تشكّل «صفقة القرن» مناسبة للكثير من الكلام، منه ما هو وجيه ومنه ما هو حشو زائد، هناك من يقول إنها مناسبة للهروب إلى الأمام، أو ربما الهروب إلى الخلف. فيما يجدها البعض مناسبة لإنهاء أوسلو. وهناك من يقول إنها مناسبة لإنهاء الانقسام. ويعتبرها آخرون مناسبة لإعادة الصراع إلى أصله من حيث بدأ من النكبة. ولأنّ «صفقة القرن» هي مناسبة المناسبات كلّها، فهي تحمل في طياتها مآسي ومحناً وأخطاء وخطايا لقرن من الصراع ويزيد، بكل محطّاته ومنعطفاته وتعرّجاته يميناً ويساراً، ومطبّاته صعوداً وهبوطاً، لذلك بالإمكان اعتبارها فرصة مناسبة لكلّ ردود الفعل ــ وبغض النظر عن الشكل والمضمون الذي يريده كلّ رأي سياسي ــ ردّ فعل جزئي، كلّي، جذري، مرن. كل الطروحات من أيّ مصدر أتت، قد تحمل شيئاً من الخطأ أو الصواب، قد يكون تحليل الوضع صائباً، لكن تقدير الموقف غير متناسب معه. وقد نقع في خللٍ بين ما نريد وما نستطيع تحقيقه بحكم محدودية قدراتنا، ارتباطاً بتحالفاتنا والهوامش المتاحة بحسب المعطيات الدولية والعربية كظرف موضوعي. ما أقترحه هو اعتبار «صفقة القرن» فرصة مناسبة للصمت! الصمت الإيجابي، الصمت الذي يتيح لنا التفكير الجدّي والعميق، لقراءة لوحة الصراع بشكلها الشامل، وفحص كل جزئية من «البازل» المشهد المعقّد والمركّب الذي نعيش في وسطه، حتى يتسنّى لنا قول ما يجب أن يُقال، والأهم كيف يمكن تنفيذ ما نقوله، مع تقدير حجم الارتدادات لكلّ فعل وتداعياته.
الغريب والمستهجن أن تسمع آراء قاطعة ونهائية، وكأنّها أنضجت مشروع مواجهة بغلوة قهوة، فكلّ المخاطر التي يواجهها الشعب الفلسطيني وقضيّته اليوم أمر سهل! ربما بسهولة كتابة مقال أو نشر بوست على صفحة حساب في موقع «فايسبوك». الأخطر من المخاطر ذاتها هو هذا المنطق، الذي يقيس ويفصّل ويلبس وهو في صومعة معزولة، فكرة الآخر في مخيّلته محدودة جداً ومشوّهة، فهو إمّا عدو أو خائن وعميل، أو في أحسن الحالات معتوه! أمّا وصفاته فيجب اتّباعها بلا نقاش. لأنها ببساطة صائبة وسهلة وغير مكلفة، والجهد الذي يبذله في كتابة مقال أو نشر بوست، هو ذات الثمن الذي يدفعه الناس المعنيون بهذه الوصفات، والمطالبون بسلوك هذا الطريق أو ذاك. مع العلم أنّ هؤلاء لا ينتظرون من أحد الإرشاد والتوجيه، ولا حتى الثناء على ما دفعوه وما زالوا يدفعونه من أثمان باهظة.
هذه ليست دعوة لعدم الإدلاء بالآراء أو إطلاق المواقف، هذا مهم ويجب أن يستمر، لكن برأينا المتواضع، أنّ المشكلة في أن تبقى المواقف والآراء متناثرة وفردية، بل وتحمل مضموناً إقصائياً، بمعنى، تصرّ على فرديّتها، باعتبارها الحقيقة الكاملة المطلقة، وأي اختلاف هو بالضرورة افتراق كلّي، يشرّع التشهير والتخوين والإساءة. هذه وصفة سحرية ليست فقط لضرب أي تقاطعات محتملة مع الآخرين، بل لكشف هشاشة التفكير الكامن وراءها، والذي يقدّم شعارات ثورية جوفاء لا بدائل ناضجة، أو استراتيجيات عمل تتعامل مع كلّ العناوين المطروحة كتحديات. وكل عنوان هو بحدّ ذاته قضية شائكة ومعقّدة، ويحتمل العديد من الاحتمالات والخيارات.
