أمين محمد حطيط *‏
في نهجها لإقامة الإمبراطورية الأميركية الكونية، اعتمدت أميركا لإخضاع الدول ‏وامتلاك قرارها سياسة المراحل الثلاث، التي يمهّد لها بالإعلام المثير للمشكلة والمحدّد للقصد ‏المباشر، ثمّ تبدأ بقرار ممّا تسميه هي الشرعية الدولية، ويصدر عن مجلس الأمن الذي تمسك ‏بقراره إلى حد شبه كلي. فإن لم يجد القرار نفعاً تنتقل إلى المرحلة الثانية وفيها الحصار ‏والعزل والمقاطعة والعقوبات المتنوعة وأهمها الاقتصادية، بغية إضعاف الدولة من الداخل ‏وقطع مصادر الإنعاش من الخارج وصولاً إلى إسقاطها من غير حاجة إلى استعمال الجيوش. ‏وإذا كانت مناعة الدولة تجعلها مستعصية على ذلك، فلا يكون أمام أميركا إلا استعمال الدواء ‏الأخير، الكيّ بالنار، وخوض الحروب غير المتكافئة، فتحتلّ الدولة وتغيّر نظامها وتقيم حكم ‏الدمى المتحرّكة بالقرار الأميركي بشكل تام. ‏
لقد عوّلت أميركا كثيراً على هذه الآلية ذات المراحل الثلاث لإقامة الحكم الأميركي ‏المطلق المسيطر على العالم. ولدى التطبيق من الكويت إلى أفغانستان ثمّ العراق، وصولاً إلى ‏لبنان، كانت نتائج هذه السياسة متفاوتة في تحقيق الطموح الأميركي. فمن النجاح التام في ‏تحرير الكويت إلى الهزيمة الإسرائيلية في غزو لبنان لتجريد المقاومة من سلاحها وإقامة حكم ‏الفئة التابعة والمسيّرة من السفير الأميركي، مروراً بإخفاقات العراق وأفغانستان. وبعد 17 ‏عاماً على وضع أميركا سياستها موضع التنفيذ الفعلي، تبيّن لها أنّ بينها وبين النجاح في تحقيق ‏الأهداف مسافات شاسعة لا يمكن قطعها إلا بسفك المزيد من الدماء منها ومن الذي تستهدفه ‏وبتكبيد الخسائر المادية والمعنوية التي تجعل من بلوغ الأهداف الموضوعة أمراً في غاية ‏التعقيد، وقد يقترب من جعلها مستحيلة إذا كانت الآلية في العمل والاستراتيجية المتّبعة هي ما ‏اعتمد في العراق ولبنان وقبلهما في أفغانستان. ‏
إنّ استراتيجية الإخضاع والسيطرة بالقوة العسكرية الغربية/ الأميركية، باتت في حكم ‏العقيمة الساقطة غير القابلة للترميم. وإنّ البحث عن خطط حربية جديدة لتطبّق من ضمن ‏استراتيجية الحديد والنار التي اتّبعت حتى الآن هو بحث عن مفاقمة الخسائر والإخفاقات في ‏الجانب الغربي الذي تقوده أميركا، وعمل لزيادة معاناة الشعوب المستهدفة بتلك السياسة ‏الهدامة القاتلة، وضخ دم إضافي في أنهار الدماء التي تسيل في أي منطقة وطئها جندي ‏أميركي محتل أو تحرّك فيها سفير أميركيّ وصيّ أو وليّ أو حاكم. ‏
لكنّ المكابرة وصعوبة الانقلاب الجذري على الاستراتيجية القديمة تحولان دون التغيير ‏الفوري والإعلان الصريح عن عملية التغيير. وفي المقابل، يظهر أنّ تبدّل الحكّام في بعض ‏دول أوروبا (إيطاليا ـــــ فرنسا ـــــ بريطانيا) واقتراب نهاية ولاية جورج بوش بعد سنة ونصف ‏من الآن، هذا التبدل الحاصل والمرتقب سيمنح الغرب فرصة معقولة لإعادة النظر بتلك ‏الاستراتيجية التي ما أنتجت إلا القتل والدمار ونشر «الفوضى الخلاقة للويلات والمآسي» ‏لشعوب المناطق التي حلت أميركا فيها. ويبدو أنّ الجدد من الحكام الغربيّين باتوا على اقتناع ‏بوجوب التغيير... لكن ينبغي الحذر وتجنب الإغراق في التفاؤل بحصول التغيير السريع ‏والوصول إلى الحلول المتوخاة للمشاكل التي صنعت أساساً باليد الغربية. ‏
