عادل يمّين *
لقد اطّلعتُ باهتمام بالغ على مقترح مدير مركز بيروت للأبحاث والمعلومات الأستاذ عبدو سعد المنشور في هذه الصفحة من جريدة الأخبار الغرّاء تاريخ 16/5/2007 تحت عنوان «خطوات نحو الإصلاح السياسي»، وهو يقوم على إناطة السلطة التنفيذية برئيس الجمهورية وانتخابه مباشرة من الشعب مع إبقاء المركز للموارنة وجعل رئاستي المجلس النيابي والحكومة مداورة بين السنّة والشيعة.
وعليه، أودّ أن أعرض مجموعة ملاحظات تعليقاً على المقترح المذكور:
أوّلاً: في الفوائد والمحاذير:
1 ــ لا ريب في أنّ المشروع موضوع التعليق يشكل طرحاً نوعياً وجريئاً بالنظر إلى التحوّل الذي يحدثه في طبيعة نظامنا السياسي، وهو يعكس إرادة إصلاحية لدى صاحبه.
وغنيّ عن البيان أنّ انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة هو، مبدئياً، ممارسة ديموقراطية حقيقية ويخرج اختيار الرئيس من حرم السفارات والوصايات والغرف المغلقة ويضعه بين أيدي الشعب الذي اعتبرته الفقرة /د/ من مقدمة الدستور مصدر السلطات.
2 ــ من المسلّم به أنّ اتفاق الطائف لم يشهد تطبيقاً أميناً بتاتاً، سواء خلال سنوات وصاية سوريا على لبنان أو بعد جلاء قواتها عن أراضيه في 26 نيسان 2005.
ولكنّ التجربة، ولو مشوّهة، كشفت أنّ الأحكام الدستورية التي انبثقت من وثيقة الوفاق الوطني مؤهلة بطبيعتها للانحراف من جهة وغير قادرة على بناء نظام سياسي متماسك ودولة مؤسسات من جهة ثانية.
والواقع أنّ إخفاق اتفاق الطائف في بناء دولة يعود إلى جملة أسباب، أوّلها رغبة الوصي السوري في بقاء لبنان مجرّد مشروع دولة واللبنانيين شعباً قاصراً عن حكم ذاته حتى يبقى ممسكاً بالوطن الصغير، وثانيها تعامل أمراء الطوائف مع الدولة اللبنانية على أنها إقطاعات مالية وخدماتية لهم، وثالثها أنّ مندرجات الاتفاق لا تحوي على مرجعية دستورية داخلية قادرة على حسم المنازعات والتجاذبات بين الرؤوس المتعدّدة ومواقع النفوذ التي أفرزها.
ومن المسلّم به أنّ الفشل في بناء دولة المؤسسات وحكم القانون أفضى إلى غياب المحاسبة وتسييب الإدارات وهدر المال العام ومراكمة الديون والعجز والفساد.
4 ــ من هنا، نجد سبباً موجباً بالغ الأهمية لاعتماد النظام الرئاسي المقــــــــــترح، ويتمثل في الحاجة إلى إيجاد مـــــــــــوقع قيادي في النـــــــــــظام قادر على إدارة دفة الحكم وإطلاق المبادرات التنموية والإصلاحية من جهة ويمنع تعدّد الرؤوس وضياع المســــــــــــؤوليات وتبادل الفيتوات والاتهامات من جهة ثانية.
وغنيّ عن البيان أنّ النظام الرئاسي المبنيّ على إناطة السلطة التنفيذية بشخص رئيس الجمهورية، على أن يعاونه في تأديتها وزراء يختارهم... برهن نجاحه، مبدئياً، في الدول التي أخذت به وأبرزها الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن جملة محاذير وتساؤلات تلازم المشروع متى كان معدّاً ليطبّق في بلد ذات تركيبة اجتماعية وثقافية متنوعة وفي نظام يقوم على المحاصصة الطائفية وفي ظلّ ابتعاد حلم الدولة العلمانية.
ولا يستطيع المرء أن يغفل، في ظلّ تجذّر الانتماء الطائفي، الاحتمالات الجادّة لتعامل الفئتين المسيحية والإسلامية على السواء بحذر وتحفّظ مع المشروع المقترح، كلٌّ منهما لأسبابها الذاتية.
