لا يمكن الجزم باستحالة وصول محمد بن سلمان إلى العرش، لكن طريقه إليه محفوف بمخاطر جمّة: له وللنظام. وصفات حكمه الفردي باتت عبئاً يجد صعوبة في التخلّص منه. هو شكّل ظاهرة فريدة في التاريخ السعودي المعاصر ففي مدة قصيرة: استطاع أن يقودَ عدّة انقلابات داخل العائلة، بدأت بالتخلّص من الأمير مقرن كوليّ للعهد، ثم التخلّص من ابن عمّه، محمد بن نايف كوليّ للعهد، ثم القضاء على أي نفوذ سياسي للأسرة (ما نشرته «لو فيغارو» أمس عن اجتماع لـ«هيئة البيعة» غير صحيح). وابن نايف كان قريباً جدّاً من الأجهزة الاستخباراتيّة الأميركيّة التي عرفت أنه أُقصيَ عن منصبه بالقوّة (وليس عبر تغيير «سلس» حسب وصف أبواق الدعاية السعوديّة حول العالم في حينه) وأنه يقبع في إقامة جبريّة. تعلّم ابن سلمان من تجربة ابن عمّه متعب، الذي حُرمَ العرش لأنه تمهّل وتريّث كثيراً، غيرُ عالم أن ابن الملك يفقد سلطته بمجرّد وصول ملك آخر إلى العرش (ومتعب لا يزال في الأسر حتى الساعة). أراد ابن سلمان أن يرتّب أمورَه وأن يحرمَ أي منافس له في فترة قصيرة نسبيّاً. لكن سرعة احتكاره الحكم وثقته بمزاجه السياسي أوقعاه في مصيبته الحاليّة. لو أنه أبقى على نظام المشورة (المشورة في داخل الأسرة وليس خارجها، و«مجلس الشورى» هو صوري وشكلي)، لكان هناك من ردعَ جموحَه وطيشَه. قضى ابن سلمان على كل أجنحة آل سعود داخل الأسرة، ووضع كل من اشتكى سرّاً من حكمه في السجن. كان الملك السعودي يسمح في الماضي بوجود أجنحة داخل الأسرة على أن يكون الولاء المطلق للملك وحده. هذا الشاب لا يقبل وجود أجنحة، وهو ألغى حكم العائلة، لا بل ألغى نفوذ عائلة الملك نفسها، حيث حُرِم أشقاء ابن سلمان أي سلطة أو نفوذ في هذه الحقبة. لكن المرحلة المقبلة ستكون مختلفة كليّاً لابن سلمان. هو بدأ عهده بمجموعة من عناصر الحظوة الغربيّة. استعانَ، كما حليفه الأوثق محمد بن زايد في أبو ظبي، بشركات علاقات عامّة غربيّة تجهد في تحسين صورة الطغاة العرب في الغرب. وكل الطغاة لديهم حسابات مع شركات غربيّة في هذا الشأن. وهذه الشركات تجنّد موظّفين لديها كي يكتبوا رسائل (تبدو عفويّة في الظاهر) في الصحف الغربيّة تعبّر عن استياء ضد أي نقد يُوجَّه ضد الطاغية. وكان إنفاق السعوديّة في العام الماضي على العمل «اللوبي» قياسيّاً: نحو ٢٧ ميلون دولار في سنة واحدة. كما أن السعوديّة تحرّرت من الاعتماد شبه الكلّي على لوبيات أميركيّة تقوم بالدفاع عن مصالحها (مقابل المال أو الربح).
