خورشيد دلي *
أدخلت الانتخابات الرئاسية التركية البلاد في أزمة متعددة الجوانب، وفجّرت في الوقت نفسه الصراع الجاري بين «الإسلام السياسي» و«النخبة العلمانية» في بلد اعتاد مثل هذا الصراع منذ أن أسس كمال مصطفى أتاتورك الجمهورية التركية عام 1923، ويشير تجدد هذا الصراع مع كل أزمة سياسية في البلاد إلى أنه لا العلمانية التي هي الأيديولوجيا الرسمية للدولة التركية استطاعت أن تنهي القطيعة السياسية مع الإسلام على الرغم من تراجع نفوذ الجيش ودوره بفعل الإصلاحات الكثيرة التي تحققت، ولا التيار الإسلامي نجح في تحقيق تسوية تاريخية مع العلمانية على الرغم من حرص الإسلام السياسي التركي منذ منتصف القرن الماضي على اتباع الآليات والوسائل القانونية والسلمية في التعبير عن نفسه ووجوده ومشروعيته السياسية في السلطة.
من يرجع إلى تاريخ هذا الصراع، فسيجد أنه شهد مراحل متباينة، تفاوتت بين ديموقراطية كادت تؤدي إلى تحقيق تسوية تاريخية كما في مرحلة الرئيس عدنان مندريس 1950 ــ 1960 ولاحقاً الرئيس تورغوت أوزال، وبين مراحل أخرى إقصائية في أعقاب الانقلابات العسكرية الثلاثة التي شهدتها تركيا في أعوام 1960، 1971، 1980، وانطلاقاً من تواصل هذا الصراع، بشكل علني تارة وأخرى بشكل متستر، ينبغي عدم النظر إلى القضايا الحياتية والسلوكية في تركيا كتلك المتعلقة بارتداء الحجاب كقضايا بسيطة، بل ينبغي النظر إليها كمسائل في غاية الحساسية لطرفي الصراع، فالمسألة هنا تتعلق بنظرتين مختلفتين للدولة والمجتمع والدين، وعليه فإن تبسيط الحديث عن وجود سيدة محجبة (زوجة عبد الله غول أو غيره من المرشحين المحتملين للرئاسة التركية) في قصر تشانقايا الرئاسي في أنقرة، مسألة تفتقر إلى فهم حساسية الصراع في تركيا والنظرة إلى هذه القضايا التي تعبّر عن رؤية لمستقبل الدولة التركية أكثر من النظرة إلى الحجاب كواجب ديني فقط، ولعل هذا ما كان يدفع بالسياسي التركي الراحل بولند أجاويد إلى القول مراراً: «إن أزمات تركيا ليست أزمات حكومية بل هي من نوع أزمات النظام»، وحقيقة ما يجري في تركيا اليوم يؤكد صحة هذه النظرة، فليس من المعقول أن المحكمة الدستورية العليا استفاقت فجأة على قانون لم يُعمل به في تاريخ تركيا إلا مع عبد الله غول مرشح حزب العدالة والتنمية لرئاسة الجمهورية حيث سبق أن انتُخب كل من سليمان ديمريل وتورغوت أوزال في هذا المنصب من دون تحقيق النصاب المطلوب في الجلسة الأولى للبرلمان، ومع ذلك لم تلجأ المحكمة الدستورية إلى القانون الذي حُرم بموجبه غول من الرئاسة التركية. بالتأكيد، استخدام هذا القانون مع غول لم يكن صدفة وإنما يدخل في إطار الصراع الجاري بين الإسلام السياسي المتمثل في حزب العدالة والتنمية على الرغم من تهرب الحزب في العلن من هويته الإسلامية مقابل تأكيد التزامه العلمانية والديموقراطية، وعليه فإن مسألة العلمانية والديموقراطية في تركيا، تبدو مسألة شائكة بسبب طبيعة تركيبة النظام السياسي في البلاد التي تمزج بين الحكم العسكري المباشر (الجيش) وبين الحكم المدني (البرلمان) بنموذجه الديموقراطي الغربي، وكذلك في تحديد دور الجيش وعلاقته بالعملية السياسية الجارية في تركيا، إذ يرى الجيش أن مهمته ومبادئه تقتضيان منه التدخل في كل ما يمت بصلة للعملية السياسية، أي إنه فعلياً يقوم بدور الحزب الواحد في إطار نظام ديموقراطي جزئي، ولهذه المسألة علاقة بنشأة الجيش التركي وتطوره وعلاقته بالدستور، فالجيش الذي هو مؤسسة من أهم مؤسسات الدولة التركية وأقواها نشأ نشأة وطنية وقومية وأُسندت إليه تاريخياً مهمة حماية النظام العلماني وفق قواعد دستورية على النحو التالي: الجيش يحمي الدستور والدستور يحمي الجيش، للحيلولة دون النيل من الأسس التي شيدت عليها الجمهورية التركية، وعليه كان مصير كل من حاول النيل من أتاتورك وأيديولوجيته الإقصاء وفي مقدمهم الرئيس عدنان مندريس الذي أعدمه الجيش عقب انقلاب 1960، والدرس الذي يجب استخلاصه من التجربة العلمانية في تركيا هو ان هذه التجربة تختلف عن التجارب العلمانية في الدول الغربية التي أخذت الدين بعداً حضارياً في هوية دولها ومجتمعاتها وأفرادها بخلاف التجربة التركية التي قامت أساساً على إقصاء الإسلام كهوية ونظام حياة وعبادة وثقافة من المجتمع والعمل على اقتلاعه من ذاكرة الأتراك وقطع كل صلة له مع التاريخ والتراث والجغرافيا.
بغض النظر عمّن سيتولى الرئاسة التركية خلفاً للرئيس أحمد نجدت سيزر، وسواء أكان الانتخاب من خلال برلمان جديد بعد انتخابات تموز المقبل أم من خلال اقتراع شعبي يسعى حزب العدالة والتنمية إلى تمرير قانون بذلك في الأيام المقبلة على الرغم من صعوبة ذلك بسبب الإشكاليات الدستورية المتعلقة بتصديق مثل هذا القانون، فإن هناك مسألة مهمة في التجربة التركية ينبغي التوقف عندها بعمق، وهي ان الصراع الجاري بين الجيش وقوى الإسلام السياسي لا يخلو من نظرة مصلحية متبادلة، فالجيش يريد توظيف البعد الإسلامي لأسباب تركية داخلية وأخرى تتعلق بالسياسة الخارجية لتركيا تجاه الجوار العربي والإسلامي ولا يستبعد البعض وجود رغبة أميركية في مثل هذا الدور لأسباب تتعلق بالاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وفي المقابل تحرص قوى الإسلام السياسي في خطابها على العلمانية أكثر من القوى العلمانية نفسها أملاً في كسب رضى القوى العلمانية (الجيش) عن تولّيها السلطة فيما لا يستبعد البعض ان يكون هذا الخطاب في إطار الحرص على عدم الاصطدام بالجيش وتحقيق أسلمة المجتمع والدولة بشكل تدريجي وهادئ، ولعل هذه المعادلة دفعت بالمحلل السياسي التركي أردوغان ايدين إلى القول بأن القوى الإسلامية في تركيا مصابة بعلمانوفوبيا، بينما القوى العلمانية مصابة بالإسلاموفوبيا، فلا الإسلاميون في تركيا يحملون مشروعاً دينياً، ولا العلمانيون هم علمانيون بالمعنى الحقيقي للعلمانية.
*كاتب سوري