يُكرِّر الوثائقي ــ الدعائي معزوفة أن العرب «طَردوا» نحو «830» ألف يهودي من الدول العربيّة. لكن هذا القول لا يعتمد على حقائق تاريخيّة. كلّ مَن يُعمّم عن هجرة أو طرد اليهود العرب من الدول العربيّة يمارس عملاً دعائيّاً محضاً لأن ظروف هجرة اليهود اختلفت بين دولة وأخرى وحتى بين سنة وأخرى في الدولة نفسها. لا يمكن، مثلاً، مقارنة هجرة يهود سوريا أو لبنان مع هجرة يهود العراق أو اليمن. وكان هناك اعتناقٌ أكيد من قبل الكثير من اليهود العرب للصهيونيّة مما دفعهم للانخراط في مشروع احتلال فلسطين. والكثير من اليهود في سوريا ولبنان هاجروا إلى دول غربيّة، مثل الولايات المتحدة، لأنهم حلموا بظروف اقتصاديّة أفضل. لكن الدعاية الصهيونيّة لم تترك حيلة إلا ولجأت إليها في تناول هذا الموضوع: عندما بقي اليهود في سوريا حتى الثمانينات، هاجت المنظمّات الصهيونيّة في الغرب وماجت ودعت إلى مغادرتهم سوريا وقالت إنهم أسرى هناك. وضغطت الحكومة الأميركيّة باستمرار على الحكومة السوريّة للسماح لهم بالمغادرة حتى لو نحو دولة الاحتلال. وعندما غادروا، صاحت المنظمّات الصهيونيّة عينُها: انظروا، لقد طَردوا اليهود من سوريا. ثم كيف يمكن تبرئة العدوّ من مضايقة أو طرد اليهود العرب بعد افتضاح أمر تفجيرات بغداد وفضيحة «لافون» عندما جنّد العدوّ يهوداً مصريّين للقيام بتفجيرات لتخريب العلاقات الخارجيّة للدولة المصريّة؟ ماذا سيحلّ بمسلمي الغرب لو أن دولة عربيّة أو إسلاميّة، مثلاً، جنّدتهم للقيام بتفجيرات؟وتحدّث التقرير بصفاقة عن تأسيس المدن والـ«كيبوتز» من دون ذكر تدمير المدن والقرى العربيّة واحتلالها. ولم يكترث التقرير لمصير القرى الـ418 الفلسطينيّة التي احتلّها العدوّ وطرد سكّانها ودمّرها (دمّر العدوّ 293 قرية وبلدة بالكامل، أي 70% من القرى والبلدات، ودمّر معظم 90 قرية وبلدة، أي 22% من القرى والبلدات) (1). وقد عملتُ في سنوات دراستي الجامعيّة في واشنطن في مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة على مشروع القرى والبلدات المدمّرة، والتي نُشرت في المجلّد، «كل ما تبقّى» (2). هذا المجلّد يظهر ويوثّق (بالصورة والكلمة) ما بقي من آثار لتلك القرى وكيف تحوّلت الجوامع والكنائس إلى بارات ومطاعم أو معابد يهوديّة، لكن هذا لا يرقى إلى اهتمام صهيونيّي محطة «العربيّة».
