ورد كاسوحة*
ليس من قبيل المصادفة أبداً أن يتواقت اشتعال فتيل العنف الدامي في كل من العراق ولبنان وفلسطين، وخصوصاً عندما نعلم أن خيطاً رفيعاً يربط بين «مشهديات» العنف هذه، ويوحي ـــــ أي الخيط ـــــ بأن الأصل والجذر فيها واحد، مهما اختلفت التسميات والعناوين بين بلد وآخر.
وإذا أراد المرء أن يمضي أكثر في «لعبة المرايا» الشرق أوسطية، ويرى إلى الأسباب المعلنة لهذه الفتنة المتنقلة، فسوف يلحظ من دون شك أن العنوان المذهبي يكاد يكون الناظم الأساسي لديناميات العنف المتفجر والمتشظي هنا وهناك، لكن مع تمايز جزئي يسجل في الحالة الفلسطينية، حيث صراع الأخوة ـــــ الأعداء في «فتح» و«حماس» يتجاوز العنوان المذهبي أو الطائفي، لينحصر تالياً في عنوان «سياسي» بائس، هو الصراع المتهالك على سلطة لا تحكم ولا تملك من أمر سلطتها شيئاً.
ثمة ما يوحي بأن «العرقنة» باتت نهجاً يراد له أن يعمَّم وأن يغدو «نموذجاً» للانقسام السياسي والتنازع على السلطة في الشرق الأوسط، أي في الدول المحيطة بـ«إسرائيل»، والمشكلة لما يسمى «جبهة الممانعة»، وهي النسخة المحدثة والمنقّحة عن «الجبهة الشرقية»، أو «جبهة الصمود والتصدي»، كما كانت تعرف في سبعينيات القرن الفائت وثمانينياته.
والأكيد هنا أن النجاح في تدمير العراق وتفتيته وتذريره على نحو غير مسبوق بات يهدد، ولو جزئياً، أي على نحو أقل تدميرية وعدمية، كلاً من لبنان وفلسطين.
فصورة الاشتباك الحاصل في مخيم نهر البارد بين الجيش اللبناني وعناصر «فتح الإسلام» تعبِّر أيما تعبير عن المأزق الكبير الذي وصلت إليه «المسألة الوطنية اللبنانية»، وهو مأزق يدل دونما شك على انسداد أفق المشروع الوطني اللبناني المناهض للوصايات المتعددة الإقليمية والدولية، في مقابل نجاحات موضعية يحرزها التحالف الأميركي ـــــ الدولي، وهو الأمر الذي يجد صداه الأكيد في مشهد «نهر البارد»، حيث الاستعاضة عن التناقض الحقيقي والوجودي اللبناني ـــــ الإسرائيلي بآخر وهمي، ينقل جبهة الصراع من حدود الناقورة جنوباً إلى «حدود» نهر البارد شمالاً، ويجعل بالتالي من اللاجئ الفلسطيني في مخيم نهر البارد، والعامل السوري المشتغل في طرابلس أو بيروت صنوين لذاك الإسرائيلي في فلسطين، والأميركي في العراق.
فالصراع العبثي الحاصل في مخيم نهر البارد، وقبله الفتن المـــــتنقلة في بيروت، من أحداث 23 و25 كانــــــــــون الثاني الفائت، إلى مقتل «الزيادين»، وصولاً إلى العـــــــــبوات الناسفة في الأشرفية وفردان وعاليه والبوشرية وزوق مصبح، ومقتل النائب وليد عيدو ونجله، هذا كله يؤكد بصورة قاطعة وغير قابلة للنقض أننا بتنا في طور الانتقال من المشروع الوطني، ومناهضة التوسع الإسرائيلي ـــــ المُعَبَّر عنهما خير تعبير في حرب تموز الأخيرة ـــــ إلى مشروع الحرب الأميركية على «الإرهاب»، مع ما يرافق هــــــــــذا الانتقال من محاولات دائبة وحثيثة لتصوير الصراع في المنطقة على غير حقـــــــيقته، بمعنى جعله صراعاً على سلطات متهالكة، هنا وهناك، في لبـــــــــــنان وفلسطين والعراق، بين قوى طائفية ومذهـــــــــــبية وفئوية، لا يجمع بينها إلا التوق الشديد إلى السلطة، أي سلطة وبأي ثمن، حتى لو كان ثمناً تدفــــــعه شعــــــوب هــــــذه المنـــــــــطقة من لحمها الحي وأشلائها المتناثرة من العراق إلى لبنان إلى فلسطين.