كان عماد العمل الدعائي السعودي في أميركا شركات النفط العملاقة وشركات صنع السلاح. كانت هذه الشركات تجني المليارات من النظام السعودي وكان عملها في الدفاع عن مصالح النظام جزءاً من دفاعها عن أرباحها. وهذه الشركات كانت أيضاً تنفق على «لجان العمل السياسي» التي تنفق بسخاء على دعم المرشحين للكونغرس. ولم يكن عمل تلك الشركات سهلاً حتى التسعينيات، لأن عملها كان يتضارب مع عمل وأجندة اللوبي الإسرائيلي الذي كان مناقضاً لعمل اللوبي السعودي بسبب مواقف السعوديّة (المُعلنة) من الصراع العربي-الإسرائيلي وبسبب تمويلها «منظمة التحرير الفلسطينيّة». لكن عمل تلك الشركات أصبح سهلاً بعد مؤتمر مدريد وتخلّي النظام السعودي عن التبنّي (اللفظي) للقضيّة الفلسطينيّة ونبذ تمويل «منظمّة التحرير».
وكان الوجه السعودي لعمل اللوبي السعودي بعد الثمانينيّات يرتسمُ في شخص بندر بن سلطان. كان هو المُحرِّك والمدير الأساسي لعمل الشركات والأفراد لدعم النظام السعودي داخل الكونغرس وخارجه. وكان بندر عرّاب التعاون بين اللوبي الإسرائيلي والسعودي (خصوصاً بعد الغزو العراقي للكويت)، خصوصاً أن ما يجمع بينهما بات أكثر مما يفرّق بكثير (وهذا ما يعبّر عنه الهوس السعودي الحالي في الحوار بين الإسلام (كأن آل سعود ورثوا الخلافة) وبين دينٍ واحد فقط، ألا وهو الدين اليهودي؛ وقد انبثق عن مؤتمر الملك عبدالله للحوار بين الأديان في فينا مجلس خاصّ بالحوار الإسلامي-اليهودي فيما لا يزال الحكم السعودي يكفّر الشيعة ويسجن المسيحيّين الذين يقيمون شعائر دينيّة على أرض المملكة. هذه النزعة للتوجّه في الخطاب الغربي نحو اليهود كانت لها فوائدها للنظام السعودي، إذ إنه جمع في ذلك بين جمهور ليبرالي وبين أعضاء في الكونغرس من الحزبيْن المتصارعيْن. والإعلام الغربي لا يكترث لأصوات الكراهية ضد الشيعة والإسماعيليّة والعلويّين، أو حتى ضد مسلمين سنّة آخرين، طالما هناك ودّ نحو الدين اليهودي من الطغاة العرب.
لكن بندر بن سلطان لم يعد موجوداً، وظهوره بعد غياب قبل أشهر كان أبلغ إنذار عن موضع أمراء آل سعود (النافذين سابقاً) في عهد ابن سلمان: ظهر بندر كما تظهر هذه الأيّام صور وفيديو للوليد بن طلال: ذلٌّ وإذلال وطاعة بعد عمرٍ من العنجهيّة والتكبّر والخيلاء. وفي السنوات الماضية، أصبح للنظام السعودي لوبيان خاصّان به: «سابراك» (الذي يقلّد في تسميته الإنكليزيّة وحتى في اختصار التسمية، لوبي «ايباك»، منظمة اللوبي الإسرائيلي الرسميّة) و«مؤسّسة الجزيرة العربيّة». والتنظيمان يخاطبان الغرب على أساس مصطلحاته ومراسمه واهتماماته وانحيازه وعنصريّته. يعمل اللوبي السعودي على أساس الفصل بين العمل الدعائي الأميركي وبين العمل الدعائي السعودي العربي، أي لكلّ ساحة لوبي ومقام.