ما يجب أن نتذكّره جميعاً، أنّ ما نحن بصدده هو القضية الوطنية الفلسطينية بكل أبعادها ومعانيها، وهي تهمّ كلّ شرائح شعبنا في كلّ أماكن وجوده، وبالتالي فإننا مطالبون بالتروّي في التعامل مع الاستحقاقات والتحديات الماثلة. هي مسؤولية جدية تحتاج إلى مقاربات دقيقة ولا تحتمل الضجيج، وخصوصاً إذا كان مفتعلاً.
إنّ الطريقة التي نتعامل بها مع الاستحقاقات المطروحة اليوم، وهي تحديات مصيرية شاملة، هي جزء من عملية المواجهة، بل هي أساس عملية المواجهة، أي أنّ الانفعال والارتجال والصراخ والاتهامات والمواقف الإقصائية، تُبيّن أنّنا نفتقد الأداء المنهجي والعلمي في التعامل مع هذه التحديات، بل وأكثر من ذلك، تكشف عدم فهمنا وتقديرنا لحجم المخاطر الكامنه والماثلة أمامنا، وهي بمثابة مقدّمات للفشل المحسوم.
لذلك، الامتحان الأول للنجاح لنا هو امتلاك منهجية ممارسة علمية وعملية، تستطيع أن تحقّق العديد من النقاط لصالحنا، وتكون بمثابة مقدّمات لتحقيق دحر وفشل مشاريع الأعداء ومخططاتهم، وهذا ما تعلّمناه من دروس عبر تجاربنا الطويلة كشعب وأحزاب.
إن التنظيم يعاظم القوة ويمنع تبديد القدرات وينظّم الاختلاف ويمنع الشطط ويحافظ على اتجاه الجهد الرئيسي. ولا بدّ من البحث عن القواسم المشتركة مع الآخرين، طبعاً تحت سقف الثوابت الوطنية، التي أكدتها تجاربنا المريرة وطوال سنوات اختلاق الوهم (أوسلو)، بإمكانية التسوية مع عدو من طبيعة استعمارية إحلالية، ورأس حربة لمشروع إمبريالي يتجاوز المنطقة. المطلوب هو خلق مناخ يسمح بتفاعل الأفكار والمواقف والآراء المطروحة، لتشكيل ما نسمّيه كتلة تاريخية فلسطينية عربية، تحمل مشروع مواجهة. المقاومة كعملية مواجهة مباشرة مع العدو موجودة، ويجب أن تستمر في كلّ المواقع حيث تسمح الظروف ومعطيات الميدان، فرغم كلّ ما جرى من تهشيم وتكسير عناصر قوة الشعب الفلسطيني، هذه المقاومة لم تتوقف، ربما خفتت في موقع أو ضعفت في آخر، ولكنّها تصاعدت في مواقع أخرى.
إذاً، نحن لسنا بصدد الإجابة عن سؤال، مع المقاومة أو ضدها، لأنها ليست خياراً بل هي قدر الشعوب التي تكون عرضةً لمشروع استيطاني إجلائي من النوع الذي نحن بصدده. نحن أمام تحدّي إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني التحرّري بظروف المرحلة، بل ويحتمل القول إعادة صياغة الإجماع الفلسطيني على شرعية برنامج نضالي جديد، ما يحتاج إلى إعادة تأطير الشعب الفلسطيني وتنظيم طاقاته وتوظيفها خدمة لهذا الغرض.