أما عن موضوع العنف، فيقول التقرير: «وقعت آلاف الصدامات والأعمال التخريبيّة في داخل إسرائيل وقُتل أكثر من 400 إسرائيلي بين 1953 و1956». ثم عرض التقرير صور مآتم يهوديّة. لا ذكرَ للضحايا العرب قطُّ. التقريرُ يتحدّث عمّا أسماه العدوّ في حينه «تسلّل المخرّبين» إلى فلسطين. وكان هؤلاء يُقتلون كالبجع بمجرّد تخطّيهم لحدود وطنهم. لم يتمّ رصد وجدولة عدد وهويّة هؤلاء الضحايا. خصّص المؤرّخ الإسرائيلي «الجديد»، بني موريس (الذي يؤمن بالتطهير العرقي للشعب الفلسطيني)، كتاباً له عن الموضوع (3). كانت النظرة التقليديّة تقول إن «المتسلّلين» كانوا «مخرّبين» أرسلتهم الدول العربيّة لزعزعة استقرار الدولة اليهوديّة. الكتاب يدحضُ مزاعم دولة العدوّ الرسميّة عن التسلّل. لم يكن «المتسلّلون» الذين استشهدوا بنيران العدوّ فدائيّين بل كانوا في غالبهم (بحسب المراجع الرسميّة العديدة التي دقّقَ فيها مورس) لاجئين عاديّين اجتازوا الحدود للبحث عن أقرباء وأفراد عائلة أو للعودة إلى منازلهم أو لتفقّد مزارعهم أو لجني محاصيل زراعيّة، وفي حالات أقلّ كانت العودة من أجل الانتقام (المُبرَّر). وكان بعض المتسلّلين من المهرّبين الذين اعتادوا اجتياز الحدود عبر القرون، وكل هؤلاء تعرّضوا للقتل من قبل العدوّ. كما أن بعض هؤلاء كانوا من البدو الرحّل الذين اعتادوا أيضاً اجتياز الحدود التي فرضها المستعمر. ويذكر موريس حالات نادرة من عمليّات خطّط لها الحاج أمين الحسيني وموّلها النظام السعودي. لكن موريس يقدّر أن 90% من عمليّات «التسلّل» (لا تكون العودة إلى الوطن تسلّلاً) كانت بدافع اقتصادي واجتماعي (4).
أورد التقرير عدد ضحايا اليهود من دون ذكر الآلاف من ضحايا العرب


التقرير أورد عدد ضحايا اليهود من دون ذكر الآلاف من ضحايا العرب. والأمم المتحدة رفضت تجميع عدد العمليّات الإرهابيّة التي قام بها العدوّ في تلك الحقبة. لكن الجنرال الأميركي، إلمو هتشسون، الذي خدم في قوة مراقبة الهدنة التابعة للأمم المتحدة، نشر إحصاء للخروقات الحدوديّة، وردَ فيها أن العدوّ خرق الحدود 95 مرّة بين 1955 و1956 فيما خرقها الأردنيّون 65 مرّة. وقد سقط للعدوّ 34 قتيلاً فيما سقط من الجانب الأردني 127 شهيداً (وعدد الجرحى من الجانب الأردني فاق عدد الجرحى الصهاينة الغزاة). أما الجنرال برنز الذي خدم في قوة مراقبة الهدنة على حدود الأردن وفلسطين فقد أحصى في واحد وعشرين شهراً 496 شهيداً عربيّاً مقابل 121 قتيلاً من الغزاة الصهاينة (5). وكنتُ أودّ تضمين المقالة هذه عدداً من الاعتداءات الإسرائيليّة لكن تفاصيلها وعددها يكفي لملء صفحات من هذه الجريدة. وكتاب موريس يوثّق كيف أن كل الدول العربيّة المجاورة لفلسطين عملت جاهدة لمنع أي «تسلّل» لفلسطينيّين نحو بلادهم. وحتى الحكومة المصريّة كانت تمنع «التسلّل» إلى أن أدّت الغارة الإسرائيليّة على غزة في شباط 1955 إلى تغيير السياسة (6).
ولا يخلو أي جهد دعائي للنظام السعودي من دون ذمّ جمال عبد الناصر. زعم إسرائيلي مُبتسم في التقرير أن عبد الناصر في حرب فلسطين أصبح «مقرّباً جدّاً» من ضابط إسرائيل. لو كان ذلك صحيحاً أما كان العدوّ قد خرج بتلك المعلومة إلى العلن في الزمن الناصري؟ وأضاف هذا الإسرائيلي أن عبد الناصر لم يكن يومها يكترث للقضيّة الفلسطينيّة. لكن عبد الناصر، الذي استبسلَ في القتال على أرض فلسطين، خلافاً للأمراء والشيوخ الذين ذمّوه ويذمّوه, كتبَ يوميّاته عن حرب فلسطين وفيها يظهر مدى التزامه بالقضيّة مبكراً (7). ويقول عبدالله السناوي عن ذلك: «كتب معترضاً على أمر انسحاب من الخليل تلقاه يوم الخميس 21 تشرين الأول». «إنّ انسحابنا سيعرض جميع السكان في عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشرد، أو الوقوع في قبضة اليهود... تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا... وكيف سيحتل اليهود عراق المنشية والفالوجة... وكيف إذا استمرت الحرب سنحاول استعادة هذه البلاد التي حصنّاها... عراق المنشية مثلاً التي وقفت أمام دبابات العدو وجموعه... كل ذلك سيستولي عليه اليهود... وسيكون من العسير... بل من المحال استرجاعها»(8). هذا لم يكن يكترث للقضيّة؟
واستشهد التقرير بشهادة جندي إسرائيلي محتل للقول إن كل حروب العدوّ كانت اضطراريّة باستثناء العدوان الثلاثي على مصر. أي إن التقرير شرعن كلّ حروب وغزوات العدوّ باستثناء العدوان الثلاثي. شاهد آخر قلّلَ من العدوان وقال إن إسرائيل احتلّت سيناء فقط لمدّة ثلاثة أسابيع، كأنها انسحبت من سيناء طوعاً وليس بفعل الضغط الأميركي «النادر» يومها. ولم يكن واضحاً سبب إدراج محاكمة آيخمان في الوثائقي عن النكبة إلاّ للإيحاء أن العرب- مرّة أخرى- هم المسؤولون عن المحرقة اليهوديّة.
