كشفت تقارير صحافية، في أوائل تشرين الأول/ أكتوبر، أن وزير الخارجية الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، من حزب «الليكود»، يسعى لتوقيع اتفاقيات «عدم عدوان» أو «عدم اعتداء» مع بعض الدول العربية الخليجية، كمقدّمة لاتفاقات سلام مستقبلية معها. وقد غرّد كاتس معلناً: «لقد قدّمت أخيراً، بدعم من رئيس الوزراء، مبادرة سياسية لتوقيع اتفاقيات عدم اعتداء مع الدول العربية الخليجية». وكان كاتس قد ناقش مبادرته هذه مع وزراء خارجية عرب لم يسمّهم، ومع المبعوث السابق للرئيس الأميركي دونالد ترمب، جيسون غرينبلات، أثناء انعقاد اجتماعات الجمعية العمومية للأمم المتّحدة في أيلول/ سبتمبر الماضي. ويبدو أنه قد تم إحراز تقدّم، أدى إلى وصول وفد إسرائيلي إلى واشنطن في وقت مبكر من الشهر الحالي «لعقد محادثات في العاصمة الأميركية حول إمكانية التوصل إلى اتفاقية عدم الاعتداء بين إسرائيل ودول الخليج، مع الإشارة إلى أن واشنطن تعمل مع دول الخليج لتحقيق ذلك». أمّا شروط الاتفاقية، فتتضمن «الامتناع عن الانضمام إلى ائتلاف أو منظمة أو تحالف ذي طبيعة عسكرية أو أمنية، أو عن تمويله أو مساعدته، مع طرف ثالث»، وبأن «أيّ نزاع ينشأ نتيجة الاتفاقية سيتم حلّه من خلال المشاورات». وقد أعلن كاتس عبر إذاعة الجيش الإسرائيلي، أن الوفد الإسرائيلي يتكوّن من ممثلين عن وزارة الخارجية ووزارة العدل، إضافة إلى ممثلين عن مجلس الأمن القومي والجيش. وتماشياً مع ذلك، أورد الموقع الإخباري «آكسيوس» أن نائبة مستشار الأمن القومي للإدارة الأميركية، فيكتوريا كوتس، أجرت محادثات مع أربعة سفراء عرب من المغرب وعُمان والبحرين والإمارات العربية المتّحدة، بشأن توقيع اتفاقيات عدم اعتداء مع إسرائيل. وفي هذه الأثناء، تسعى حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية، منذ أيلول/سبتمبر الماضي، لإبرام «معاهدة دفاع مشترك» مع الولايات المتّحدة، على الرغم من معارضة كبار المسؤولين العسكريين الإسرائيليين، بهدف ردع أولئك الذين تعتدي عليهم إسرائيل من التجرّؤ على الردّ عليها والدفاع عن أنفسهم ضد عدوانها المستمر.

«زوروا فلسطين» ــ تحية إلى بانسكي بتوقيع الفنان WIZ الذي يستعيد مُلصقاً لفرانز كراوس يعود إلى عام 1936

من الجدير بالذكر في هذا الصدد، أن كاتس نفسه، شأنه شأن الحكومة التي يقودها نتنياهو، ليس غريباً على العدوان. فقد كان هذا الوزير الإسرائيلي قد خدم في الجيش كجندي وضابط، كما يفعل معظم كبار المسؤولين الإسرائيليين. وقد كانت كراهيته للفلسطينيين على قدر من العنف والعدوانية، لدرجة أنه تمّ فصله لمدة عام من قِبل الجامعة العبرية المعادية للفلسطينيين في آذار/مارس ١٩٨١، نتيجة أعمال عنف ارتكبها داخل الحرم الجامعي استهدفت فلسطينيين. وكاتس من أكثر المؤيّدين الرئيسيين لمستعمرات المستوطنين اليهود في الضفة الغربية ومرتفعات الجولان، وقد دأب على جمع الأموال لدعمهم، كما عارض، إلى جانب نتنياهو، خطة أرييل شارون لإعادة الانتشار حول قطاع غزة في عام ٢٠٠٥، نتيجة لآثاره السلبية على خطط الاستعمار الاستيطانية اليهودية الإسرائيلية. وهو من مؤيّدي الضم الكامل للضفة الغربية، كما دعا إلى «القضاء على» أو «التخلّص من» قادة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات السلمية، في عملية أطلق عليها اسم عملية «التخلّص المدني المستهدف».