لسنا بصدد الإجابة عن سؤال مع المقاومة أو ضدها لأنها قدر الشعوب التي تكون عرضةً لمشروع استيطاني إجلائي


الاعتقاد بإمكانية نجاح مشروع مواجهة فلسطيني فقط لـ«صفقة القرن»، بدون عمق عربي شعبي، هو خفة وارتجال وقفز في الفراغ، فما بالنا بالاعتقاد بإمكانية تحمّل فصيل فلسطيني لوحده عبء المواجهة أو أن نختزل مشروع المواجهة بجملة من المواقف الثورية النارية الانفعالية، من دون التفكير بأهمية إيجاد مرتكزات البديل الشامل من خلال تشكيل الكتلة التاريخية المشار إليها، أي نضوج رؤية فلسطينية عربية حول نقاط برنامجية لطبيعة المواجهة. وهي ليست تشكيلاً تقليدياً مكرراً وممجوجاً، على شاكلة همروجة المؤتمرات القومية والإسلامية والأحزاب العربية، بل هو تشكيل لقوى ذات عمق شعبي حقيقي، ومستعدّة لحمل مشروع مواجهة ودفع كلفته، وليست مشغولة بتبييض صورة النظام الذي هي جزء منه. بل لكشف تواطؤ النظام الرسمي، وكشف تساوقه مع مشروع «صفقة القرن».
فهمنا لطبيعة المشروع الصهيوني واستهدافه للوطن العربي، ليس فهماً سطحياً، بل يعني أنّ وجود الكيان الصهيوني هو مصلحة لقوى وشرائح عربية تشكل قاعدة طبقية للنظام الرسمي العربي، ومشاريع تصفية القضية الفلسطينية تمثل مصالح هذه القوى وهذا النظام الرسمي، وبالتالي ميدان مواجهة «صفقة القرن» واسع، ولا يقتصر على مساحة فلسطين، بل هو ميدان مركّب ومتشعّب عربياً وفلسطينياً وحتى إقليمياً ودولياً. لأن منظمة التحرير الفلسطينية مثلت هذه الكتلة التاريخية بأبعادها الفلسطينية والعربية والدولية، استحقت وصفها بالمنجز التاريخي، لذلك ليس مطلوباً السعي لخلق بديل عنها، بل المطلوب استعادة ما افتقدته من مضمون جرّاء ما ارتُكب باسمها من خطايا، الهدف هو إعادة المنظمة إلى موقعها كحركة تحرّر وطني فلسطيني في مواجهة مشروع استعماري إحلالي، وعلى هذا الأساس لا يجوز حصرها في بقعة جغرافية تحت قيد الاحتلال، وتكبيلها وتحويلها إلى أداة من أدوات تدمير القضية الفلسطينية.
لا مستقبل لدور المنظمة في الضفة المحتلة إلا بحدود مصلحة الاحتلال، التي هي بعكس ما نرغب به كمرجعية وطنية جامعة للكل الفلسطيني. ولا مستقبل لدور غزة وتشكيلها السياسي والكفاحي، إلّا في سياق رؤية وطنية فلسطينية جامعة تتكامل فيها الأدوار، وتتفاعل في سياق استراتيجي موحّد وتحقيقاً لأهداف وطنية مجمع عليها.
هذا المعنى التحرّري الشامل للمنظمة يفرض ضرورة سحب رأس هيكلها التنظيمي من تحت قيود الاحتلال (مؤسساتها القيادية، المجلس الوطني واللجنة التنفيذية والمجلس المركزي وكل الإدارات الرئيسية)، وتحرّرها كمرجعية سياسية وطنية من كل الاتفاقات الموقعة مع العدو، وهذا يعني حكماً تحررها من قيود وسياسات الأنظمة العربية ويترتب على ذلك شكل ما من أشكال المواجهة. هذا بحدّ ذاته إشكالية، لأنها أصبحت في محور الشعوب وليست في محور الأنظمة.
هل ثمة جغرافيا تستطيع أن تتحمل هذا الدور وما يحتاج له من هوامش للحركة، هوامش تتيح لها إبراز شخصيتها وحرية القيام بدورها، وما يستدعيه من تداعيات على كلّ المستويات؟
الخروج من التسوية بمعناها الشامل، فكرةً وثقافةً ومساراً سياسياً، يحتاج إلى تموضع استراتيجي آخر، هو على نقيض تام مع التموضع الاستراتيجي الذي قاد إلى «صفقة القرن». هنا تكمن قيمة وأهمية العمق الاستراتيجي في المواجهة، وكيف يمكن الإفلات من قيود الأنظمة العربية، في تضييق هوامش الحركة لمنظمة استعادة دورها التحرّري؟ وصارت على نقيض أدوارهم، لذلك من الضروري استعادة دور الشعوب لتكتمل المعادلة.
