عصام نعمان *
تبدو أميركا هذه الأيام كأنها عملاق مريض. الواقع أنها كذلك بفضل قيادة جورج بوش. فالرئيس العنيد، المكابر بل المقامر، ماضٍ في حربه بلا هوادة. المزيد من ألوية الجيش سيدفع بها الى العراق بدعوى مساعدة حكومة نوري المالكي على إنهاء الحرب الطائفية في بغداد. المزيد من كتائب مشاة البحرية لمواجهة «المتمردين»، أي مجاهدي المقاومة، في فيافي الأنبار. المزيد من التدريب والتجهيز لقوات الشرطة العراقية كي تتسلم مهمات الأمن من قوات التحالف. المزيد من صواريخ «باتريوت» المضادة للصواريخ لنشرها في دول المنطقة بغية «طمأنة أصدقائنا وحلفائنا».
هكذا طوى بوش تقرير بيكر ــ هاملتون بلا تردد. لم يأخذ منه، شكلاً، سوى كلمتين: ضرورة التغيير. لكنه حصر التغيير في تقرير مزيد من الرجال والأموال والأسلحة لحربه المتعثّرة في بلاد الرافدين. السبب؟ لأن استمرار المواجهة بالقوات الحالية سيقود إلى الفشل، والفشل في العراق كارثة لأميركا وحلفائها.
الحقيقة ان الفشل حدث والكارثة وقعت. لكنها كارثة صغرى بالمقارنة مع الكارثة الكبرى التي يحاول بوش، بعناد، تفاديها. الكارثة الصغرى حجمها بمقاس العراق. الكارثة الكبرى حجمها بمقاس المنطقة كلها. بوش يعتقد أن الكارثة الصغرى ستقود لا محالة إلى الكارثة الكبرى. لذلك باشر مجازفة محسوبة لمواجهة أعداء أميركا في العراق والمنطقة في آن.
أجل، إن استراتيجيا بوش هي في جوهرها عراقية وإقليمية. أعلنها للرأي العام في أميركا ليباشرها جنرالاته في العراق وتعدّ لتنفيذها كوندوليزا رايس إقليمياً خلال جولتها على دول المنطقة.
أعـداء أميركا في العراق هم «المتمردون»، أي قوى المقاومة بشتى تلاوينها، بالإضافة الى خلايا «القاعدة» و«فرق الموت». لعل في مقدم هؤلاء «جيش المهدي» المعقود اللواء للسيد مقتدى الصدر. يبدو أن رأسه مطلوب لسببين: إخراج منظمته من الحرب المذهبية التي تمزق بغداد، وسوقه إلى «العملية السياسية» تحت طائلة اغتياله. أليس هو وجماعته، وفق إعلام أميركا وتوابعها، مَن أصروا على إعدام صدام يوم العيد وأساؤوا معاملته وهو في طريقه إلى منصة المشنقة؟
أعداء أميركا في المنطقة هم إيران وحلفاؤها. في مقدم هؤلاء سوريا، و«حماس» و«الجهاد الإسلامي» في فلسطين، وحزب الله في لبنان، و«المحاكم الإسلامية» في الصومال. بوش تبنّى مقولة نائبه ديك تشيني بأن إيران أقامت حلفاً بصيغة «هلال شيعي» يضمها وسوريا ومنظمات المقاومة في فلسطين ولبنان. في مقابل هذا الحلف المزعوم سعت وتسعى كوندوليزا رايس إلى إقامة «حلف المعتدلين» من الدول المنتجة للنفط زائد مصر والأردن. المطلوب ان يساند «المعتدلون» حرب أميركا على «المتطرفين» بالسياسة والمال والعتاد. إنهم مطالَبون بذلك لأن فشل أميركا في العراق، كما قال بوش في خطابه الأخير ، هو كارثة أميركية ستقود إلى كارثة إقليمية تضرب حلفاءها «المعتدلين» جميعاً.