ولأنّ الإخفاق أو الهزيمة أو الخسارة تشتت جمع الحلفاء، فإنّنا اليوم في الشرق الأوسط ‏على عتبة تشكل جديد للمشهد السياسي والميداني، وفي مرحلة بداية التحولات التي يسعى فيها ‏كل عضو أو فريق إلى أن يؤمّن لنفسه قدراً من الاستقلالية يوفّر عليه المزيد من الخسائر التي ‏تلحق بالمشروع بكامله بعدما ثبت حتى الآن عقمه وصعوبة نجاحه. لكنّ حركة الأطراف ‏المستقلّة عن الرأس ليست حرّة أو متفلّتة من غير قيود تفرضها أميركا. إنّ حركة الأعضاء ‏التابعين محكومة اليوم بخطّين لا يمكن تخطّيهما: الأوّل، عدم سماح أميركا لأيّ كان بتجاوزها ‏في عمل سياسي منفرد أو مستقلّ تماماً عنها، بما يفاقم أضرارها ويزيد من نظرية حصر ‏الخسائر بها وحدها. من هنا نفهم الموقف السلبي من زيارة سولانا الإسباني إلى دمشق، والرد ‏السريع عليه في عمليات ضد الإسبان في لبنان واليمن، كانت بمثابة الرسائل إلى تلك الدولة ‏بلزوم الحذر في التحرك وعدم الذهاب بعيداً في المناورة المنفردة. أمّا الخط الثاني فيتمثل ‏بالمرونة في التعامل مع أي حركة منفردة ظاهراً، ومسك مفاتيح التحكم بها من الداخل أو عبر ‏المحيط، لمنع أي نجاح لها إن لم يكن يصب في المصلحة الأميركية كما هو حاصل اليوم مع ‏المبادرة الفرنسية، التي ستكون نتائجها متواضعة كما يبدو، وهي لن تتعدى الشكل والفولكلور ‏السياسي وتقديم فرنسا دولة حريصة على علاقة متوازنة مع كل اللبنانيين وتصحيح النهج ‏الخاطئ للسياسة الشيراكية الشخصانية التي عادت ثلثي الشعب اللبناني. أمّا الحل المأمول ‏لأزمة لبنان، فلن يكون بيد أو لسان فرنسي. ‏
وعلى هذا الأساس نرى أنّ الشرق عندنا سيشهد في المستقبل القريب «حركة الخروج ‏من القطار» الذي تأكد فشله في الوصول إلى الهدف الغربي، وبات متجهاً بركابه إلى الخسارة ‏الأكيدة. خروج يكون لطلب النجاة أو الحد من الخسائر. وهذا الأمر لن يتوقف على الدول ‏فحسب، بل يتمدد إلى الفئات والتجمعات المحلية والإقليمية التي ساقتها أميركا بعصاها أو ‏بوعودها ـــــ الجزرة والعصا ـــــ لتسخرها في سبيل المصلحة الأميركية العليا بقطع النظر عن ‏الخسائر والأضرار التي تلحقها بمصالح شعوبها وأوطانها. وهنا يطرح السؤال عن أثر حركة ‏‏»المتهيئين للخروج» أو «المتمردين» على السيّد، ومفاعيلها على المشروع الذي انتظموا في ‏خدمته طوال الأعوام الماضية، ثم كيف ستكون عملية الخروج وتغطيتها.‏
في المألوف من السلوك العام، أن الكارثة عندما تقع يلجأ المرء أولاً إلى التفكير بنجاته ‏الشخصية، ثم يفكر بالآخرين إذا استقام وضعه. لكن حتى يحفظ بعض ماء الوجه «والوفاء ‏للشركاء»، يحاول تغطية حركته أو إخفاءها عنهم أو اختراع المبررات للتراجع. وعلى هذا ‏الأساس، نرى أنّ المرحلة المقبلة ستتميّز بأمرين اثنين: الأوّل، ترهّل وارتخاء الروابط بين ‏المجتمعين المعتصمين المحتمين بالقرار الأميركي لإتاحة فرص الخروج لاحقاً، والثاني ‏إحداث الدخان السياسي أولاً والميداني ثانياً لتغطية عملية الانحلال لتلك التجمعات الدولية أو ‏الإقليمية أو المحلية والتحضير لإعادة تموضع جديد للأطراف. ‏