ويفتي خبير إسرائيلي في الوثائقي أن عقد مؤتمر القمّة العربية عام 1964 هو الذي أذنَ لتحوّل قضيّة فلسطين إلى قضيّة «مركزيّة» كأنها كانت ثانويّة قبل ذلك، وكأن الاجتماعات والتحرّكات الرسميّة العربيّة هي التي أججّت العرب ضد إسرائيل ــ وهذا اعتقاد صهيوني عريق ــ بينما العكس هو الصحيح: كل الأنظمة العربيّة ــ من دون استثناء ــ عملت على إخماد الحماسة الجماهيرية من أجل فلسطين، خشية أن تُجرّ إلى أعمال تزعزع من استقرارها.
وليس صحيحاً ما وردَ في التقرير أن العمل الفدائي بدأ مع تشكيل منظمّة التحرير الفلسطينيّة عام 1964. على العكس، يمكن القول إن الأنظمة العربيّة توافقت على تشكيل منظمّة التحرير كي تُحكم سيطرتها على العمل الفدائي الفلسطيني لأنها كانت تخشى أن يفلت الوضع العسكري مع العدوّ من سيطرتها مما يعرّضها لأخطار في وجودها. واستعمال مصطلح «الفداء» لوصف أعمال المقاومة الفلسطينيّة ضد الاحتلال الصهيوني والاستعمار البريطاني يعود إلى فترة العشرينات من القرن الماضي. قبل نشوء عصبة عزّ الدين القسّام في العشرينات من القرن الماضي، تشكّل في فلسطين منظمّة «جمعيّة الفدائيّة», التي باتت للأسف مجهولة في تأريخ فلسطين. وهي نشطت كحركة سريّة بين عام 1918 و1920 وضمّت عناصر من رجال الشرطة والدرك في فلسطين (9). والأعمال الفدائيّة نشطت في ثورة 1936ــ1939 كما أن العمل الفدائي في غزة أقلق إسرائيل منذ احتلال فلسطين.
ولا يتورّع الوثائقي عن الحديث بأسى عن حالة الركود الاقتصادي في إسرائيل الخمسينات والتقشّف الذي لحقَ ببعض عائلات الإسرائيليّين في وقت كان بعض اللاجئين الفلسطينيّين يفترشون العراء. لكن الشعب الفلسطيني هامشي في وثائقي اختار النظام السعودي أن يجعل اسم «النكبة» عنواناً له، مع أن الفيلم موضوعٌ أصلاً للجمهور الإسرائيلي والصهيوني ومِن قبل إسرائيليّين.