حسِبَ ابن سلمان أن قسوته ووحشيّته حتى لو خارج أرض المملكة لن تؤثّر في صورته


تلاقى عمل اللوبي السعودي الجديد مع شركات علاقات عامّة غربيّة استعان بها محمد بن سلمان لتحسين صورته. وهي التي كانت وراء مشروع «نيوم» وإصلاح ٢٠٣٠ والسماح للمرأة بقيادة السيّارة. وتشريع قيادة المرأة هو تلبية لطلب غربي أكثر مما هو تلبية لمطالب محليّة لا يكترث الحاكم لتلبيتها. ولأن الموضوع صار رمزيّاً عند الغربيّين (لأن أيام القمع العادي ضد الذكور والإناث لا تعني الكثير لهم، خصوصاً عندما يكون ضحاياها من الفقراء أو المتديّنين أو المثقّفين الذين لم يحتسوا القهوة ويتناولوا الطعام مع نخبة الصحافيّين الغربيّين الذين أعلن المئات منهم أخيراً أن جمال خاشقجي كان صديقاً شخصيّاً لهم)، فإن محمد بن سلمان أدرك أن القرار سيُكسبه تأييداً غربيّاً كبيراً، وهكذا كان. كما أعلن إجراءات لتقييد عمل «لجان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي كانت الصحافة الغربيّة تتابع أخبار غزواتها، بالإضافة إلى إعلان فتح السعوديّة أمام اللهو الغربي والعربي، على شاكلة «يانّي» أو «أليسا» وما بينهما من تطفّل على الفنون. وهذا اللهو هو عنوان الحضارة، كما أن هناك شباباً عربياً على مواقع التواصل يعتبر أن إقامة حفلات ملكات الجمال هو عنوان الحضارة ويترحّم على أيّامها في زمن الشاه الإيراني.
حكم الطاغية السعودي الشاب، ابن سلمان، بوجهيْن: وجهٌ ضاحك للغرب ووجه صارم قاسٍ لأهل المملكة وللعرب أجمعين. كانت مقابلاته محصورة بالصحافة الغربيّة لأنه أراد تأسيس قاعدة غربيّة لحكمه، ونجح في ذلك. أصبح إعلام الغرب بوقاً دعائيّاً (شبه مجاني) له وتنافس كتّاب الصحافة الغربيّة في زيارة المملكة والإطناب في وصف إصلاحاته. ومن أسباب ردّ الفعل العارم للإعلام الغربي ضد محمد بن سلمان وجريمته الأخيرة أنهم شعروا بالخذلان لما فعلوه من أجله. وجه ابن سلمان الضاحك كان أيضاً شديد الرهان على تأييد اللوبي الإسرائيلي الذي تجنّد للمهمّة خصوصاً أن محادثاته في زيارته الأخيرة إلى أميركا قبل أشهر تضمّنت آراء مهينة للشعب الفلسطيني صدرت عنه، ومُجاهرة بتأييد إسرائيل في لقاءات مع أعضاء في الكونغرس ومع قادة بارزين في الجالية اليهوديّة هنا. وتنطّح ابن سلمان للعب دور الراعي لمبادرة صهر الرئيس، جاريد كوشنر، لتمرير صفقة تحلّ الصراع العربي-الإسرائيلي عبر تجاوز الشعب الفلسطيني وتطلّعاته. لم يكن هناك حدود لرغبة ابن سلمان في إسعاد الجمهور الغربي الصهيوني. وقد ردّد ترامب بنفسه، كما ردّدَ نائبه، قبل أيّام أن من أسباب التحالف بين أميركا والنظام السعودي «حماية إسرائيل»، أي إن النظام بات يساهم في أمن العدوّ من خلال خدماته في تعبئة الرأي العام العربي برمّته ضد أعداء إسرائيل، وفي إشعال الحروب ضدّهم في أكثر من دولة عربيّة.
لكن الوجه الآخر (العربي) لمحمد بن سلمان هو الوجه الصارم والمتوحّش الذي يريد أن يبعث الرعب في قلوب جمهوره، في المملكة وخارجها. هو الوجه الذي أطلق «عاصفة الحزم» والذي يتعارض اسمها مع تاريخ النظام في التقيّة والتآمر الخفي، خلف ستار من الابتسامات والدعاء بطول العمر. لم يكترث محمد بن سلمان لاكتساب عطف أو محبّة الشباب العربي، ولم يتوجّه لمخاطبته مرّة واحدة. وحتى داخل المملكة، ظهر في مقابلة وحيدة مع مدير محطة «العربيّة». خليت الساحة العربيّة لابن سلمان بعد انكفاء قطر نتيجة تراجع المشروع الإخواني إثر إصرار التحالف الإماراتي-السعودي على صدّه بالقوّة والانقلاب. حسبَ ابن سلمان أن التعاطف الشعبي العربي معه غير ضروري طالما أطاعه طغاتهم، خصوصاً أن مشروع التأجيج الطائفي-المذهبي كسب للنظام السعودي بعض معارضيه السابقين. وعندما يتذمّر الشعب السعودي، يعكس قرارات الحاكم سابقة له ويأمر باسم وليّ الأمر بعلاوات للجميع.