والواقع، أنّ النظام المقترح قد لا يرضي المسيحيين ولو أعطى الرئيس صلاحيات واسعة وأبقاه مارونياً، إذا كان دورهم في اختياره محدوداً وشعروا أنّه إنتاج إسلامي في ظلّ هيئة ناخبة عامة ذات أغلبية إسلامية ولو متعدّدة المذاهب وكان خطابه السياسي مختلفاً عن خياراتهم.
وهنا يجدر التساؤل، إلى أيّ مدى كانت الغالبية المسيحية راضية عن رئاسة فؤاد شهاب وإميل لحود على الرغم من كونهما مارسا نفوذاً واسعاً في الحكم: الأول خلال الجمهورية الأولى وبموجب صلاحيات دستورية كبيرة، والثاني خلال الجمهورية الثانية وفي أثناء سنوات ولايته الأصلية قبل التمديد وبموجب دعم سوري؟
أمّا القول إنّ انتخاب الرئيس من طريق البرلمان هو أيضاً إنتاج إسلامي ما دامت غالبية أعضائه يفوزون بأصوات إسلامية فهو صحيح وفي محله... ولكن، من قال إنّ المسيحيين لم يذوقوا مرارات سياسية من انتخابات رئاسية سابقة ولا يشعرون الآن بقلق من أن يأتي الانتخاب الرئاسي المقبل مخيّباً لإرادة أكثريّتهم؟ غير أنّ البعض يتطلع إلى تصحيح نسبي لمشاركة المسيحيين في اختيار الرئيس بواسطة البرلمان من خلال تعديل قانون الانتخاب النيابي من جهة، وإلى أنّ موجب توافر نصاب الثلثين لجلسة الانتخاب الرئاسي والتفاهمات التي يستدرجها يفرضان مشاركة مسيحية معقولة في الاستحقاق من جهة ثانية.
وفي المقابل، قد لا يرضي المشروع المقترح المسلمين، في ظلّ الاصطفاف الطائفي الذي يهيمن على البلاد، لأنهم سيشعرون أنّ السلطة التنفيذية مختصرة بشخصية مارونية، في حين أنّ رئيس الحكومة المسلم والوزراء المسلمين (كما المسيحيين) مجرّد معاونين له، وهو أمر قد يخلق لديهم نفوراً واستياءً.
ويتعين القول إنّ المشاركة الغالبة والمرجّحة للمسلمين في انتخاب الرئيس شعبياً لن تكون كافية لإرضائهم لأنّ الطائفية المتحكمة في النفوس منذ عقود تجعل اللبنانيين لا يشعرون باكتمال الصفة التمثيلية للنائب أو الوزير أو الرئيس إلا متى كان من طائفتهم ولو كان لهم دور غالب في اختياره، ومردّ ذلك إلى أنّ المواطنين يظنون في عقولهم الباطنية أنّ وحدة الانتماء الطائفي بينهم وبين من يمثلهم تؤلف شرطاً لازماً (ولكن غير كافٍ) لمشاركته إيّاهم وحدة العقيدة والانتماء والمصالح. ثمّة رمزيّة أكيدة في هذه المسألة.
وهنا، يجدر التساؤل، إلى أيّ مدى يمكن أن يصبح النائب عباس هاشم، مثلاً، رمزاً أو زعيماً للمسيحيين مهما نال من تأييدهم في دائرة جبيل وكسروان، وإلى أيّ مدى يمكن أن يصبح النائب عاطف مجدلاني، مثلاً، رمزاً أو زعيماً للسنّة مهما نال من تأييدهم في بيروت؟
والواقع أنّ صحة التمثيل الطائفي تستوجب أن يكون الرئيس أو النائب منتخباً من هيئة ناخبة ذات أغلبية عددية للطائفة المعنيّة، أمّا رمزية التمثيل الطائفي فتستلزم توافر شرط آخر وهو وحدة الانتماء الطائفي بين الزعيم وناسه،... إلى أن يضمحل الاصطفاف الطائفي.