في التجسيد العملي لهذه المرحلة يرتقب: ازدحام المبادرات السياسية، وطلب اللقاءات ‏بين الأطراف للبحث عن مخارج، وكلها ستكون محكومة بمنطق المرحلة ـــــ مرحلة التحول من ‏حال إلى حال ـــــ وهو المنطق الذي يقود إلى القول بأنه زمن البحث عن المقعد لا زمن الحل ‏للأمر المعقد أو للمشاكل المعقدة القائمة. بمعنى أننا لا نرى في الحركة السياسية التي نشهدها ‏الآن والتي قد تزخم في المستقبل فرصة للحلول، ما دام المعني الأول بالحل لم يصل إلى ‏درجة تأمين مصالحه في الحد الأدنى في المنطقة عامة وفي العراق خاصة، لذلك لن يسمح ‏لأحد بقسط من الراحة قبل أن يؤمن السلامة لنفسه أولاً. من جهة أخرى، يخشى أن يلجأ من ‏يتعذر عليه تأمين مكان آمن له ولمصالحه في مرحلة التحوّل هذه، أن يلجأ إلى العنف المفسد ‏لمسار الآخرين ومصالحهم، ما يعني وجوب الانتباه والحذر الشديد من سلوك المحبطين اليائسين، ‏فهولاء لن يتقبلوا بسهولة منظراً يجدون فيه رفاقاً لهم بالأمس أو خصوماً لهم، قد حفظوا ‏مصالحهم أو اطمأنوا إلى سلامة مستقبلهم في الوقت الذي يجدون فيه أنفسهم في دائرة الخطر الذي ‏يصعب الإنقاذ منه. ‏
وفي لبنان، يبدو من المكابرة التي لا يتقبلها منطق أو عقل بعد الآن، القول بأن فريقاً ‏خسر مشروعه الأساس، قادر على الاستمرار في «التوحد» المصطنع، وبالمقابل لا يكون ‏عقلانياً أيضاً الاسترسال في التفاؤل والقول بأن من ينظم المؤتمرات الصحافية معلناً مسافة ‏ما، ابتدعها لتبعده عن فريقه الأم هو دقيق في كلامه. فالذين أعلنوا تمايزهم عن 14 آذار في ‏مسألة أو أكثر من المسائل الخلافية، رموا في إعلانهم إلى القول بأنهم في منطقة رمادية ‏ليخففوا خسائرهم أو ليطمعوا بمكاسب المرحلة المقبلة، ما يعني أن التعامل معهم ينبغي أن ‏يكون بأقصى الحذر، فلا يهمل موقفهم، ولا يبنى عليه كأنّه أمر لا رجعة فيه، لأنّ حسن الظن في ‏هذا الأمر قاتل. ‏
وعلى صعيد المنطقة، فإنّ الدول التي كانت ترشح نفسها في حال نجاح المشروع ‏الأميركي للعب دور إقليمي طليعي، أو تتفرد هي بالطليعة لن تسلم بكل بساطة لسواها بهذا ‏الدور وتنكفئ من غير حراك، بل إن سعيها لتأمين مصالحها، أو إفساد حركة الآخرين ‏ونجاحهم لن يقف في وجهه ضمير أو أخلاق، فالسياسة مصالح. ‏
الأشهر الطويلة المقبلة، ستكون أشهر التحول والدخان السياسي على الأقل. ونأمل أن لا ‏تتحول إلى دخان تحدثه نار اليائسين المحبطين، أو الطامعين بتعويض خسائرهم الماضية الذين ‏قد لا يجدون إلا في الحرب والنار مخرجاً لخسارتهم... في المقابل، سيجد الذين أفشلوا المشروع ‏الغربي أنفسهم أشد تماسكاً، وأكثر استعداداً لمواجهة الاحتمالات، من حيث الثقة بالنفس في ‏المسار السلمي أو الاستعداد لإفشال المغامرات العسكرية، إن قاد الجنون اليها.‏
‏* عميد ركن متقاعد