لكن الأمير بالَغ في تقدير قوّته وتقدير مدى التعاطف الغربي معه. إن انفصال خاشقجي عن نظام كان ركناً في جهاز دعايته ليس دليلاً على تطلّعات ديموقراطيّة للرجل (الذي كان يقول قبل أكثر من سنة على محطة «الحرّة» إن مهمة الصحافي في المملكة هو طاعة الأوامر من فوق) بقدر ما هو دليل على ضيق قاعدة النظام الذي لم يعد يتسع لا لأمراء آل سعود ولا لبعض مطبّليهم المحترفين. وكان خاشقجي قد عرض خدماته على وليّ العهد الجديد، بشهادة أصدقائه، لكن الأخير رفضها بسبب ماضيه الإخواني. وكانت بوادر تخطّي ولي العهد لحدود المشروعيّة السياسيّة المقبولة في المملكة قد ظهرت قبل فضيحة قتل وتقطيع خاشقجي. فقد تنبّه الملك سلمان إلى خطورة مواقف ابنه من القضيّة الفلسطينيّة وأعلن بصورة فجائيّة التزام المملكة مواقفها السابقة من القضيّة، وتكرّر ذلك في بيانات مجلس الوزراء السعودي. أي إن الملك أوقف هرولة ابنه نحو «صفقة القرن» (وقد أخذ البعض في الإعلام الغربي على ابن سلمان تمنّعه). وإغضاب عدد هائل من الأمراء النافذين ورجال الأعمال شكّل مقاومة سريّة لها داخل المملكة وخارجها. وللمعارضة في السعوديّة رعاية أوتوماتيكيّة من الإخوان أو قطر أو تركيا، أو جميعهم.
القسوة طبعت ارتقاء بن سلمان كما طبعه خداعه ومراوغته. لا يجد غضاضة من فرض استقالة ولي العهد، محمد بن نايف، ثم إجباره على الظهور أمام الكاميرا في مشهد يلبّي الحاجة إلى دعاية عن «انتقال سلس للسلطة». يعتقل ويهين الوليد بن طلال، ويسرق منه ثروته (الأخير كان قد سرقها مثل كل الأمراء من الشعب في المملكة) ثم يجبره على الظهور أمامه مبتسماً ومطيعاً في المناسبات. يعتقل سعد الحريري ويأمر بضربه وشتمه وإهانته ثم يظهر مبتسماً معه ويسخر من خبر اعتقاله (الملامة في الحالة الأخيرة تقع على الحريري لأنه بين كل ضحايا ابن سلمان أفرط في التملّق وفي الثناء على سجّانه، لكنّه تلقّنَ الطاعة والانصياع لآل سعود من أفضلِ معلّم لها).