إن استعادة المنظمة ودورها هو مركب من ضرورة استعادة دور حركة التحرّر العربية، وكي لا نقع في فخ أيهما أسبق الدجاجة أم البيضة، فنحن لسنا في مسارات متتالية بل هي متوازية ومتقاطعة متداخلة، تأتي في سياقات تراكمية كلّما نضجت مهام تبلورت مهام أخرى.
بكلّ الأحول، ثمة دور فلسطيني طليعي بحكم اشتباكه المباشر مع العدو، ويعمل كمحفّز له تداعيات مهمة على مختلف الأصعدة. أكثر من شعر بالضياع والفقدان، جراء توقيع اتفاقات أوسلو وما تلاه من الموبقات، هم اللاجئون، كانت المنظمة كيانهم وحامل طماحاتهم، من خلالها استعادوا حضورهم ودورهم، باعتبارهم جوهر القضية الفلسطينية، وإصرارنا على هذا الفهم، يفرض علينا أن نجدّد فهمنا لواقع اللاجئين الذي طالته التشوّهات والتبدلات وتحوّل بشكل جذري عميق على مدى السنين، من الانكسارات وإحباطات، والكثير من الإهمال والسخط والغضب والضياع.
عن أي لاجئين نتحدث؟ لبنان، سوريا، الأردن، عن الأعداد الكبيرة التي تناثرت بازدياد جرّاء فوضى ما سُمي بـ«الربيع العربي» في أوروبا والأميركيتين، كيف يمكن إعادة تنظيم هذه الطاقات؟ وتحديد وظائف وأدوار هؤلاء بما ينسجم مع ظروف وخصوصيات كل تجمّع.
الحديث عن دور اللاجئين في مشروع المواجهة القادم، يستدعي الكثير من الأسئلة، ما هي الدروس المستفادة من تجربتي الأردن ولبنان وتاريخ العلاقة مع سوريا التي شكّلت عمقاً وما زالت لكل مشروع مقاوم؟ اللاجئون، عموماً، هم مفاصل التشابك لتحقيق العمق الاستراتيجي بأبعاده العربية والإقليمية والدولية، وتوظيف هذا الانتشار يوسع هوامش التفاعل في هذه الأبعاد، ولكن من دون إقحامهم الانفعالي الارتجالي في متاهات هم بغنى عنها، لأنها تضعف من دورهم وحركتهم. وظيفة التفاعل والتشابك يجب أن تحدّد طبيعة الدور وضوابطه، بحدود التفاعل مع الدور الشعبي العربي وليس الحلول مكانه.
هذه العناوين وغيرها الكثير بحاجة إلى بحث ونقاش وإنضاج، وتوفير تقاطعات وقواسم مشتركة حولها، مع أوسع مشاركة لتقديم مشاريع تصورات لحلول وإجابات عن الأسئلة الملحّة، حتى لا تتسع المتاهة وتكون أسوأ، والضياع أكبر من أن تحتويه حلول متسرعة أو مبتسرة.
لدينا زاد ثمين من التجارب هو كنزنا الذي لا ينضب، دفعنا ثمنه دماً وتضحيات وهو ملك الأجيال، حتى لا يتكرر الارتجال والتسرّع والمقامرة. والآن، الإبداع والابتكار في اجتراح الحلول والإجابات هو الأساس، فإنّ الإقرار بمنطق الحياة والتجديد مسار إجباري، تتوقف عليه القدرة على الارتقاء بفهمنا لمهماتنا الكفاحية ووسائل نضالنا لتستفيد مما يقدمه هذا العصر من إمكانات وتقدم علمي وتقني.

*عضو اللجنة المركزية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين