بينما تستمر جهود القوى الشعبية في دعم مسيرة العودة التي انطلقت منذ ستة أشهر واستدامة نضالها حتى تحقيق مطالبها، توقفت مجدداً جهود القيادة الفلسطينية عن إتمام المصالحة الوطنية التي انطلقت منذ ما يقارب سبع سنوات تحت رعاية مصرية. خلطت مسيرة العودة الأوراق وطرحت العديد من التساؤلات المهمة والأساسية التي تتعلق بجوهر القضية الفلسطينية بعد 25 عاماً على توقيع اتفاق أوسلو، وبعد 11 سنة من الحصار المفروض على قطاع غزة.فتحت المسيرات الرافضة للحصار والمقاومة للاحتلال والمتشبثة في حقها في العودة إلى أرض الوطن الأفق لبروز وعي جديد شبيه بحالة الوعي الوطني الذي ساد إبّان الانتفاضة الأولى، وتشكيل قيادة شعبية تحدت في حضورها على الأرض القيادة السياسية، وأثبتت قدرتها لتسلّم زمام المبادرة وطرح مطالبها المبينة على الحقوق والقانون الدولي. منذ بداية تأسيسها برهنت مسيرة العودة الكبرى أنها قادرة على النهوض بوحدة وطنية حقيقية، ولا سيما أنها تجمع في إطارها إلى جانب هيئات المجتمع المدني، معظم الفصائل بعد فشل كل المحاولات للجمع بين الفصيلين المتناحرين فتح وحماس منذ 2006. عملت المسيرة على صوغ أهدافها لخدمة المشروع الوطني الفلسطيني، في الوقت الذي صاغ فيه الفصيلان المتناحران أهدافهما لبناء نظام سياسي يخدم مصالح طبقية وفئوية محددة، ارتبط بعضها بالانقسام وبعضها بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، وذلك على حساب المشروع الوطني. وكل هذا يعتمد أساساً على عدم هيمنة أجندة حزبية ضيقة على المسيرة وتوجهاتها والمحافظة على طابعها الشعبي واللاعنفي.
استطاع الوعي الجديد للقوى الشعبية للمسيرة أن يخترق السياسات القديمة المهيمنة للقيادة الفلسطينية اليمينية الحالية والقيادة اليسارية «المعارضة» والتي ما زالت تقف عاجزة عن صوغ استراتيجيات وطنية جامعة مستقلة وفعالة. كذلك استطاعت مسيرة العودة أن تستحوذ على توافق المجتمع المدني والقوى السياسية في قطاع غزة في التوصل إلى نتيجة أن قوة الشعب هي القوة الوحيدة التي يمكن التعويل عليها في هذه المرحلة، ولا سيما بعد فرض إجراءات عقابية على سكانه منذ ما يقارب سنة ونصف سنة لم تستثن أحداً، ولا حتى مرضاه وجرحاه، فضلاً عن التحريض على القطاع عربياً ودولياً.
تدعو مسيرة العودة الكبرى إلى القطيعة التامة مع نهج أوسلو وملحقاته، الذي يُنكره اليوم، بعد 25 عاماً، واضعوه وآخرون شهدوا عليه ودافعوا عنه وروّجوا لنهجه، بما فيها حل إقامة دويلة فلسطينية إلى جانب دولة يهودية تمارس العنصرية ضد رعاياها. ترى مسيرة العودة في إحياء مفهومي التحرير وتقرير المصير نموذجاً تحررياً من الاستعمار، وذلك من خلال التعامل مع الحقائق الجديدة على الأرض التي فرضتها إسرائيل وأدت إلى استحالة إقامة دولة فلسطينية مستقلة حتى على 22% من أرض فلسطين التاريخية. هذه المبادرة الشعبية هي محاولةٌ جماهيرية لإعادة توجيه الدفة نحو تحقيق الحقوق المشروعة من ناحية، وربط مكونات الشعب الفلسطيني الثلاثة في الداخل الفلسطيني، وعلى الأرض المحتلة وفي الشتات بالقطاع والذي هو بدوره جزء لا يتجزأ من الهوية الوطنية الفلسطينية. فالغزّي لم يكن يوماً فلسطينياً غير وطني كي يُطالَب بتحمّل مسؤولية الانقسام الوطني الحاد، وهو الذي ساهم منذ انطلاق «الوطنية الفلسطينية» المعاصرة بالدور الأبرز في تكوينها والدفاع عنها بشراسة.
