليل عن سمات السياسة السعودية في لبنان، وتطرق فيها إلى خلفيات هذه السياسة واندراجها ضمن سياق سياسة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط ككل.
الأستاذة في قسم اللاهوت والدراسات الدينية في المعهد الملكي البريطاني السعودية مضاوي الرشيد ركّزت في مداخلتها تحت عنوان «المئذنة والقصر: طاعة في الداخل وعصيان في الخارج»، على ما سمّته «إخضاع القصر للمسجد» أو السلطة لرجال الدين، وهو ما أدى إلى نتيجتين متعاكستين: ففي الداخل السعودي ترسّخ الخطاب الديني الداعي إلى الخضوع للحكّام بشكل تام ومنع انتقادهم، وفي الخارج، الإسلامي خصوصاً، أسهمت الثروة النفطية في انتشار الخطاب الوهابي المحرّض على التمرد على السياسة السعودية (أفغانستان، الشيشان، العراق...)، لتخلص الباحثة إلى أن الحكام ورجال الدين السعوديين انخرطوا، معاً، في معركة ضخمة لن تنحصر انعكاساتها الكبرى، ولا ضحاياها، داخل حدود المملكة.
وتناول نور هايدي حسن من الجامعة الإسلامية في جاكرتا أطوار تحوّل إندونيسيا من «التدين اللامسيّس» إلى «العنف الجهادي»، ومدى تأثير حركة الدعوة السلفية الوهابية في هذا البلد وانتشارها فيه، ليخلص إلى أن «المتطرفين الإندونيسيين هم نتاج حصري للوهابية». أما أستاذ قسم الدراسات الاجتماعية في جامعة هول البريطانية مارك جونسون فركّز على تأثير الوهابية على العاملين الآسيويين، وخصوصاً الفيليبينيين، في السعودية، ونقل هؤلاء للفكر الوهابي إلى بلادهم. وتطرق رويل ميجر من جامعة راباود الهولندية إلى «التوسع الجهادي السلفي العالمي» من خلال شخصية رجل واحد هو يوسف العياري المولود عام 1973، الذي قاتل في كل المعارك السلفية من أفغانستان إلى الشيشان والفيليبين قبل أن يقتل عام 2003 في السعودية.
واستعرضت مداخلة الكاتب السوري هاشم صالح تحت عنوان «السعودية في مرآة المثقفين الغربيين» آراء بعض هؤلاء، كبرنارد لويس وجيل كيبيل، الذين دفعتهم «مأساة 11 أيلول، للمرة الأولى، إلى تطبيق المنهجية العلمية على الأوضاع الداخلية للسعودية»، لافتاً إلى بدايات إصلاح سعودي تمثل خصوصاً في تغيير مناهج التعليم، وداعياً إلى دعم «المثقفين التنويريين السعوديين في وجه التيار المسيطر تاريخياً». وشدد على الحاجة إلى إصلاح ديني استلهاماً من التجارب الأوروبية السابقة. وقد أثارت المداخلة نقاشاً حامياً من المشاركين الذي أخذوا عليه تبنّي الرواية الأميركية لأحداث 11 أيلول وإغفاله ضحايا العراق لدى تعداده ضحايا الإرهاب في العالم. فيما تساءل أبو خليل عما إذا كان «المثقفون التنويريون» الذين أشار إليهم صالح «بعيدين عن الأمركة».
أما الباحثة في جامعة اكستر البريطانية سلوى إسماعيل فتطرقت إلى ما سمّتها «مغامرة سعودية ـــــ أميركية» لتوليد «إسلام إصلاحي معتدل في وجه الإسلام المتطرف لتنظيم القاعدة». ولفتت إلى إشارات بدأت بالظهور، وخصوصاً في الفضائيات السعودية، إلى محاولة أخذ مسافة عن الإرث الحنبلي، «ففي أحد البرامج الدينية عاد الشيخ خمس مرات في فتاواه إلى الامام أبي حنيفة».
هذه المسافة تتسع وتفسح في المجال حتى لهيفا وهبي في ورقة الباحثة في جامعة لندن نهى ميلور التي تناولت الاحتكار السعودي الشبه تام للإعلام العربي، حتى في «نسخه» اللبنانية والمصرية، لافتة إلى «التعايش» بين وهبي والداعية عمرو خالد في قناتي «روتانا» و«الرسالة» المملوكتين للوليد بن طلال، ناسبة إلى مدير الثانية، وهو داعية إسلامي، قوله إن «خير هذا بشرّ ذاك»! وهذا ما يجعل السؤال مشروعاً عن سبب هذه «الازدواجية» الجامعة بين التدين المتشدد والانفتاح المتفلت، أو ما سمّته الباحثة السعودية مي يماني «الشيزوفرينيا» السعودية في ورقتها تحت عنوان «البترودولار والصحافة العربية»، وتطرقت فيها إلى «سيطرة آل سعود المطبقة» على الإعلام العربي وإنفاقهم مليارات الدولارات في سبيل ذلك، معيدة ذلك إلى خمسينيات القرن الفائت بعدما أزعجت «صوت العرب» وأحمد سعيد«ها» الرياض. ولفتت الباحثة إلى أن السعي السعودي إلى السيطرة الإعلامية اصطدم، بداية، برفض المتشددين الوهابيين، باعتبار ذلك حراماً، وتمثّل بهجومهم على مبنى الإذاعة والتلفزيون منتصف الستينيات، قبل أن تصبح الفضائيات اليوم إحدى وسائل نشر دعوتهم. ولفتت إلى أن هذا الاحتكار، وإن كان سمح ببعض الانفتاح، إلا أنه شطب النقاش الحر والتنوّع في الإعلام
العربي.
* من أسرة «الأخبار»