عبد الحليم فضل الله *
تمنحنا التجربة اللبنانية، وهي غنية بما يكفي، فرصة التأكد من أن بطء نمو النظام السياسي يبدد فوائد الحريات المتاحة، ومن بين هذه الفوائد تحفيز الاتجاهات الجديدة وضمانة تقدمها، ويمتد حبل الأسباب إلى أبعد من ذلك، كما هي حال الفصل بين البعد السياسي للحرية وأبعادها الأخرى، والنظر إلى وجودها أو عدمه من منظار حقوقي صرف لا من منظار اجتماعي وتاريخي متكامل.
على الرغم من ذلك، تمتع لبنان بمنسوب لا بأس به من الحريات هو مدعاة للإعجاب ومصدر حيوية فريدة، لكن هناك علامات مقلقة، ففي الوقت الذي تزدهر فيه الحريات عالمياً تشهد في لبنان انتكاسات خطيرة، وميل مطّرد إلى التراجع، وقد يدل ذلك على أن الجمود السياسي الذي أثّر في مراحل ما قبل الحرب الأهليّة على فعالية الحرية ونأى بها عن أن تكون ناظماً للعقد الاجتماعي، بدأ يحدّ من أثرها في الهوامش المسموح بها، وخصوصاً الفرد في مواجهة السلطة الخفية للجماعات الأهليّة. سنلاحظ أيضاً إرهاصات فصلٍ بين الحريات الثلاث السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ففيما تتراجع الأولى والثانية بإيقاع واحد تقريباً تجني الأخيرة مكاسب إضافية مستفيدة من الهدم المنظم لقوة الدولة.
نحن إذاً أمام نموذج فريد نسبياً، حريّة التعبير فيه مكتفية بنفسها وخارج نسق سياسي مترابط، ولا تكاد تؤدي مهمة محددة. الإيجابي في الأمر هو أنها ذات خلفية اجتماعية راسخة نسبياً، مكّنتها من الصمود في وجه الحروب والتدخلات الخارجية وسياسات الهيمنة، لكن ذلك لم يمنع من تحولها إلى تعبير سلبي عن ضعف النظام وامتداد ساكن لعجزه الذاتي. ومع مرور الزمن تغدو الحريات المميزة للبنان عن جواره، ميزة ثانوية ترتبط بقوة التقاليد الضامنة لها وفعالية أدوات التعبير التي تتخذها الجماعات اللبنانية في إشهار هويتها وإثبات وجودها، وفي بعض الحالات أصبحت مجرد تكتيك مبتذل في النزاع الداخلي مع ضمور مستمر في أهميتها كركيزة تأسيسيّة وأداة تحريك للطاقات الكامنة.
الحريات المعوّل عليها في المقابل، هي التي في مقدورها كسر الجمود والمساعدة على الإفلات من هيمنة قوى الثبات والتقليد، واستيعاب التحولات الاجتماعية الإيجابية وتمثيلها أفضل تمثيل داخل النطام السياسي. إنها إضافة إلى ذلك شرط ضروري لتطوير الصلات بين العناصر الفاعلة في المجتمع وفي إحداث النقلات المعرفية وتعميمها. بكلمة أخرى، إن اكتمال دورة التأثير التي تطلقها حرية الرأي يفترض انتظام وظائفها في سياق مبادئ التحرر السياسي الأخرى كالتعددية والتنوع، والحقوق الفردية، ومناوأة الهيمنة وإلاّ غدت سبباً في تصعيد التوتر وتقويض الظروف اللازمة لاستتبابها.
قد تكون التجربة اللبنانيّة مثالاً على صحة الربط بين الديموقراطية والتحديث الاقتصادي الاجتماعي (من دون القول بالضرورة بأنها علاقة سببيّة أو ذات اتجاه معين)، لكن هذا التحديث لم يكن في مصلحة قيام علاقات داخلية متوازنة ومتكافئة، فبات التقويض الدوري للاستقرار عامل حسم مكلف من المكاسب المتأتية من وجود الحريات. إن صمود حرية الرأي في لبنان هو شهادة للديموقراطية اللبنانيّة، لكن ما ليس في صفّها أنها عجزت عن التغلغل في النسيج الداخلي للمجتمع والتأثير هناك في الأسباب العميقة التي تتسبب بتكرار الأزمات.
تشكو الحريات في لبنان إذاً من مشكلة وظيفة لا من مشكلة منع، فهي لم تدخل تعديلاً يذكر على مكانة القوى الاجتماعية المرجو منها تحسين أداء النظام السياسي، فبقي اقتسام الثروة والسلطة مفتقراً للعدالة، ولم تترافق حرية الوصول إلى المعلومات معطوفة على تنمية بشرية لا بأس بها، مع تحسين الأداء العام وتعزيز الرقابة المجتمعية، ولم تؤدِّ إلى زيادة الخيارات المتاحة أمام المجتمع، بحيث يصبح تداول السلطة حقيقيّاً وليس شكليّاً كما هي الحال اليوم، وتظلل هذه الحرية مفارقة أخرى هي عدم وجود رأي عام، وفشلها في توفير شروط تشكّله.
إنّ أزمة الفاعلية تلك، ناشئة من المهمة المركزية الموكلة للحريات العامة وخصوصاً حريّة الرأي، وهي التعويض من عيوب الديموقراطية اللبنانية وشوائبها، فتتولى امتصاص النتائج السلبيّة والخطيرة لبقاء اللبنانيين كل هذا الوقت تحت رحمة نظام انتقالي غير قوي وذي قاعدة اجتماعية ضيقة. وبما أن الأمر كذلك هل في وسعنا القول إننا أمام أسطورة حرية تنشئ حقوقاً وهميّة؟
لنميّز هنا بين الحريّة البنّاءة والمكتسبة نتيجة صراع تاريخي مع القوى التي تسلبها، وبين الحريّة الناشئة من فراغ السلطة، الناتج بدوره من ضعف أدوات الهيمنة وعدم استكمال البناء السياسي والاجتماعي للدولة.
في لبنان الذي تتطابق أوضاعه مع الخيار الثاني، قامت الحريّات السياسيّة على أساس تعزيز حقوق الجماعات في مقابل السلطة الرسميّة وفي الوقت نفسه الانتقاص من حقوق الفرد في مقابل الجماعات، أي إنها ملأت فراغات السلطة سواء بين المجتمعين السياسي والأهلي، أو بين مكونات المجتمع الأهلي نفسه. ولعل اتساع هوامش الحريّة تارة وتقلّصها تارة أخرى هو نتيجة تذبذبات العلاقة بين الطوائف والدولة، وما بين الفرد والجماعة. وفي أفضل الأحوال فإن حرية التعبير في لبنان هي ممارسة جماعيّة تتعلق بتأكيد الانتماء، لكن مع تحديد منقوص لمجالاته، حيث تسود عناصر الانتماء التقليديّة فيما تتضاءل العناصر الأخرى المنبثقة من علاقات الشراكة المدنيّة والإنتاجيّة.
وتظهر هشاشة المضمون التأسيسي للحريات في لبنان على أكثر من صعيد. في المجال السياسي لم تنجح في تجديد الدولة عبر إعادة نظر جذرية في بناها الاجتماعية ووظائفها السياديّة، فبقيت أسيرة قصورها الذاتي، فلا هي قادرة على أن تكون دولة سلطويّة عاتية كما في محيطها، ولا هي أصبحت دولة قانون ومؤسسات، يجمع بين مكوناتها التعاقد الحر والمشاركة في تحقيق المصلحة العامة. وفي كل مرة مالت الدولة إلى هذه الناحية أو تلك اهتزت أركانها واضطربت دعائمها.
وعلى أهمية القسط الوافر من الحريّة الذي ناله لبنان، لم تدفع الممارسة إلى إحلال المواطنية محل الزبائنيّة والتعصب، ولم تزد من مستوى التزام القيم السياسيّة المعوّل عليها في إرساء دعائم الدولة المعاصرة. بينما أنشأت المقاربة الاجتماعية المنقوصة لحرية التعبير حداثة أحادية الجانب، حيث الهيمنة المتبادلة والتفاوتات الخطيرة والانطواء الداخلي في مقابل الانفتاح غير المشروط على الخارج والتحلل المتكرر من الالتزامات الوطنية الكبرى.
