أمل سعد غريّب*
يبدو أن حزب الله يقدّر أن دور الجيش اللبناني سيكون حماية حدود لبنان وليس حماية حدود إسرائيل، وهو ما برز في تأكيد نصر الله الأخير أن الجيش اللبناني ليس «قوات تعمل بإمرة الأعداء»، فضلاً عن كلام فنيش على أن «دور الجيش لن يكون حماية إسرائيل ولن ينتشر وفق الحاجات الأمنية الإسرائيلية».
في الواقع أن حزب الله لم يربط بين مسألة نشر الجيش اللبناني في الجنوب وقضية نزع سلاحه، لذلك فهو لم يأخذ في الحسبان احتمال حصول صدام بين عناصره والجيش اللبناني. وما يعزز هذه الفرضية أن الخطة التي صادقت عليها الحكومة لم تتضمن أية إشارة صريحة إلى أن المنتظر من الحزب تسليم سلاحه. هذا بالإضافة إلى أن القرار 1701 لا يتضمن حلاً للنزاع على مزارع شبعا (من المتوقع أن يقدّم الأمين العام إلى مجلس الأمن اقتراحاً حول هذه المسألة في غضون ثلاثين يوماً من تاريخ صدور القرار) وهو ما يمنح حزب الله ما اعتبره ضمانة إضافية بأن الحكومة اللبنانية سوف تتوافق على أن يبقي الحزب على سلاحه.
لقد أشار مصدر مقرّب جداً من حزب الله في مقابلة حديثة إلى أن الحزب لديه بعض الثقة في أن الحكومة سوف تبقى على التزامها البيان الوزاري الصادر في تموز 2005، الذي شرّع بوضوح «حق» الحزب في «استكمال تحرير الأرض اللبنانية»، في إشارة إلى مزارع شبعا. لذلك من الواضح أن حزب الله يتوقّع سيناريو يقوم على إدارة هذا السلاح بدلاً من نزعه حيث تبقى أسلحته مخبّأة وبالتالي معطّلة ويُحتفظ بها لتنفيذ هجمات على منطقة مزارع شبعا المحتلة التي يمكن أن تُشن انطلاقاً من قواعده خلف نهر الليطاني.
غير أن هذه الافتراضات تعرّضت لهزة كبيرة في 13 آب مباشرة بعد صدور القرار 1701 عندما دعا وزراء الأكثرية الحاكمة إلى عقد اجتماع استثنائي للتشاور في قضية نزع سلاح حزب الله قبل نشر الجيش اللبناني وقوات اليونيفيل. فقد رفض وزراء حزب الله مناقشة موضوع نزع السلاح في الوقت الراهن لأسباب عدة من بينها أن مسألة مزارع شبعا ستبقى من دون حل لمدة شهر إضافي. هذا من جهة الحزب، أما قيادة الجيش فهي ترفض، بحسب مصدر قريب من هذه القيادة، إرسال قوات إلى الجنوب إذا رفض حزب الله التفويض الموكل إليها. إن هذا القرار ليس مفاجئاً فهناك ما يقارب 40% من عناصر الجيش من الشيعة، وليس خافياً أيضاً أن الجيش يتعاطف مع حزب الله ويقيم علاقات جيدة مع القيادة العسكرية للحزب. فضلاً عن أن الدور المرجِّح لقرار الجيش هذا هو حرصه على تفادي أي انشقاق في صفوفه كما حصل في الماضي. ولكن مهما كانت نتيجة هذا المأزق، فمن المحتّم أنها ستعقّد الجهود التي تُبذل لنشر قوّات دولية في المنطقة، كما يُرجَّح للاستقطاب السياسي الذي يؤكد هذا المأزق أن يؤدي إلى المزيد من التعقيد في المستقبل القريب.
رفض حزب الله الأوسع لنزع السلاح
يعيد القرار 1701 تأكيد الحاجة إلى تطبيق القرارين 1559 و 1680 اللذين ينصّان على نزع سلاح حزب الله (من دون ذكر الحزب بالاسم)، جزءاً من خطة شاملة ودائمة لوقف إطلاق نار. ومن أجل اطلاع أفضل على الصعوبات الملازمة لأي جهد يهدف إلى نزع سلاح حزب الله في سيناريو ما بعد الحرب، من الضروري النظر في الأسباب التي تدفع الحزب إلى التمسك بسلاحه ورفض دمج قواته العسكرية بالجيش.
إن معظم الحملات الداعية إلى نزع سلاح حزب الله تستند إلى الحجة القائلة إنه ينبغي للدولة الديموقراطية ذات السيادة أن تحتكر استعمال القوة. ولكن على رغم أن حزب الله أخفق في شرح حجته المضادة لهذه الدعوات، بذل المسؤولون في الحزب جهداً في توضيح مبرّرات حمل حزب الله للسلاح بما في ذلك خلال مقابلات كنت قد أجريتها في حزيران من هذا العام.
فبحسب فنيش «إن المقاومة لم تنشأ عندما كانت الدولة قوية وفي وضعية تسمح لها بحماية حدودها، وهي لم تتسبّب في إضعاف الدولة. فقد نشأت المقاومة لأن الدولة كانت في الأساس هشّة، وبسبب فشل الدولة». ويضيف أنه لولا المقاومة المسلحة وتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي، «لما عادت الدولة إلى الجنوب». بحسب وجهة النظر هذه، كانت الدولة من دون سيادة نتيجة الاجتياحات والاحتلال الإسرائيلي المتوالي والمتواصل وليس بسبب سلاح حزب الله. فلو اضطلعت الدولة بدورها كقوة ذات سيادة وطردت إسرائيل من أراضيها، لما كانت هناك حاجة إلى المقاومة. ويتبنّى علي فياض، عضو المجلس السياسي في حزب الله ومدير مركز أبحاث تابع للحزب، حجة مماثلة تقوم على المنطق النفعي إذ يقول إن «المجتمع أهم من الدولة لأنه ينبغي للدولة أن تكون في خدمة المجتمع.. أما عندما تفشل الدولة في القيام ببعض وظائفها، فعلى المجتمع أن يساعدها حتى لو لم تطلب الدولة ذلك». من هنا وعلى رغم أن مسؤولي حزب الله يبدون الموافقة «نظرياً» على أن تحتكر الدولة استعمال القوة، إلّا أنهم يرفضون عملياً هذا التوجه. فعلى حد تعبير فنيش، إن «مواجهة الخطر الذي يتهدّد مصير البلاد أهم من التعارض النظري لهذا النهج مع سلطة الدولة».
لكن هذا التعارض يتجاوز الخلاف النظري بالنسبة إلى عدد كبير من منتقدي حزب الله الذين يعتبرون أن المنظمة هي بمثابة «دولة داخل الدولة». لذلك رُوِّج لعدة اقتراحات تقوم على دمج القدرة العسكرية لحزب الله في الجيش اللبناني على غرار الاقتراح الذي قدّمه تيري رود لارسن، مبعوث الأمم المتحدة الخاص المكلّف مراقبة تنفيذ قرار مجلس الأمن 1559 حول لبنان. أما موقف حزب الله من هذه الاقتراحات فقد أوضحه نائب أمين عام الحزب الشيخ نعيم قاسم رداً على سؤال خلال مقابلة في حزيران الماضي عن رأيه في اقتراح لارسن، حينما أكد أنه «يبدو كأنه يقدم حلاً لكن في الجوهر هدفه هو القضاء على المقاومة»، ولهذا السبب فإن تطبيقه «غير وارد». وفي أيار الماضي رفض نصر الله علناً دمج حزب الله في الجيش وقال إنه «ليس خياراً واقعياً لأنه سيُضعف الموقف اللبناني في مواجهة الجيش الإسرائيلي الأكثر تفوقاً». واعتبر أنه حتى لو كان الجيش يملك القوة البشرية والموازنة الضروريتين لتعزيز قواته، فلن توافق الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى على «بيعنا أسلحة نوعية توفّر الغطاء الجوي للجيش». وبسبب هذه العقبات فإن قوات حزب الله المسلحة هي السبيل الوحيد لإيجاد «توازن قوى» مع قوات الدفاع الإسرائيلية.
لكن ثمة أسباباً أخرى لدى حزب الله لمعارضة دمج قواته المسلحة في الجيش. ومن بين هذه الأسباب أن «الهامش بين المقاومة والجيش» يصبّ في مصلحة الدولة إذ إنها لا تتحمّل أية مسؤولية مباشرة عن أي نشاط للمقاومة. وكما أعلن نصر الله في وقت سابق من هذا العام «عندما تطلق أي مقاومة خاضعة للجيش رصاصة واحدة تتعرض وزارة الدفاع... والدولة بكاملها للهجوم المباشر». لهذه الأسباب وغيرها، تأتي معظم اقتراحات حزب الله حول تنازلات في موضوع سلاحه في إطار «التنسيق من دون دمج» حصراً. وهكذا فإن أبعد ما توصل إليه مسؤولو حزب الله هو أن تتحول القوات المسلحة للحزب «جيشاً احتياطياً» ينسّق مع الجيش اللبناني في مسائل تتعلق بالاستراتيجيا لا بالتكتيك. لكن هذا لا يتعدّى أكثر من مجرد «إطلاق تسمية مختلفة على المقاومة»، على حد تعبير نعيم قاسم نفسه، وذلك لأن أنشطة حزب الله العسكرية ستبقى تحت إمرة الحزب.
بناءً عليه فإن الواضح أن حزب الله ليس جاهزاً لتسليم سلاحه في المستقبل المنظور. وكما أعلن نصر الله في مناسبات عدة، سيبقى الحزب مسلّحاً «ما دامت إسرائيل تشكل تهديداً للبلاد». وفي خطاب ألقاه في وقت سابق من هذا العام، أشار نصر الله إلى أن «التسوية الشاملة التي من شأنها وضع حد للحرب» هي السبيل الوحيد للقضاء على هذا التهديد. فمن وجهة نظر حزب الله أمن لبنان يبقى مرتبطاً على نحو وثيق بالصراع العربي ــ الإسرائيلي بغض النظر عن تلبية إسرائيل لمطالب لبنانية محدّدة. ويعبّر فنيش عن وجهة النظر هذه بالقول «لن تحل المشكلة إذا اكتفت إسرائيل بالانسحاب من لبنان»، بل ستستمر حتى تلوح في الأفق تسوية إقليمية شاملة. بدوره يقول قاسم «عندما يُقتل الفلسطينيون يومياً على عتبة بابنا في وقت لا يزال هناك 300 أو 400 ألف فلسطيني في لبنان ولا يمكنهم العودة إلى ديارهم... فهذا عدوان». ولدى سؤاله ما هي الشروط التي تجعل حزب الله يتوقف عن اعتبار إسرائيل تهديداً ويباشر البحث في إمكانية تسليم سلاحه، يجيب قاسم «دعونا لا نتكلم على رد الفعل بل عن الفعل... إذا اختفى الخطر الإسرائيلي ذات يوم، وليس لدي أدنى فكرة كيف سيختفي، فالمقاومة التي كانت رد فعل على الخطر الإسرائيلي لن تبقى موجودة. الصراع مفتوح إذاً ما دامت إسرائيل عدوانية في وجودها وكيانها».
لقد ألمح مسؤولو حزب الله في عدة مناسبات إلى أن الحزب قد يحتفظ بسلاحه إلى الأبد بسبب ما يعتبره تهديداً دائماً من جانب إسرائيل. وهناك مثال على هذا التوجُّه يعبّر عنه وصف نصر الله لإسرائيل بأنها «تهديد دائم من شأنه أن يتحول عدواناً في أي وقت»، وذلك في اللحظة عينها التي تحدث فيها عن تسوية شاملة. وفي واحدة من أوضح الإشارات إلى نظرة حزب الله إلى طبيعة التهديد الإسرائيلي وبالتالي تصميم الحزب على الإبقاء على سلاحه، أكد قاسم قبل شهرين فقط هذا السياق حينما قال: «في رأينا، إن وجود إسرائيل خطر بعينه، لأن إسرائيل أقدمت على احتلال الأراضي وانتهاك حقوق الآخرين. هذا عدوان. كل تجربة خضناها منذ عام 1948 حتى الآن هي تجربة عدوان وتوسّع وحروب وتهجير وسجن وقتل. لقد احتلت أجزاء من أربع دول عربية بحجة الحفاظ على وجود إسرائيل».
خطط حزب الله لمرحلة ما بعد الحرب
إن عدداً كبيراً من المراقبين داخل المنطقة وخارجها، بمن فيهم مراقبون في إسرائيل، يعتبرون أن حزب الله هو المنتصر العسكري الفعلي في هذه الحرب لأنه تمكن من الصمود وألحق خسائر بإسرائيل طوال فترة النزاع. وقد عبّر بعض السياسيين اللبنانيين الذين يمثّلون فريق «14 آذار»، فضلاً عن عدد كبير من اللبنانيين من غير الشيعة، عن مخاوفهم حيال التداعيات السياسية المحتملة لانتصار حزب الله. وفي محاولة لتهدئة هذه المخاوف قال نصر الله الشهر الماضي «أجيب بشكل قاطع، أولاً للبنان وشعبه تجربة مع هذه المقاومة في انتصار عام 2000، وكيف تصرفت. وثانياً من الآن أنا أؤكد أن الانتصار سيكون لكل لبنان». الواضح أن أمين عام حزب الله كان يشير في كلامه هذا إلى مخاوف مماثلة تولّدت لدى بعض الشرائح من الشعب اللبناني بعد تحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي عام 2000 على يد حزب الله. وبحسب تعبير عضو المكتب السياسي في حزب الله غالب أبو زينب «يخافون أن تنقلب المعادلة السياسية بكاملها إذا انتصر حزب الله، وأن يلغي الحزب الآخرين. ستكون هناك تغييرات سياسية لكن لا نيّة لدينا زعزعة الاستقرار». هذه «التغييرات السياسية» التي يسعى حزب الله إلى تحقيقها تشمل بعدين: الأول يتعلق بهوية لبنان السياسية وولاءاته الخارجية. وقد ألمح نصر الله إلى التغيير المرغوب فيه عندما دعا الحكومة أخيراً إلى عدم نسيان حقيقة أن الولايات المتحدة خذلتها عندما كانت بحاجة إليها، ونبّه أولئك الذين يواصلون الاعتماد على الدعم الأميركي. وفي امتداد لهذا الموقف قال أبو زينب إن من «اعتمدوا في السابق على الخارج من أجل خدمة سياساتهم أو على الدعم الأميركي لتحقيق التغيير، عليهم أن يعيدوا النظر في مواقفهم في ضوء الواقع الجديد». ويلمّح أبو زينب إلى أن حزب الله يريد أن يفرض نفسه على هوية لبنان السياسية، قائلاً «سينتزع الحزب لبنان من المحور الأميركي ــ الفرنسي». وفي التوجّه عينه، تعهّد نصر الله بألّا يكون لبنان «أحد مراكز الشرق الأوسط الجديد».
أما البعد الثاني فيتعلق بتشدّد جديد في الموقف بشأن نزع السلاح. فبعد أن أثبت حزب الله أن الجيش الإسرائيلي القوي المدعوم من الولايات المتحدة لم يتمكّن من نزع سلاحه، يخلص الحزب إلى أن لا أحد يمكنه فعل ذلك، وخصوصاً إذا كان الحكومة اللبنانية المستضعفة. وقد أعلن عضو المجلس السياسي لحزب الله محمود قماطي بوضوح أن «المقاومة خط أحمر بالنسبة إلينا، وتسليم أسلحتنا غير وارد حتى لو حُرّرت شبعا». هذا الرأي يتقاسمه قماطي مع حوالى 96% من شيعة لبنان الذين يدعمون حزب الله (بحسب استطلاع للرأي أُجري في لبنان الشهر الماضي). وعلى الأرجح فإن مئات الآلاف من الشيعة الذين نزحوا من مناطقهم ذات الغالبية الشيعية سيتوحّدون أكثر داخل طائفتهم وسيزدادون غضباً وراديكالية حيال إسرائيل، وسيؤيّدون بالتالي أكثر من أي وقت آخر أن يحتفظ حزب الله بسلاحه.
في ضوء هذه الوقائع، قد يؤدي إصرار الحكومة اللبنانية على نزع سلاح حزب الله إلى عواقب وخيمة. وفي أسوأ السيناريوهات، قد ينسحب كل الوزراء الشيعة من الحكومة فيؤدي هذا إلى انهيارها. لذلك من المرجح أن تواجه الأكثرية الحاكمة في النهاية معضلة معقّدة: إما دولة داخل دولة وإما دولة داخل «دولة فاشلة».
(حلقة ثالثة وأخيرة)
* أستاذة مساعدة في الجامعة اللبنانية الأميركية