زياد حافظ *
السجال المتواصل قبل وخلال وبعد الحرب الإسرائيلية على لبنان حول المقاومة وسلاحها سجال يخدم فقط السياسة الأميركية والمصالح الصهيونية. فالتشكيك بقدرات المقاومة وجدواها وفعاليتها من حيث المبدأ والتطبيق كان وراء البيان الوزاري الذي صدر عشية اختطاف الجنديين الإسرائيليين وأسرهما. فهناك في لبنان وفي بعض الدول العربية من راهن على انهيار المقاومة خلال بضعة أيام وبنى مواقفه السياسية على تلك الفرضية الوهمية. فكانت الرياح بما لا تشتهي السفن. فالصمود الأسطوري للمقاومة فاجأ فقط التحالف الأميركي الصهيوني وأتباعهم الدوليين والإقليميين، وأرباب ثقافة الهزيمة في الوطن العربي ولبنان. فالغرور والغطرسة عند القوى الفاعلة دولياً، والجهل عند الأتباع إقليمياً ولبنانياً، وقلة الثقة بالنفس عند أصحاب ثقافة الهزيمة ساهمت في عدم فهم كل منهم للوقائع وفي إساءة التقدير من قبلهم، وارتكابهم الأخطاء والخطايا المتنوعة.
وإن النجاح الكبير للمقاومة لم يأت من الفراغ، بل هو نتيجة ثقافة عريقة تعود إلى فترة النهضة العربية في القرن التاسع عشر مروراً بحقبة التحرير الوطني من الاستعمار الغربي الذي عمّ معظم الأقطار العربية بعد الحرب العالمية الأولى، التي تجلّت بالمد القومي في الخمسينيات والستينيات. وإن التجارب العديدة والمريرة التي مرّت بها المنطقة العربية كوّنت معرفة خاصة بشكل تراكمي أثمرت في نشوء حركات مقاومة شعبية في كل من فلسطين المحتلة والعراق ولبنان. والمقاومة في لبنان هي الوريث الروحي والمادي لما مثّلته الثورة الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات مستفيدة من سلبيات ونجاحات تلك التجربة.
فغياب الدولة في لبنان بمفهومها الحقيقي وخاصة لجهة المسؤولية عن حماية الوطن والمواطن وتقديم خدمات أساسية للمواطن وتلزيمها مسألة التحرير من الاحتلال ساهم في حتمية المقاومة والدور الذي مثلته عند شرائح واسعة من اللبنانيين. إن تلك الظاهرة هي التطور الطبيعي لتمرد شعب على الظلم المتراكم الذي لحق به سواء على يد العدو الصهيوني، أو نتيجة التركيبة السياسية الفاسدة للنظام الطائفي المعطِّلة لدور الدولة.
بالمقابل، إن نجاح حزب الله في الصمود وبالتالي في تحقيق الانتصار مرتين على العدو الصهيوني وحلفائه الدوليين وأتباعهم إقليمياً ومحلياً، هو محصلة عدة عناصر ستفرض واقعها على الساحة اللبنانية والعربية في المستقبل. تلك العناصر تتلخص بوجود قيادة صاحبة رؤيا واضحة وتتمتع بمناقبية وسلوك نادرين وبكاريسماتية متكاملة شكلاً ومضموناً، مكّنت من إنشاء تنظيم شديد التماسك منضبط إلى أبعد الحدود، تنظيم التفّت حوله قاعدة شعبية واسعة وحظي بتقدير لدى كثير من القوى الأخرى وبالاحترام لدى الخصوم، وبالهيبة تجاههم. وقد فاضت هذه المناقبية وكثير من الصفات الأخرى على القيادات السياسية والميدانية والسياسية وعلى مختلف مستويات الكوادر، وتجسّدت في تعبير صريح وشفّاف عن مواقفها، وبانضباطية في عدم الانجرار إلى المعارك الجانبية والهامشية.
وأخيراً، فإن جوهر مشروع المقاومة في لبنان، وما تتحلّى به قياداته من مناقبية وعقلانية في السلوك والثبات في الالتزام، يؤهله لأن يكون الوجه الراهن والمستقبلي للمشروع العربي النهضوي الوحدوي.
وإذا كان من المبكر إعطاء صورة كاملة وواضحة عن جميع التداعيات الممكنة للحرب العدوانية على لبنان فيما غبار الحرب ما زالت تلوّث وتحجب المشهد اللبناني والإقليمي والدولي، إلاّ أن ما يمكن قوله هو أن المرحلة السياسية الراهنة هي مرحلة انتقالية بامتياز، بانتظار حسم الوضع اللبناني الداخلي وتوضيح ملامح التطورات الإقليمية المرتقبة واكتمال تراجع المشروع الإمبراطوري الأميركي في المنطقة أو التحضير لجولة ثانية بسبب عدم رضى التحالف الأميركي الصهيوني عن النتائج الميدانية للحرب.