لقد استلهم النشطاء الفلسطينيون في غزة الكثير من تجربة النضال ضد نظام الأبارتهيد التي هي نفسها ساهمت في نهاية الثمانينيات على التعبئة الجماهيرية في الانتفاضة الأولى. واستلهموا أيضاً في أدواتهم النضالية آليات مواجهة من تاريخ المقاومة الشعبية في فلسطين، بما فيه إضراب 1936 والانتفاضات الشعبية اللاحقة في الضفة والقطاع ومناطق 1948. هذا الوعي الجديد المنبثق في غزة ومنها يربط بين أشكال المقاومة الشعبية كافة، وعلى رأسها الدعوة إلى مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، على غرار مقاطعة نظام الأبارتهيد. لقد طرحت مسيرات العودة بالفعل شعارات تتماشى مع أهداف حركة المقاطعة التي حققت نجاحات عالمية وأوجدت إجماعاً فلسطينياً غير مسبوقاً بين الفلسطينيين في أرجاء الوطن والشتات. وسعت إلى تطوير علاقة مباشرة بين المقاومة الشعبية الريادية وأهمية إيلاء الدور للمجتمع المدني في قيادتها، بالنظر إلى الدروس المستمدة من التجارب والأساليب النضالية الأخرى المتبعة على مدى عقود من الزمن.
وبالرغم من أن حركة المقاطعة لم تتبنّ حتى اللحظة موقفاً سياسياً واضحاً أو موحداً إزاء إقامة الدولة وما إذا ينبغي أن يكون الحل دولتين أو دولة ديمقراطية واحدة، إلا أن أهداف مسيرة العودة الكبرى تتعارض تماماً وحلّ الدولتين لأنه يتناقض جذرياً مع المطلب الرئيسي للمسيرة، ألا وهو عودة اللاجئين وتعويضهم. وما مشاركة فلسطينيي حيفا ورام الله وبيت لحم وأم الفحم إلا إشارة إلى الاتجاه الذي تأخذه المسيرة من بُعد فلسطيني.
لقد آن الأوان بعد 25 عاماً من وهم الدولة المستقلة المبني على اتفاق أوسلو أن تعلن القيادة الفلسطينية صراحةً التحلل من قيود أوسلو وتوابعها من تنسيق أمني وتبعية اقتصادية، وأن تتبنى صراحة نداء حركة المقاطعة عملياً. كذلك ينبغي للقيادة الفلسطينية الامتناع عن الدخول في أي «مفاوضات» إلا إذا كان على رأس الأجندة موضوع آلية تطبيق قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 194، وكذلك ربط مطالب مكونات الشعب الفلسطيني الأخرى بتلك المفاوضات، ولا سيما مطلب إنهاء سياسات الأبارتهيد التي تمارس ضد فلسطينيي 1948، وبالتحديد بعد قانون القومية الذي سنته إسرائيل أخيراً والذي يعزز العنصرية ضد فلسطيني الداخل ويشرّع الاستيطان على الأرض الفلسطينية، ودعم التحركات الشعبية ضد الاحتلال التي أثبتت أنها الإطار الوطني الذي يجب التعويل عليه لإعادة إنتاج المشروع الوطني ومحاربة المشروع الإسرائيلي الاستعماري الاستيطاني.
إن النضال من أجل تحقيق الحرية والعودة وتقرير المصير لكل مكونات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات هو التجسيد العملي لوحدة وطنية شاملة على الأرض، وحدة لا تنحصر في فصيلين، أو في خطاب ما يسمى «شطري الوطن»، بل في إعادة تشكيل الوعي الجمعي، أي الوعي الجديد، الذي تساهم كل من مسيرة العودة وحركة المقاطعة في صياغة محدداته. لقد آن الأوان، بعد ربع قرن على كارثة أوسلو، لنضال جدي حاسم من أجل الحرية والمساواة والعدالة، فثلثا سكان القطاع هم لاجئون كفلت لهم الشرعية الدولية حق مقاومة الاحتلال، وحق العودة والتعويض.
*محلل سياساتي في شبكة السياسات الفلسطينية «الشبكة»، وأستاذ جامعي في جامعة الأقصى ــ غزة.