في المقابل، أظهرت تجارب التحرر التي مر بها لبنان، أن من الممكن توظيف الحريات العامة المتاحة في إطار مشروع وطني هادف. هذا ما يتبيّن على الأقل من تجربة المقاومة، فبالحرية تمكّن المجتمع من إحداث التكيّف الاجتماعي والسياسي والثقافي النوعي مع متطلبات المقاومة، وبها سيكون في الإمكان تكييف الإنجازات لتصبّ في مجرى الإصلاح والتنمية ومحاربة الفساد ونبذ التبعية. لكن الحديث عن مشروع تحرر شامل ما زال بعيد المنال، فهو يستدعي تحرراً معرفياً موازياً، يسمح بإيجاد «إيديولوجيا» بديلة للإيديولوجيا التقليدية المسوّغة لوجود لبنان، والمرتكزة على رؤية لاتاريخية لكيانه ودوره، وينتظر لهذا التحرر المعرفي أن يعيده دولة طبيعيّة لا ترهقها قوة الأساطير ولا كثرة المسلمات.
نجحت الحريات في لبنان في ملء فراغات النظام السياسي لكنها لم تحفر عميقاً في العقل الجماعي، فتزيد من وعيه لطبيعة المأزق الذي يعوق مسيرة الدولة، ويمنعها من تحقيق الغايات التي من أجلها وجدت وعلى رأسها تحقيق الاستقرار والتنمية وضمان العدالة. وتعلّق آمال كثيرة على الحرية لتحريك السكون، الذي امتد نتيجة ذلك من السياسة إلى المجتمع. لكن الحرية المقصودة هنا هي حق فردي وفي الوقت نفسه فعل اجتماعي من أهدافه نزع كوابح التقدم وهدم العناصر غير العقلانيّة، وإتاحة الفرصة لتقويض أنظمة القمع والزجر في السلطة وخارجها. ومن دون بلوغ هذه الأهداف تظل آراء الأفراد التي تتيح لهم الحريّة الإفصاح عنها، تعبيراً موارباً عن رأي الجماعة، يلتزم قيود العقل التسلطي الذي يدير من مكان خفي المجتمع ومن خلفه السياسة، ويتأثر بقوى الهيمنة التي تحتكر إما الموارد والثروة وإمّا المعلومات و«المعرفة»، أو تستفيد من شرعيّة متوارثة لا تخضع للمساءلة وتستند إلى تاريخ مديد من القمع المتراكم.
نحن إذاً أمام مفهوم واحد بدلالات مختلفة، وتحديداً أمام فهمين متعارضين للحرية، حرية الجماعة في إبراز التنوع في مقابل السلطة النظاميّة، مع تقليص حرية الفرد في مقابل الهيمنة غير المعلنة للجماعة، وحرية الفرد في مواجهة الجماعة مع التقليل من أهميّة حق هذه الأخيرة في إشهار تمايزها.
وإزاء فشل هذين الفهمين في إحداث صدمة التغيير المرجوّة، ينبغي مغادرة الفهم الأحادي للحرية إلى الفهم المتنوع. إنها ليست فقط ممارسة عابرة في وجه السلطة، بل وسيلة تحرير للضمير الإنساني أو ما يسميه سارتر «ما فوق الأنا»، والفكرة النواة التي يبني عليها الاجتماع الانساني فكرة الدولة، وركن من أركان التنظيم الاجتماعي الحديث (روسو). هي إذاً ممارسة جوهريّة في مقابل السلطة السياسيّة، لكنها تواجه أيضاً سلطة النماذج المهيمنة التي تحرسها قوى اجتماعيّة قادرة، وهي فعل وجود في الصراع ضد التبعيّة والهيمنة «من أجل بناء دفاعات حضارية فعالة» (شايغان)، سواء كان ذلك على قاعدة التفاعل وهو ما نميل إليه، أو على أساس التنابذ والمفاصلة.
إنّ اتساع دائرة التعبير عن الرأي، الذي نشهد موجة وطنيّة جديدة له، هو بداية تغيير جدي في فهمنا الحرية وتعاملنا معها، ربما انتهى إلى إعادة تعريفها على أساس صراعي وكفاحي، فتكون مدخل تجديد دائماً عوضاً من أن تظل واقياً للصدمات وآلية محدودة لاستعادة توازن نظام سياسي/اجتماعي غير متوازن بطبيعته.
* باحث وكاتب لبناني