ثانياً: في الضوابط والبدائل:
ما دام نظام الطائف قاصراً عن بناء دولة عصرية، والنظام الرئاسي على قاعدة انتخاب الرئيس من الشعب يمكن أن يكون بديلاً صالحاً، فلا بدّ من التفكير في معالجة المحاذير التي تحوطه من خلال الآتي:
1 ــ تثبيت مركز رئاسة الجمهورية في ظل النظام المقترح للموارنة، لغاية بلوغ العلمنة الشاملة، وذلك كضمانة وعامل اطمئنان لدور المسيحيين في لبنان والشرق مهما تبدّل الواقع الديموغرافي من جهة، ومن أجل إبعاد الصفة الدينيّة عن العروبة من خلال وجود رئيس مسيحي في قمة الدول العربية بين زعمائها المسلمين من جهة ثانية.
2 ــ اعتماد ما أشار إليه الأستاذ عبدو سعد في مشروعه لناحية فرض حد أدنى من تأييد أصوات كلّ من الفئتين المسيحية والإسلامية من أجل فوز المرشح للرئاسة، ولكن على قاعدة أن يكون الحدّ الأدنى المطلوب عالياً ويقارب نصف أصوات المقترعين ويقترن مع تحديد نصاب لنسبة مشاركة الناخبين لدى كلّ من الفئتين المذكورتين تحت طائلة إبطال العملية الانتخابية، الأمر الذي من شأنه إزالة هواجس المسيحيين من احتمال تمكن المرشح من الفوز خلافاً لإرادة الأكثرية المسيحية.
3 ــ اتخاذ مجموعة من التدابير بغاية تخفيف حدّة التجييش الطائفي وتفكيك الاصطفافات المذهبية وتحويل الصراعات إلى انقسامات سياسية وحزبية ــ جبهوية على قاعدة البرامج والرؤى السياسية والإصلاحية وفاقاً لما كانت تمتاز به الحياة السياسية أيام الصراع بين الكتلة الوطنية والكتلة الدستورية أو بين الأخيرة والنهج، حيث كانت كلّ جهة تضمّ في صفوفها مسلمين ومسيحيين من كلّ المذاهب من دون إلحاق ولا تبعية.
ولا ريب في أنّ التقدّم في الاتجاه الإصلاحي المأمول من شأنه الإسهام في تجاوز الطائفية في النفوس.
ويندرج في سياق التدابير اللازمة إقرار قانون انتخابي على أساس النسبية يساعد بقوة على جعل الاصطفافات ذات طابع حزبي وسياسي، علماً بأنّ الأستاذ عبدو سعد من رائدي نظرية النسبية الانتخابية.
أمّا في حال تعذر اعتماد النظام الرئاسي وقاعدة انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب مباشرة، فلا مناصّ من إدخال تعديلات على الدستور المنبثق من اتفاق الطائف من أجل إعادة التوازن بين السلطات من جهة وإيجاد مرجعية دستورية داخلية مؤهلة قادرة على حسم فضّ الاشتباك وحسم المنازعات في ما بينها من جهة ثانية، مقترحاً لهذا الغرض تخويل رئيس الجمهورية صلاحيّة حلّ المجلس النيابي بموجب مرسوم رئاسي يصدره منفرداً ليصبح فعلاً لا قولاً قادراً على السهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه كما قضت المادة 49 من الدستور (وذلك من دون اللجوء إلى تعقيدات الاستفتاء في مثل المجتمع اللبناني)، فضلاً عن فرض مهل محدّدة على رئيس الحكومة والوزراء لتوقيع المراسيم التي يقرّها مجلس الوزراء مماثلة للمهلة المحدّدة لرئيس الجمهورية ووضع آلية ومخارج معينة لكيفية اتفاق رئيسي الجمهورية والحكومة على التشكيلة الوزارية.
وأعتقد أنّه آن الأوان لنخرج من هالة تقديس اتفاق الطائف وأن نقبل فكرة تطويره وأن نميّز فيه بين الثوابت المتعلقة بنهائية الوطن واستقلاله وسيادة الشعب والديموقراطية والحريات العامة والعيش الواحد المتنوّع بين اللبنانيين والمساواة بينهم ورفض أيّ هيمنة طائفية... من جهة، وبين النصوص الدستورية المتصلة بكيفية تكوين السلطات وإدارة الحكم التي يكون من الجائز دوماً مراجعتها في ضوء التجربة والحاجة من دون المسّ بتلك الثوابت من جهة ثانية.
* محام وكاتب سياسي