ليس من قبيل الصدفة أن لغة ومفهوم «اتفاقيات عدم الاعتداء»، التي تحاول إسرائيل والولايات المتّحدة إبرامها مقترضة من «اتفاقيات عدم الاعتداء»، التي كانت مهيمنة في النصف الأول من القرن العشرين. فقد ظهرت «اتفاقيات عدم الاعتداء» بين بلدَين أو أكثر في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وشهدت ذروتها في أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين. وقد غدت نادرة منذ الحرب العالمية الثانية، إذ اختارت الدول تحالفات أوسع في هيئات أكبر مثل حلف «الناتو» أو «حلف وارسو». ويعتبر المحلّلون والعلماء السياسيون عموماً «اتفاقيات عدم الاعتداء»، بخلاف التحالفات الرسمية، أنّها تؤدّي تاريخياً إلى الاعتداء من جانب الطرف الأقوى في المعاهدة ضدّ الأطراف الأضعف. من أكثر هذه الاتفاقيات شهرة، اتفاقية ميونيخ عام ١٩٣٨ بين ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا، والتي عملت بشكل أساسي، كما أدرك الاتّحاد السوفييتي محقاً في ذلك الوقت، كتحالف مناهض للسوفييت، بين القوى الرأسمالية ذاتها التي كانت قد غزت روسيا الثورية في عام ١٩١٨، وأطلقت يد هتلر في آخر المطاف لغزو الاتّحاد السوفييتي. وقد تم توقيع اتفاقية ميونيخ في شهر أيلول/سبتمبر ١٩٣٨، وكانت النتيجة الفورية لها، السماح لهتلر بضمّ مقاطعة سوديتنلاند في غرب تشيكوسلوفاكيا، على أساس أن المقاطعة كانت تضمّ غالبية سكانية تعدادها ثلاثة ملايين ألماني، وبموجبها يتم تجنّب المواجهة العسكرية بين ألمانيا من جهة وفرنسا وبريطانيا من الجهة الأخرى. لم يكن أمام تشيكوسلوفاكيا، التي اعتمدت على المساعدات العسكرية الفرنسية (ذلك أنه كان لديها تحالف ومعاهدة مع فرنسا)، خياراً بعد توقيع فرنسا على الاتفاقية، سوى الرضوخ والموافقة على ضمّ هتلر لأراضيها. اقترح السوفييت (وقد كان لديهم بدورهم اتفاقية لتقديم المساعدة العسكرية لتشيكوسلوفاكيا في حالة العدوان الأجنبي) على الفرنسيين والبريطانيين، استعدادهم للدفاع عن تشيكوسلوفاكيا عسكرياً ضدّ العدوان الألماني، لكن الدول الرأسمالية تجاهلت العرض السوفييتي ووقعت الاتفاقية مع هتلر مستثنية السوفييت منها. في نهاية الأمر، لم تردع الاتفاقية هتلر، الذي قام بعد بضعة أشهر من توقيعها، في آذار/مارس ١٩٣٩، بغزو واحتلال بقية تشيكوسلوفاكيا.
على ضوء توقيع اتّفاقية ميونيخ ونتيجة ازدياد القلق من أن يقوم اليابانيون بتطويقهم من الشرق والألمان من الغرب، اختار السوفييت بدورهم التوقيع على «اتفاقية عدم اعتداء» مع هتلر في آب/أغسطس ١٩٣٩، قام بتوقيعها رسمياً وزيرا خارجية البلدين: فياتشيسلاف مولوتوف ويواكيم فون ريبنتروب. كان ريبنتروب هو السياسي الألماني الرئيس، الذي تمّت إدانته في محاكمات نورمبرغ بالمسؤولية عن بدء الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك غزو تشيكوسلوفاكيا وبولندا. كذلك، دعم إرسال اليهود إلى معسكرات الموت. وقد حُكم عليه بالإعدام في محاكمات نورمبرغ، ونُفِّذ الحكم فيه في عام ١٩٤٦. لكن استنكار الغرب للاتفاقية الألمانية ــ السوفييتية في ما بعد، تجاهل أن اتفاقية الدول الغربية المنفصلة مع هتلر في العام السابق هي التي أجبرت ستالين على توقيعها. وقد أمِل السوفييت، الذين كانوا يدركون جيداً العداء النازي لهم والتواطؤ الغربي مع هتلر عليهم، تأخير الغزو الألماني لأطول مدة ممكنة عبر توقيعهم الاتفاقية. وقد تم إلغاء الاتفاقية في حزيران/يونيو ١٩٤١، عقب الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي.