ماذا يعني هذا كله؟ يعني اعتزام أميركا تعميم الحرب في العراق على المنطقة كلها في محاولة مستميتة لاقتلاع بؤر المقاومة بما هي تعبير عن الإرهاب الذي بات في مفهوم بوش مرادفاً للإسلام.
هل ينجح بوش في حملته الجديدة؟
ثمة ثلاثة معوّقات من المرجّح أن تحبط مجازفته الفظة:
أول المعوّقات رهانه المتعجل على حكومة المالكي وبقية حلفائه المتعثرين. هؤلاء جميعاً ضعفاء ومنقسمون على أنفسهم ولا يثق بهم العراقيون. جرّبتهم أميركا مدى ثلاث سنوات فبرهنوا على أن ما من شيء يفشل كالفشل نفسه. إنهم عنوان الفشل وتجسيده الحي في بلاد الرافدين.
ثاني المعوقات رهان بوش الخاسر على احتمال تغيير رأي غالبية الأميركيين بإدارته المتعثرة. والحال أن الأميركيين قالوا كلمتهم فيه وفي إدارته خلال الانتخابات النصفية الأخيرة وأعطوا خصومه الديموقراطيين غالبية مريحة في مجلسي النواب والشيوخ. ثم أعلنوا في آخر استطلاع للرأي ان نحو 61 في المئة منهم لا يثقون بإدارته ويطالبون بانسحاب القوات الأميركية من العراق. وأكد 72 في المئة منهم ان الاستراتيجيا التي أعلنها بوش أخيراً لا تتضمن تغييراً جوهرياً.
بوش العنيد سيسبح إذاً ضد التيار على نحوٍ يعيد إلى الأذهان مشاهد السخط الشعبي على إدارتي الرئيسين جونسون ونيكسون خلال حرب فيتنام. أليس لافتاً ان يقف السناتور ديك دوربن ليعلن، بعد دقائق معدودة من انتهاء خطاب بوش، معارضة الديموقراطيين لخطته القاضية بزيادة عديد القوات الأميركية في العراق بأكثر من عشرين ألف جندي: «إنها زيادة قليلة جداً بحيث لا يمكنها حسم الحرب وكثيرة جداً بحيث تتيح التضحية بكثير من الجنود»! ثم أليس لافتاً أن يعلن النائب البارز عن ولاية أوهايو دينيس كوسينتج ان حملة بوش الجديدة ستكلف الاقتصاد العالمي 2 تريليون دولار خلال سنة واحدة!
ثالث المعوّقات رهان بوش على حلفاء أميركا الإقليميين. هؤلاء لا يمكن التعويل عليهم في تسويق الزعم القائل بأولوية الخطر الإيراني على الخطر الإسرائيلي لأنهم، شأن حلفاء أميركا العراقيين، ضعفاء ومنقسمون على أنفسهم ولا يثق معظم شعوبهم بهم أو بقدرتهم على حماية الحقوق والمقدسات. لقد جرّبتهم شعوبهم منذ النكبة الثانية عام 1967 وبعدها فما أفلحوا في حلفهم المشبوه مع أميركا، ولا تمكّنوا من وقف التمدد الصهيوني السرطاني، أو وقف التدمير الأميركي المنهجي للعراق قبل احتلاله، أو وقف التدمير الشامل لبنى لبنان التحتية خلال الحرب الإسرائيلية العدوانية ومحاولة إشعال فتنة مذهبية بين السنّة والشيعة، أو وقف العدوان الأميركي على الصومال، بوكالة أثيوبية، الرامي إلى تكريس احتلاله وتقسيمه.
لعل أقصى ما يرتجيه العرب الأحياء من حلفاء أميركا الإقليميين أن يفتحوا عيونهم وعقولهم ليدركوا حجم الكارثة التي يدفع بوش بلاده والمنطقة إليها. إذا فعلوا أدركوا ان أضعف الإيمان هو البقاء بمنأى عن مغامرات هذا الرئيس الأميركي المكابر والفاشل ومخاطرها على ما تبقّى من حقوق وموارد للأمة، وما تبقّى لحكامها من شرف وسمعة.
* وزير لبناني سايق