حسِبَ ابن سلمان أن قسوته ووحشيّته حتى لو خارج أرض المملكة لن تؤثّر في صورته. واختار تركيا (وليس واشنطن مثلاً حيث زار خاشجقي السفارة والتقى مع شقيق ولي العهد، خالد، السفير في العاصمة الأميركيّة) لعلمه أن رجب طيب أردوغان مكروه في الغرب. لكن خاشقجي نجح في مدة قصيرة (وبشروط مهينة لقضايانا العربيّة) أن ينال إعجاب الرجل الأبيض والصحافة الغربيّة. كانت مقالاته (المُترجمة عن العربيّة، ما يوحي أن «تحريرها» استفاد من إسهامات تحريريّة) تنمّ عن الفكر الذي يريده الغربيّون لنا، نحن العرب. وشطرَ تعبيراته بين اللغتيْن، فناصر فلسطين بالعربيّة، وتجاهلها بالإنكليزيّة وطالب بتدخّل غربي لتقسيم سوريا. وعلاقة خاشقجي مع الإعلام الغربي امتدّت لعقود، وكان يسهّل عملهم في المملكة بحكم نفوذه مع الأمراء على مرّ الحقبات الملكيّة. وهناك جانب عنصري في الاهتمام الغربي به، أي إنهم لا يكترثون لما يحلّ بالعرب من قمع وقتل وتشريد، لكن كيف يجرؤ حاكم موالٍ لأميركا على التعرّض لرجل عربي قريب من إعلاميّي وإعلاميّات الغرب؟ أصبحت الإهانة شخصيّة لهم جميعاً.
هل كانت الجريمة ستمرّ لو أن خاشقجي ذهب وحيداً إلى القنصليّة؟ لم يكن محمد بن سلمان حريصاً على إخراج أكثر سريّة وتحضيراً لجريمته وهذا جزء من غروره في السلطة. هو يتمسّك بالسلطة ووجد مخرجاً لنفسه من الأزمة ليس فقط بالتضحية بفريق من مستشاريه وجلاديه بل أيضاً عبر الترويج لفكرة أن الملك بات هو المُمسِك بأمور الحكم من إجل إسباغ شرعيّة عليه وعلى ابن سلمان شخصيّاً. والرجل الذي أبعد كل أفراد الأسرة عن الحكم اكتشف فجأة أنه يحتاج إلى معونة - لا مشورة - خالد الفيصل كي يفاوض أردوغان على صفقة لفلفة (تحدّث الإعلام التركي عن عرض برفع الحصار عن قطر ومكافأة ماليّة كبيرة، وأن أردوغان انتفض لكرامة تركيا عندما سمع العرض).
إن حكم ابن سلمان يعتمد على التخويف والبطش لكن حجم البطش والتخويف بات متوفّراً له بنسبة أقل من السابق. وحكم الفرد الواحد في أسرة حكمت مجتمعة سيصطدم بتجربة العائلة مع طيش السنتيْن الماضيتيْن وتعثّر مغامراته التي بدأت بمجرّد أن استوى أبوه على العرش. إذا كان الحاكم يعتمد على الترهيب والبطش والبأس، فإن تناقص رصيده منها سيضعف حكمه. كل الأنظار العالميّة باتت موجّهة نحوه، وهو لم يعد يعتمد على إعلام الغرب كي يحسّن صورته العالميّة. الحملة ضدّه لا سابق لها في نظام متحالف مع حكومات الغرب. لا يستطيع أن يحتجز الحريري مرّة أخرى (ولو شَهّد مرّة أخرى بولا يعقوبيان أنه حرٌّ طليقٌ في أسره في الرياض) ولا يستطيع أن يختطف أمراء ومعارضين من أوروبا كما فعل في الماضي. مخزونه الضروري من القمع تقلّص ووحشيّة حربه في اليمن باتت تحت المجهر أكثر من قبل بكثير. ولعلمِ خصومه أن مخزونه من الشدّة ينقصُ، إن قدرتهم على معارضته تزداد، وهذا سينهش في عماد حكمه. ووعوده بالرخاء الاقتصادي الموعود مستقبليّاً سيصطدم هو الآخر بتمنّع الكثير من شركات الغرب على الاستثمار في المملكة. نجحت الصحافة الأميركيّة في بلورة رأي عام عريض يربط في الأذهان بين ابن سلمان، وبين القتل بالمنشار. والشركات التي ستتعاون معه ستصطدم باحتجاجات. لن يتلقّى دعوات من قادة «وادي السيليكون» بعد اليوم، إلا بعد مرور أعوام لو استمرّ في الحكم. لم تعد الساحة الأميركيّة مضيافة لزيارته، وزيارته المقبلة –عندما تأتي ولو بعد سنين – ستُواجَه بمظاهرات استنكار تضمّ من الأميركيّين أكثر مما تضمّ من العرب.