ويمكن أن يكون الموضوع الأبرز من زاوية السجال القائم حالياً في لبنان هو مدى تأثير الحرب على الوحدة الوطنية، أي على الركيزة الأساسية للصمود تجاه العدوان. لا يختلف الخطاب السياسي في لبنان بعد 12 تموز عما قبله بل ساهمت الحرب في توضيح معالمه بشكل قاطع. فالحوار الوطني الذي بدأ في ربيع 2006 تطرق بشكل مباشر إلى أهم قضية سياسية في حياة لبنان ألا وهي هويته ودوره في المنطقة:
صحيح أن اتفاق الطائف أنهى معالم الخلاف ظاهرياً على هوية لبنان العربية، إلا أن مفهوم عروبة لبنان ارتبط لدى معظم القوى، في الحكم وخارجه، بمفهوم النظام الرسمي للعروبة وبخيارات النظام الرسمي لمفهوم الصراع مع الكيان الصهيوني. ولا بد من التأكيد أن الاتفاق على عروبة لبنان لم يلغ الثقافة الطائفية السائدة قولاً وفعلاً ما قبل الطائف وبعده، إنما، على العكس من ذلك، الاتفاق كان اتفاقاً على تهميش العروبة. فالنظام العربي السائد آنذاك واليوم كان وما زال يعمل على إلغاء الخطاب القومي العربي. ويتمثل ذلك في الدعوة إلى «القطر أولاً». أما حزب الله والمقاومة فقد أعادا، بموازاة خصوصيتهما الإسلامية، مفهوم العروبة إلى سياقه الصحيح عبر إعادة الاعتبار إلى مركزية القضية الفلسطينية في الوجدان العربي وضرورة إيجاد استراتيجيا دفاعية للبنان تجاه المطامع والنيات العدوانية الصهيونية التي هي من صميم العقيدة الصهيونية. فطرح قضية الاستراتيجيا الدفاعية تحدد في مضمونها وفي شكلها هوية لبنان وموقعه من الصراع العربي الصهيوني وتحسم قضية مصير سلاح المقاومة. أما مفاصل ذلك الموقف فهي:
أولاً ــ الفرضية الأساسية التي تنبع من هذه المفاهيم، والتي تبيَّن صوابها في الماضي والحاضر، هي أنه لا يمكن الاتكال على نيات إسرائيل ولا على ضمانات الدول الكبرى. وقد أتت الحرب العدوانية الإسرائيلية وحجمها ليبيّنا للقاصي والداني أن تلك الحرب كانت مدبّرة ومخططاً لها منذ أكثر من خمس سنوات كما بيّن الصحافي الأميركي سايمور هرش في مجلة «نيويوركر» في عدد 20/8/2006، وأن إسرائيل لا يمكن أن تعيش في سلام إلا وفقاً لشروطها، وأن مواقف الدول الكبرى المؤيدة لإسرائيل أطاحت أكذوبة «الصداقة» الغربية للبنان. وما رافق كل ذلك من تردد مما يسمىّ المجتمع الدولي في فك الحصار عن لبنان ووقف انتهاكات إسرائيل لقرار مجلس الأمن 1701 إلا دليلاً على ذلك. أضف إلى ذلك تلكؤ الكونغرس الأميركي في الموافقة على صرف المساعدات التي أقرتها الإدارة الأميركية للبنان بقيمة 280 مليون دولار وعدم ضغط الإدارة عليه يؤكدان عدم جديّة الإدارة في مساعدة لبنان. أما الطروحات البديلة التي قدّمتها القوى السياسية اللبنانية المعارضة لسياسة حزب الله ولسلاحه في مؤتمر الحوار الوطني فقد سقطت أثناء العدوان ـ وكانت ساقطة قبله ـ وذلك بفعل مبدأ العدوان نفسه وشكله وحجمه وسياقه وبفعل تلكؤ المجتمع الدولي و«أصدقاء» لبنان (منهم من تلقّى «درعاً» تعبيراً عن الوفاء لتلك الصداقة!) عن العمل لوقف العدوان، حتى لا نقول «عن الامتناع عن تغطية العدوان من بعضهم ودعمه من بعضهم الآخر». وحتى بعد العدوان هناك من «أصدقاء» لبنان من يعتبر أن مهمة «اليونيفيل» في لبنان هي أساساً لحماية إسرائيل! وليست بالضرورة الحفاظ على مصلحة لبنان.
ثانياً ــ إن الاستراتيجيا الدفاعية تفرض إعادة النظر في مجمل السياسات الأمنية والاقتصادية والعمرانية لتوفير الصمود وردع العدو، وما يرافق ذلك من شبكات ملاجئ ومستشفيات ونشاطات اقتصادية ذاتية توفّر الارتباط بالأرض على كل الأراضي اللبنانية. ففي ظل عدم التكافؤ بين إسرائيل ولبنان، لا بد من جعل أي مغامرة إسرائيلية مكلفة للغاية سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وأخلاقياً ومعنوياً كما حصل في الحرب الأخيرة، وأكثر. والسياسات الأمنية والاقتصادية والعمرانية تعني ضرورة تحويل لبنان إلى مجتمع مواجه ومقاوم لا إلى معلف اللبنانيين وملهى الأثرياء العرب (بالإذن من الدكتور ألبير منصور). ومن الطبيعي أن تعارض قوى لبنانية ذلك الطرح لأنها تستفيد من التركيبة الطائفية المذهبية ومن اقتصاد ريعي يأتي من العمق العربي.
ثالثاً ــ إن عدم قيام الدولة تاريخياً بواجبها الأساسي بحماية الوطن والمواطن يعود إلى عدة عوامل منها سياسية واقتصادية. فالعامل السياسي مرتبط بالبنية السياسية الهشة التي لم تحسم منذ الاستقلال من هو العدو وبالتالي ما هي الإمكانيات المتوافرة لحماية الوطن والمواطن، فكانت الطروحات المعروفة أن «قوة لبنان في ضعغه» وأن الضمانات الخارجية هي التي تحمي لبنان وأن لبنان قدره أن يكون محايداً في الصراع مع الكيان الصهيوني. أضف إلى ذلك عدم الرغبة في تحمّل أعباء الدفاع وخاصة الدفاع الجوّي. أذكر في هذا السياق قضية صواريخ «الكروتال» الدفاعية في مطلع السبعينيات من القرن الماضي التي غُضّ النظر عنها بسبب الفضيحة التي رافقتها وبسبب الضغوط الغربية المعارضة تزويد لبنان بشبكة صواريخ دفاعية. ثمّ اندلعت الحرب الأهلية. والسؤال المطروح هو: هل يسمح للدولة اللبنانية ببناء شبكة دفاعية جويّة فاعلة؟ الجواب في أغلب الظن سيكون لا! أما السبب الاقتصادي، إضافة إلى الكلفة العالية التي لا تريد أن تتحملها النخب الحاكمة، هو كون الانخراط في سياسة دفاعية جدية يعني إعادة النظر في عدد من الأمور وخاصة تلك التي تتعلق بالبنية الاقتصادية والدور الوظيفي للبنان كما تتصوره تلك النخب. فلبنان بنظرهم دولة خدمات وملهى وليس دولة مواجهة، ويعود ذلك إلى التركيبة الطائفية وتقاسم المغانم التي تأتي من الخارج وخاصة من الدول العربية. والحقبة الماضية التي امتدت منذ أوائل التسعينيات حتى اغتيال الرئيس رفيق الحريري كانت مبنية على مراهنة (خاطئة في نظرنا) بأن السلام قادم إلى المنطقة وأن دور لبنان في تقديم الخدمات للدول العربية عامة والنفطية خاصة يتطلب سياسات اقتصادية تسهّل الاستثمار العقاري والمالي على حساب القطاعات المنتجة، بل إن لبنان هو إحدى الحلقات لتدوير الريع المالي الناتج من الطفرة النفطية. واتبعت الحكومات المتتالية التي رأسها الرئيس المغدور، بمشاركة رئيس الوزراء الراهن ووزير المالية آنذاك وحاكم مصرف لبنان ورعاية سورية، سياسات اقتراض من الداخل ومن الدول العربية النفطية وفقاً لمعايير تتنافى مع المنطق الاقتصادي (أي الاقتراض على فترات قصيرة الأجل جداً لتمويل مشاريع طويلة المدى، وتثبيت سعر الصرف الذي أدى إلى تحويل المدخرات اللبنانية إلى نشاطات غير منتجة بسبب الفوائد العالية التي لا يبررها أي منطق اقتصادي)، كل ذلك أدّى إلى تراكم دين عام وصل إلى مستويات قياسية شّل أي نشاط تنموي قبل 12 تموز 2006. في كل حال فإن ما جرى على هذا الصعيد كان «يتلاءم» مع النظام السياسي والاقتصادي المعمول به في لبنان منذ الاستقلال حتى بعد الحرب الأهلية، الذي لم يلحظ في أي يوم رؤية سياسية للدفاع عن الوطن بشكل فعلي. وقد أسهم هذا الواقع في جعل النخبة الحاكمة في لبنان على توافق مع المطلب الأميركي الإسرائيلي في قضية نزع سلاح حزب الله.
رابعاً ــ إن معارضة سياسة دفاعية تحمي لبنان بقدراته الذاتية ترتكز على الموقف العربي العام المسمى «خيار السلام» الذي تمثّل بقـراري القمـة العربية عامي 1995 و2002 في كل من القاهرة وبيروت. فكان الردّ الإسرائيلي بمنتهى الوضوح عام 2002 عبر اجتياحه جنين وقيامه بمجازر بينما كانت القمة العربية منعقدة في فندق الفينيسيا. وإن طرح القوى المناهضة للسياسة الدفاعية لحزب الله أن لبنان لا يمكنه أن يتحمّل بمفرده وزر الصراع العربي الصهيوني ما دامت «الجبهات» العربية هادئة، وذلك غمزاً من موقف سوريا. يشكل ذلك الطرح ما يعتقدونه الرد على التشكيك بوطنية وعروبة كل من يناهض السياسة الدفاعية المقترحة من قبل حزب الله. وبالتالي يُصوّر أي طرح دفاعي بأنه غطاء لخدمة طرفين إقليميين هما سوريا وإيران، إضافة إلى القول الجديد بعدم جواز القيام بـ«مغامرات غير محسوبة»، وفقاً لما جاء على لسان المسؤولين المصريين والسعوديين والأردنيين. وليس بيان الحكومة اللبنانية في 12 تموز الذي أعلن عدم مسؤوليته عن أسر الجنديين الإسرائيليين إلا تعبيراً عن تلك المواقف المعيبة للنظام العربي وبعض الفئات اللبنانية.
خامساً ــ إن السياسة الدفاعية هي الخطوة الأولى لتحويل لبنان من دولة الحاجز إلى دولة قائمة بحد ذاتها. وقضية «دولة الحاجز» ستعالج في مقال لاحق.
إذاً يمكن القول إن الاستراتيجيا الدفاعية المطروحة تشكّل صيغةً للدفاع عن لبنان في غياب دولة مركزية تقوم بدورها، وثقافةً شعبية متجذرة تتعلّق بالعداء المحقّ للكيان الصهيوني وما يمثله من ظلم وتعدّ في نياته المعلنة والمبيّتة تجاه لبنان والقضية الفلسطينية. إن تلك الاستراتيجيا هي التجسيد الصحيح لمقاومة فعلية ترسخ ثقافة تتنافى كلياً مع الطرح الفكري والثقافي للمشروع الأميركي الصهيوني. وبالتالي ما دامت المعركة مع العدو الصهيوني لم تحسم بشكل نهائي سلباً أو إيجاباً فلا بد من توقع جولة جديدة من الحروب والاعتداءات قد تأخذ طابعاً مماثلاً أو مختلفاً في الشكل والحجم عن المواجهة الأخيرة. فهناك عدد كبير من المعلّقين الأميركيين والإسرائيليين يرفضون النتائج المادية والسياسية للحرب على لبنان وخاصة ما سمي الإخفاق الاستخباري الأميركي والإسرائيلي عن حزب الله. وإن هناك ضرورة «تصحيح» صورة وهيبة الجيش الإسرائيلي بعد سوء أدائه في لبنان. فمقال إدوارد لوتفاك في صحيفة «جروزالم بوست» في 20 آب 2006 نموذج لما يمكن قراءته في الصحف الإسرائيلية والأميركية. وأيضاً مداخلة طوني بلاكي، المحرر السياسي في صحيفة «واشنطن تايمز» اليمينية والصهيونية المواقف، في برنامج أسبوعي «مجموعة ماكلوكين» التي تجمع عدداً من المعلقين المرموقين الأميركيين ذوي العلاقات الحميمة مع مصادر القرار في الإدارة الأميركية. ولذلك الجدل السياسي حول هوية لبنان ودوره في الصراع العربي الصهيوني والمشاريع التي تعدّها الإدارة الأميركية سيستمر أقله إلى ما بعد تحديد دقيق وواقعي وموضوعي لموازين القوى الداخلية عبر انتخابات برلمانية جديدة قبل نهاية ولاية البرلمان الراهن. وفي اعتقادي أن الانتخابات المنشودة ستؤدي إلى تغيير بنية، نفترض ضرورة إجرائها، «الأكثرية» و«الأقلية» في البرلمان الجديد وستنتقل الأكثرية إلى قوى سياسية أكثر انسجاماً مع مقتضيات التحرير والدفاع عن الوطن والمواطن ومكافحة الفساد وبناء الدولة الحديثة التي توفر لمواطنيها التنمية والرفاهية. لذلك أعتقد بأن الوحدة الوطنية ستصمد على رغم كل التدخلات الأجنبية في الشؤون الداخلية لأن صدقية ما يسمّى «الأكثريين» مهزوزة ولأن خطابهم السياسي يفقد المضمون الذي يمكن أن يستهوي اللبنانيين.
*كاتب عربي لبناني مقيم في الولايات المتحدة