في الحالة الفلسطينية الخاصة يرتدي الصراع على موقع المنطقة شكلاً وجودياً، بحكم كون القضية الفلسطينية هي القضية المركزية التي تدور حولها وعلى مقربة منها كل أشكال صراعات النفوذ الإقليمي والدولي في منطقة الشرق الأوسط.
واللافت في موضوع الصراع الفلسطيني العدمي على سلطة اللاسلطة بين «قبيلتي» «فتح» و«حماس»، مثلما درج المراقبون على تسميتهما أخيراً ـــــ وهو التعبير الأكثر تلاؤماً مع طبيعة تكوينهما القبلي والعشائري الحالي ـــــ هو طابعه التدميري والتذريري الذي انعكس وبالاً غير مسبوق على المشروع الوطني الفلسطيني.
إذ لم يسبق لأي فصيل فلسطيني، في تاريخ صراعه مع غيره من الفصائل أن وصل إلى الحد الذي وصلت إليه كل من«فتح» و«حماس» في المرحلة الأخيرة، ما ينذر بحلول كارثة حقيقية،
قد تفوق في تداعياتها ومضاعفاتها حصيلة ما يقرب من نصف قرن من الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي في محطاته المختلفة والمتعددة منذ النكبة عام 1948، مروراً بهزيمة عام 1967، ووصولاً إلى مشروع السلام المتداعي منذ أوسلو وحتى الآن.
يصح القول هنا إن من غير المجدي التعويل على ما بقي من رصيد وطني ونضالي في إرث «فتح» و«حماس»، ولا حتى على شبكة تحالفاتهما الإقليمية والدولية، سواء تلك «المعتدلة» في حالة «فتح»، لكونها حليفة موضوعية لما يسمى «المجتمع الدولي» وقوى «الاعتدال العربي»، أو تلك «الراديكالية» في حالة حماس، لكونها حليفة موضوعية هي الأخرى لجبهة ما يسمى «قوى الممانعة» الممتدة من إيران حتى لبنان مروراً بسوريا.
وعدم التعويل على هذا وذاك من القوى الإقليمية والدولية، فضلاً عن تاريخ الحركتين في النضال الوطني الفلسطيني إنما يرتكز على حقيقة بديهية مفادها: أن الصراع على السلطة، أي سلطة، سوف يفضي حتماً إلى أفق مسدود، ما دام قد اتخذ من العصبية الأهلية أو العشائرية أو الطائفية أو العرقية أو المذهبية وجهة خالصة وأخيرة له.
يجدر بنا والحال كذلك تحميل كل من «فتح» و«حماس» مسؤولية المآل البائس الذي أفضت إليه العصبية الوطنية الفلسطينية بعد عقود من التضحيات والنضال الوطني ضد النهج التوسعي الإسرائيلي، إذ لم تكن «إسرائيل» لتحلم بمكافأة أجزى من هذه على إخفاقها الذريع في حرب تموز الأخيرة !!
والخوف الحقيقي هنا يكمن في الاتجاه الإقليمي والدولي الأخير إلى وضع الصراع الفلسطيني ـــــ الفلسطيني بين «فتح» و«حماس» في خانة الحرب على «الإرهاب الدولي»، وإدراجه في سياق تصفية آخر «البؤر» المناهضة لما يسمى مشروع «الشرق الأوسط الجديد».
فانضمام لبنان وفلسطين بعد العراق وأفغانستان إلى منظومة «الحرب الأميركية على الإرهاب»، إما بشكل مباشر أو بالواسطة، يرشح الوضع الأمني في المنطقة إلى مزيد من التفاقم والتأزم، ويجعل من نماذج «نهر البارد» و«غزة» مجرد بروفات وتمارين على ما هو أدهى. وهذا «الأدهى» يتمثل في النزوع «العربي» غير المسبوق إلى التدمير الذاتي والتذرير الأهلي، كما هي حال العراق هذه الأيام.
* كاتب سوري