أما في الفترة التي سبقت حرب 1967، فالوثائقي اختار أن يعتنق رواية صهيونيّة لم تعد معمولة بها، حول أن النظام السوري كان يستخدم هضبة الجولان من أجل قصف مواقع إسرائيليّة. لم يعد لهذا الزعم من مصداقيّة. تعترف صحيفة «نيويورك تايمز» الصهيونيّة أن العدوّ الإسرائيلي افتعل اشتباكات على الحدود الفلسطينيّة ــ السوريّة بنسبة «أكثر من 80%» من الحالات (10) في الفترة التي سبقت حرب حزيران. والعدوّ تخصّصَ في الكذب والتضليل إلى درجة أن الاستخبارات العسكريّة تفرض رقابة صارمة حتى على معلومات وتصريحات ومقابلات لقادة العدوّ إذا ما كانت تفضح الأكاذيب الرسميّة. موشي دايان، مثلاً، اعترف بنفسه منذ السبعينات أن إسرائيل هي التي كانت تخالف اتفاقيّة الهدنة مع سوريا عبر استخدام البلدوزرات لاستفزاز الجانب السوري للحصول على ذريعة شنّ الحرب. ولم يُفرَج عن تصريحات دايان تلك إلاّ في عام 1997 (11). نسي الوثائقي في حماسته لنصرة إسرائيل أن العدوّ باتَ يعترف بذلك.
وفي رواية حرب 1976 اعتمد الوثائقي على الكلاسيكيّات الصهيونيّة في الدعاية، أن عبد الناصر قال إنه سيغزو إسرائيل وأنه سيحتلّ فلسطين. كان كلام عبد الناصر منذ الستينات صريحاً في عدم استعداد مصر للمعركة. طبعاً، هذا لا يعفي عبد الناصر من المسؤوليّة ــ ليس مسؤوليّة الحرب التي يتحمّلها العدوّ وحده ــ بل المسؤوليّة عن عدم الاستعداد لمعركة قبلَ أن ينجرّ إليها من أعدائه، ومن النظام الأردني والسوري اللذين أدّت مزايداتهم ضد عبد الناصر إلى تكبيل حركته السياسيّة وجعل التصعيد السياسي الذي سبق الحرب خياراً حتميّاً.
وكلام خبير في الوثائقي عن أن عبد الناصر «جرَّ» إسرائيل إلى استدعاء الاحتياط هو كلام يتناقض مع ما نُشر أخيراً عن استعدادات العدوّ الحثيثة للحرب، لا بل حماسه لها، خصوصاً في كتاب غي لارون الأخير عن حرب حزيران. كان العدوّ يحضّر منذ 1948 لاحتلال كل فلسطين، كما أنه حضّر منذ قرار التقسيم في 1947 للاستيلاء على أراض فلسطينيّة لم تُمنَح له في قرار التقسيم. حتى جدعون ليفي (الذي يتناقل بعض العرب مقالاته موافقة) حدّثنا عن «الخطر المحدق» الذي شعرَ به الإسرائيليّون. كأن الشعب الفلسطيني لم يعش في الخطر منذ الثمانينات من القرن التاسع عشر بسبب الغزوة الصهيونيّة. وعميرة حاس (يتناقل أيضاً العرب مقالاته موافقة) حدّثتنا عن الذعر الذي عمّ. هم وحدهم الضحايا، ونحن دائماً المعتدون.

تشفّى التقرير من هزيمة العرب وتمتّع بسرد سرعة النصر الإسرائيلي


وكان طريفاً أن الفيلم عرض شريطاً لاسحق رابين وهو يستعرض قوّاته مبتسماً فيما الوثائق الإسرائيليّة باتت تتحدّث بصراحة عن تعرّضه في تلك الفترة إلى سلسلة من الانهيارات العصبيّة. لكن صورة العدوّ يجب أن تحافظ على صلابة قادة الحرب. هكذا يريدها الجهاز الإعلامي لمحمد بن سلمان. وطبعاً، سخر التقرير من أحمد الشقيري (وهو يستحقّ السخرية لكن لأسباب أخرى). يذكر التقرير أن أحمد الشقيري هدّد برمي اليهود في البحر. لم يستطع حتى الساعة أي صهيوني على العثور على أي دليل على ذلك، وكان الشقيري في كل مذكّراته نفى ذلك (12). والياس صنبر يقول في التقرير أن الشقيري كان ناطقاً باسم عبد الناصر وأنه طُرد من الحركة الفلسطينيّة. نسي صنبر أن الشقيري عمل أيضاً في خدمة النظام السعودي قبل ذلك، لكن هذا لا يجوز ذكره. طبعاً، لا يذكر التقرير أن أمر العمليّات العسكري لقائد سلاح الجوّ الإسرائيلي، موتي هود، تضمّن هذا الأمر الرسمي عشيّة الحرب: «حطّموهم وشتّتوهم في الصحراء» (13). لماذا لا يشتهر هذا الأمر الرسمي كما اشتهر قول منحول لأحمد الشقيري؟
وتشفّى التقرير من هزيمة العرب وتمتّع بسرد سرعة النصر الإسرائيلي. لكن تعظيم الخطر الذي كان يلحق بالعدوّ كانت ضرورة دعائيّة صرفة، لأن العدوّ، بالإضافة إلى كل الأجهزة العسكريّة والاستخباريّة الأميركيّة، كان على يقين أن النصر الإسرائيلي هو حتمي بسبب التفاوت الفظيع في المستوى العسكري بين العدوّ وبين العرب وذلك بإرادة الغرب (14). والحديث عن تهديد «وجودي» لإسرائيل (ورد ذلك في التقرير بالحرف) من دون الإشارة إلى ما لحقَ بالشعب الفلسطيني من تهديد وجودي لم يتوقّف للحظة منذ الغزوات الصهيونيّة في أواخر القرن التاسع عشر، يعكس أولويّات التقرير اللاأخلاقيّة. طبعاً، لم يشاطر قادة العدوّ شعبهم عما كانوا يعلمونه، عن أن لا خطرَ واجه العدوّ في تلك الحرب، إذ إن للدعاية السياسيّة ضروراتها (التقرير عاد واعترف أن الخطر الوجودي كان كذبة سياسيّة). لكن التقرير أورد رأي خبير أن ضم الأراضي في 1967 كان نتيجة للانضمام الجيش الأردني إلى الحرب، كأن العدوّ لم يكن يخطّطُ من قبل لضم القدس وبقية فلسطين.
المصطلحات في الوثائقي كلّها مصطلحات احتلاليّة: القدس لم تُحتلّ، بل «تم توحيد القدس». الاحتلال الإسرائيلي لم يقمْ، بل «أصبح مليون عربي تحت إدارة إسرائيليّة». متى وكيف أصبح الاحتلال إدارة؟ ماذا سيكون موقف الشعب الفرنسي لو أن الاحتلال النازي لبلادهم وُصفَ بـ«الإدارة الألمانيّة»؟ وأمعن البرنامج في عرض صور الابتهاج الإسرائيليّة بحرب حزيران. مشاهد من عناق وهتافات ورقص وقبلات كأن الهدف هو إذلال ذاتي، هذا إذا كان القائمون على هذه المحطة يعتبرون أنفسهم عرباً (ليست العروبة خدعة لفظيّة فقط لتعبئة الشعب ضد إيران، هي تتضمّن ما لا يتوافر في السياسات والحروب السعوديّة). لو أن البرنامج تحدّث ولو بصورة عابرة عن قتل الأسرى والمدنيّين من قبل العدوّ، خصوصاً أن بعض الإعلام في دولة العدوّ تحدّث عن ذلك وهذه المحطة تسترشد بإعلام العدوّ في تغطيتها للصراع العربي ــ الإسرائيلي.
قمّة الخرطوم، بحسب البرنامج، «دعت إلى حرب مستمرّة ضد إسرائيل لاستعادة الأراضي». مِن أين أتى البرنامج بهذه الصيغة؟ إن البيان الرسمي لقمّة الخرطوم لم يتحدّث عن الحرب بل عن «إزالة آثار العدوان»، وهي صيغة ضعيفة تعني الاعتراف بإسرائيل، خصوصاً أن البيان تحدّث عن الاحتلال فقط «منذ عدوان 5 حزيران». وهذه الصيغة كان المُراد منها، رغم اللاءات، الانخراط في مسيرة تفاوض سلمي غير مباشر، وهذا ما حدث. كما أن الملك حسين حصل على تفويض من عبد الناصر للشروع في مفاوضات مع العدوّ حتى لو كانت مباشرة (على أن لا يؤدّي ذلك إلى معاهدة سلام منفرد). لكن خبيراً إسرائيليّاً تحدّث عن أن سبب بقاء الاحتلال يعود إلى «غياب المفاوضين العرب». هذه الحيلة لا تزال مستمرّة على رغم عقود طويلة من مفاوضات مباشرة وغير مباشرة خاضتها قيادة منظمّة التحرير والدول العربيّة المحيطة بفلسطين وأخرى بعيدة عنها. لم يعد التاريخ الطويل من المفاوضات و«التحالف» بين النظام الأردني ودولة العدوّ سراً (15).
ويلقي خبراء التقرير باللائمة على اليمين الإسرائيلي المتديّن في محاولة إسرائيليّة معروفة للفصل بين يسار إسرائيلي متنوّر وبين يمين متطرّف (وهذا الفصل لا يخفي نيّات عنصريّة من فصل بين مهاجرين أوروبيّين ومهاجرين من دول عربيّة). وبلغت الصفاقة بأحد الخبراء إلى حد الزعم أن سقوط ما يسمّى بـ«معسكر السلام» في إسرائيل كان بسبب الهجمات «الانتحاريّة» الفلسطينيّة. وزاد وعظةً عن أساليب الكفاح الذكيّة. أي مفارقة أن يعظ إسرائيلي من دولة أدخلت ممارسة الإرهاب إلى منطقتنا في أساليب النضال الحضاريّة.
أصرّ خبراء التقرير أن إسرائيل تغيّرت بعد 1967 وأن «المجتمع الإسرائيلي بات يحتل ويستوطن». لكن المجتمع الإسرائيلي احتلّ واستوطن قبل وبعد 1948. لكن التقرير ختم بصور لتوابيت ومآتم إسرائيليّة. وصلت رسالة «صفقة القرن» مبكراً. هذه دفعة مسبقة من النظام السعودي.
كان يمكن في ذكرى عدوان تمّوز بثّ وثائقي عن النصر الكبير وعن الإذلال غير المسبوق الذي تعرّض له العدوّ في تلك الحرب. لكن النصر على العدوّ مرُّ المذاق على ألسنة الإسرائيليّين وعلى ألسنة حلفائهم من العرب. كان يمكن عرض مشاهد الذل والنواح التي أصابت جيش الاحتلال في تلك الحرب، وعن المعجزة البشريّة التي تمثّلت بعودة كل النازحين الجنوبيّين قبل أن تخمد نيران الحرب. لكن الحرب الإسرائيليّة في تموزّ تستمر، بوسائل ــ عربيّة ــ أخرى. هذا التقرير جزءٌ منها.
(انتهت السلسلة)

1. راجع نصير عاروري، «اللاجئون الفلسطينيّون: حق العودة»، ص. ٥٠.
2. وليد الخالدي، تحرير، «كل ما تبقّى: القرى الفلسطينيّة التي احتلّتها إسرائيل وطردت سكّانها منها في عام ١٩٤٨»، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة.
3. بني موريس، «حروب إسرائيل الحدوديّة، ١٩٤٩-١٩٥٦: التسلّل العربي، والردّ الإسرائيلي والعد العكسي لحرب السويس».
4. بني موريس، «حروب إسرائيل الحدوديّة»، ص. ٤٩.
5. راجع سامي هداوي، «الحصاد المرّ»، ص. ١١٤-١١٥.
6. راجع آفي شلايم، «حروب إسرائيل القذرة»، «لندن ريفيو أوف بوكس»، آب ١٩٩٤.
7. نُشرت المذكّرات في مجلّة «آخر ساعة» قبل أن تنشر في كتاب في السبعينات.
8. https://al-akhbar.com/Palestine/250713
9. «الموسوعة الفلسطينيّة»، ج. ٣، ص. ٤٣٤-٤٣٥.
10. «نيويورك تايمز»، ١١ أيّار، ١٩٩٧.
11. غي لارون، «حرب الأيّام الستة»، ص. ٤٨-٥٤، و١١٨.
12. راجع «الأعمال الكاملة» لأحمد الشقيري.
13. راجع مايكل أرون، «ستة أيّام من الحرب»، ص. ١٧٠.
14. راجع الفصل المتعلّق بإدارة جونسون في كتاب ويليام كوانت، «مسيرة سلام».
15. أفشى الملك حسين بالكثير عن بعض مِن تاريخ علاقاته المباشرة مع العدوّ في كتاب آفي شلايم «أسد الأردن».

* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)