وحيث إن إسرائيل، بوصفها المعتدي الإقليمي الرئيس والقوة المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط بأسرها (على الرغم من أن الأميركيين هم بالطبع المعتدون الأكبر، والسعوديين معتدون مكملون لهم)، قد قامت منذ عام ١٩٤٨ بغزو واجتياح معظم دول المنطقة عدة مرات ــ مصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق وتونس وليبيا والسودان ــ وساعدت في قمع ثورات شعبية في اليمن والجزائر وعُمان في الستينيات والسبعينيات، وبعمليات أمنية في المغرب ودولة الإمارات العربية المتّحدة، فهي الطرف الأقوى في هذه الاتفاقيات الإقليمية المحتملة لعدم الاعتداء.
لا يحيد السلوك الإسرائيلي هذا عن سجل اتفاقيات عدم الاعتداء أو اتفاقيات وقف إطلاق النار، أو حتى معاهدات السلام. فعلى سبيل المثال، استغلت إسرائيل اتفاقية السلام التي وقعتها مع مصر عام ١٩٧٨، كي يتسنّى لقواتها غزو لبنان في العام ذاته وغزوها مرة أخرى في عام ١٩٨٢، من دون أن تقلق من وقوف الجيش المصري لها بالمرصاد. وقد سهّلت اتفاقيات السلام المبرمة بين إسرائيل و«منظمة التحرير الفلسطينية» والأردن، في عامي ١٩٩٣ و ١٩٩٤، توسيع مستعمرات المستوطنين في الأراضي المحتلة عام ١٩٦٧ ثلاثة أضعاف، بما في ذلك في القدس الشرقية وهضبة الجولان (التي كانت إسرائيل قد ضمّتهما سابقاً)، وعبر الضفة الغربية، ناهيك عن المساحات الشاسعة من الضفة التي تسعى حالياً إلى ضمّها، وقد أدت أيضاً إلى حصار كامل لقطاع غزة. علاوة على ذلك، انتهكت إسرائيل كل اتفاقيات وقف إطلاق النار التي وقعتها مع الدول العربية و«منظمة التحرير الفلسطينية» منذ عام ١٩٤٩، من دون استثناء.
يمكننا هنا أن نقارن الممارسات الإسرائيلية المحدّدة بألمانيا النازية، بما في ذلك التوسّع الإقليمي، وضمّ الأراضي المحتلة، والتحريض على الحروب الإقليمية، والمؤسسات والقوانين العنصرية، والعدوان على جيرانها، والأساطير الوطنية لإعادة بناء مملكة قديمة (وبناء «الهيكل الثالث»). ولكن، رغم ذلك، إسرائيل ليست ألمانيا النازية. فبخلاف الأخيرة، إسرائيل ليست قوة عالمية بل هي قوة إقليمية، وخلافاً لألمانيا، فإنها لم ترتكب إبادة جماعية للسكان بل طرداً جماعياً، وهو ما يعنيه أن تطهيرها العرقي لمئات الآلاف من الفلسطينيين والسوريين وقتلها لعشرات الآلاف من الناس، على مدار العقود السبعة الماضية، هي جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
تم إحراز تقدّم أدى إلى وصول وفد إسرائيلي إلى واشنطن في وقت مبكر من الشهر الحالي لعقد محادثات في العاصمة الأميركية


وفي واقع الأمر، ليست إسرائيل القوة الإقليمية الوحيدة في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية التي تشبه سياساتها العنصرية السياسات التي كانت قائمة في العالم في الثلاثينيات. فقد كان نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، شأنه شأن إسرائيل، قائماً أيضاً على القوانين والمؤسسات العنصرية، والتوسع الإقليمي. وقام بانتظام بالاعتداء على جيرانه، رغم أنه، مثله مثل إسرائيل، وبخلاف ألمانيا، لم يرتكب إبادة جماعية للسكان على الرغم من سياسات التطهير العرقي وسياسات قتل المدنيين التي مارسها. وشأنه شأن إسرائيل، فقد قام نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا بالضغط على حكومة موزمبيق الثورية لتوقيع اتفاقية عدم اعتداء معها في عام ١٩٨٤، وهو ما رضخت له الأخيرة نتيجة القصف المستمر لموزمبيق والتدمير الذي كانت تمارسه جنوب أفريقيا، ناهيك عن رعاية جنوب أفريقيا لميليشيات «رينامو» الإرهابية التي كانت تسعى لتقويض الثورة في موزمبيق. في المقابل، تعهّدت موزمبيق بعدم السماح بوجود قواعد على أراضيها تابعة لمنظمة المؤتمر الوطني الأفريقي، التي كانت تناضل ضد نظام الفصل العنصري في تلك الفترة لتحرير جنوب أفريقيا. وفي أعقاب تحييد موزمبيق من خلال الاتفاقية، واصلت جنوب أفريقيا انتهاكها للاتفاقية، عبر العديد من التوغلات العسكرية التي لم تتوقف داخل موزمبيق.

ظهرت «اتفاقيات عدم الاعتداء» بين بلدَين أو أكثر في أعقاب الحرب العالمية الأولى وشهدت ذروتها في أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين


إذا كانت السوابق التاريخية لاتفاقيات عدم الاعتداء مؤشراً، واتفاقيات السلام الإسرائيلية مع الدول العربية ومنظمة التحرير الفلسطينية قد علّمتنا شيئاً، فهو أن اتفاقيات عدم الاعتداء المخطط لها مع أنظمة الخليج والمغرب هي مقدمة لعدوان إسرائيلي جديد، وليس فقط ضد هدفها الرئيس إيران، العدو المشترك والمعلن، ولكن أيضاً ضد لبنان وسوريا والعراق والفلسطينيين. والمفارقة هنا، هي أن يسرائيل كاتس وحكومة نتنياهو العدوانيين للغاية، هما من يسعى لإبرامها. فلن تخدم الاتفاقيات المرتقبة الاعتداءات الإسرائيلية فحسب، بل ستخدم في المقام الأول تلك الاعتداءات التي تقوم بها الولايات المتحدة، والتي يمكنها، مع تحييد حتى المعارضة السياسية البروتوكولية من جانب الموقعين، المضي قدماً مع الإسرائيليين لغزو إيران وتوسيع وجودها العسكري عبر شبه الجزيرة العربية. وعلاوة على ذلك، فإن التوغلات الإسرائيلية والأميركية المستمرة في سوريا والعراق (وقد قامت إسرائيل بقصف الأخيرة قبل بضعة أشهر) والهجمات الإسرائيلية على لبنان، قد تؤدي إلى اجتياحات إسرائيلية شاملة لخدمة مصالحها الخاصة ومصالح الراعي الأميركي. والأهم من ذلك بالنسبة إلى الإسرائيليين، هو أن هذه الاتفاقيات سوف تسهل ضمّها النهائي للضفة الغربية وإنهاء جميع الصفقات السابقة مع السلطة الفلسطينية المتعاونة، من دون أن تستطيع الدول العربية الموقعة على الاتفاقيات حتى التمتمة، ناهيك عن الاعتراض.
لقد وصف رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين اتفاقية ميونيخ التي وقعها مع هتلر، بأنها أدت إلى «سلام مشرّف. أعتقد أنه سلام عصرنا». ولقد عارضه وينستون تشرشل، وكان أكثر عدوانية من تشامبرلين، وأعلن أن ما تم عرضه على إنكلترا من قبل الألمان كان خياراً بين «الحرب والعار». فإذا كانت أنظمة الخليج والمغرب ستتكرم وتوقع مثل هذه الاتفاقيات مع المستعمرة الصهيونية العدوانية، فما ستقوم بالتوقيع عليه ليس خياراً بين «الحرب والعار»، بل هو الحرب والعار بذاتهما.

* أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا في نيويورك، وقد صدر له حديثاً كتاب الإسلام في الليبرالية عن جداول للنشر في بيروت (٢٠١٨) وكتاب آثار استعمارية: تشكّل الهوية الوطنية في الأردن عن دار مدارات، القاهرة (٢٠١٩).