إذا كان الحاكم يعتمد على الترهيب والبطش، فإن تناقص رصيده منها سيضعف حكمه


لكن لديه عناصر تخوّله الاستمرار في الحكم. اللوبي الصهيوني نشط كثيراً في الأيّام الماضية لاستنهاض رأي عام موالٍ للنظام السعودي. صحافة المحافظين الجدد أشادت بدور النظام السعودي في «المساعدة في حماية إسرائيل» (وفق وصف ترامب نفسه في مقابلة مع «واشنطن بوست»). وترامب لا ينفكّ يذكّر بحجم (مُبالغ فيه) بالمشتريات السعوديّة من السلاح. لكن ترامب يشعر بتنامي النقمة ضد محمد بن سلمان في الكونغرس. وقد ذكّره صديقه السيناتور لِنزي غراهام بضرورة اعتبار سياسة الواقعيّة في السياسة الخارجيّة وأن تسامحه مع جريمة قتل خاشجقي ستظهره ضعيفاً أمام ابن سلمان وأمام العالم أجمع؛ وليس هناك ما يمقتُه ترامب في السياسة الخارجيّة أكثر من الظهور بمظهر الضعيف. وهذا الأسبوع صدر عنه كلامٌ لا سابقَ له إذ قال إنه سيترك أمر معاقبة السعوديّة للكونغرس. والرئيس الأميركي قلّما يمنح سلطاته في تقرير السياسة الخارجيّة إلى الكونغرس إلا إذا أراد أن يتحمّل الكونغرس المسوؤليّة عن تعامل فظّ مع حليف أميركي. هذا القرار من ترامب يعني أنه بات يميل إلى مناخ الكونغرس في ضرورة التخلّي عن ابن سلمان. لكن السعوديّة تساهم حاليّاً في تخفيض أسعار النفط في موسم انتخابات: وهذه المساعدة باتت تقليداً من تقاليد الولاء السعودي لكل رئيس أميركي.
يستطيع ابن سلمان أن يحكم من دون رعاية ترامب المباشرة أو رضاه. لكن ذلك سيرتّب على المملكة جملة من المشكلات العسكريّة والاقتصاديّة والسياسيّة. إن مقالة تركي الدخيل التي هدّدت أميركا بسلاح النفط وبغيره تنمّ عن تفكير سعودي في خيارات أخرى في حال تخلّى ترامب عن ابن سلمان. لكن لترامب خيارته أيضاً وهو يستطيع أن يرتّب انقلاباً على ابن سلمان. إن العمل على إقصاء الملك سعود استغرق سنوات، وتطلّب تحالف الأمير فيصل (في حينه) مع الجناح السديري من أولاد عبد العزيز. لا يزال الأمير أحمد بن العزيز خارج البلاد، ورغبة ابن سلمان في خطفه (كما خطف غيره من الأمراء) لم تعد متاحة له. ومحمد بن نايف لا يزال يشكّل الحاكم المثالي في نظر الإدارات الأميركيّة المتعاقبة بسبب سجلّه في التعاون مع أجهزة المخابرات الأميركيّة (أما سجلّه الوحشي والقمعي، فهو يُسجّل له لا عليه من المنظور الأميركي).
لم يسقط ابن سلمان، ليس بعد. لكن أباه لن يخلّد ولو وصل إلى العرش فعليه اختيار وليّ للعهد. لكن هذا حاكم لا يأمن حتى لأشقّائه، فكيف يثق بخليفة له؟ إن الخليفة سيشكّل جناحاً في الأسرة بمجرّد إعلان اسمه، والسعوديّة هي غير الأردن حيث يمكن تسمية الرضيع وليّاً للعهد. قد يحكم، وقد يحكم طويلاً، لكنه لن يحكم على نسق حكمه في السنتيْن الماضيتيْن، وفي ذلك مقتلةٌ له.
*كاتب عربي (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)