في كلمة ألقاها في الثامن من الشهر الجاري، قال الرئيس الأميركي جو بايدن في تبرير للانسحاب الأميركي من أفغانستان، الكلمات التالية: «نحن لم نذهب إلى أفغانستان من أجل بناء أمة، الأمر الذي هو حق ومسؤولية الشعب الأفغاني وحده... \نحن \ ذهبنا إلى هناك من أجل جلب أسامة بن لادن ولإنهاء قدرة تنظيم القاعدة على تنظيم هجمات من هناك».من يراجع ما قيل في واشنطن من قبل إدارة بوش الابن في فترة ما بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر \ أيلول 2001، والتي أعقبها بعد أربعة أسابيع غزو الأميركيين لأفغانستان، يلمس مدى ابتعاد بايدن عن الوقائع والحقائق....ففي فترة نهاية نوفمبر \ تشرين الثاني 2011 قام بول وولفوفيتز، نائب وزير الدفاع الأميركي، بجمع (طاقم تفكير)، ضمّ المستشرق برنار لويس، ومارك بالمر المختصّ في الديكتاتوريات وهو سفير سابق في هنغاريا، وفريد زكريا وهو من أصل هندي ويكتب عموداً للرأي في «نيوزويك»، وفؤاد عجمي وهو باحث في شؤون الشرق الأوسط ، وآخرين. المذكّرة التي قدمتها تلك المجموعة في الشهر التالي تمّ رفعها إلى الرئيس بوش ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد ومستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس. المذكّرة وهي في سبع صفحات عنونت بـ DELTA OF TERRORISM. مصطلح (دلتا) يُستخدم بالإنكليزية للإشارة إلى فم النهر الذي يبدأ منه الجريان. الإرهاب رُبط هنا بالوضع في منطقة الشرق الأوسط التي ترى المذكّرة أنها مصابة «بمرض خبيث MALIGNANCY» وأن هجمات 11سبتمبر «ليست فعلاً معزولاً» عن «الوضع هناك...\و\الطريقة الوحيدة هي الاتجاه نحو TRANSFORM تشكيل (تحويل) المنطقة» (يمكن الاطّلاع على التفاصيل الكاملة من خلال كتاب بوب وودوورد: «حالة إنكار»، منشورات سيمون وشوستر، لندن 2006، ص83-84-85، طبعة جيب).
هنا، يجب الإشارة إلى أن بول وولفوفيتز هو من أعمدة اتجاه المحافظين الجدد، الذي سيطر فكرياً على إدارة بوش الابن، وكان تروتسكياً سابقاً قبل أن يتجه نحو اليمين بتأثير الفيلسوف ليو شتراوس (ت1973) أستاذ علم السياسة في جامعة شيكاغو. كان العديد من أعمدة هذا الاتجاه موجودين ضمن الإدارة الأميركية آنذاك، مثل أبراهام شولسكي، مدير مكتب الخطط الخاصة الذي كان أساسياً في غزوَي أفغانستان والعراق. كان رأي هؤلاء التروتسكيين السابقين عندما اتجهوا إلى اليمين شبيهاً برأي ليون تروتسكي الذي نادى بثورة دائمة للوصول إلى (الاشتراكية ) عبر تصدير الثورة، وهم، مثل وولفوفيتز وشولسكي، كان رأيهم تحويل العالم نحو النموذج الأميركي من خلال استخدام القوة لإيصاله إلى (الديمقراطية) و(اقتصاد السوق)، وبالتالي أرادوا، خلافاً لما يقوله بايدن، «بناء أمم» عبر إعادة تشكيلها وصياغتها. وفعلاً عقب هجمات11 سبتمبر2001، تم ربط الإرهاب بالإسلام الوهابي من قبل الأميركيين، بحكم أن 15من 19من منفذي الهجمات على نيويورك وواشنطن كانوا سعوديين وهو شيء مدروس بالتأكيد من أسامة بن لادن وأيمن الظواهري لإقامة شرخ بين واشنطن والرياض، كما ربط الإرهاب بالديكتاتوريات، وعلى الأرجح أن الاتجاه الأميركي الذي تبلور بالانفتاح على جماعة الإخوان المسلمين بدءاً من عام 2005 كان لاستخدام تلاميذ حسن البنا ضد أسامة بن لادن، وكانت التضحية الأميركية بزين العابدين بن علي وحسني مبارك عام2011 لمصلحة (الإخوان) ضمن سياق هذا الاتجاه الأميركي الذي سرعان ما تخلّت عنه واشنطن في صيف2013 وعادت إلى استخدام العسكر من أمثال السيسي.
وفعلاً، فإن الاتجاه المحلي في بعض المعارضات العربية نحو المراهنة على الخارج الأميركي من أجل إحداث تغيير داخلي كان مبنياً على نظرية «بناء الأمم»، وقد استذكرت من قبل هؤلاء كثيراً تجربتَي الأميركيين مع ألمانيا واليابان عقب الحرب العالمية الثانية، كما أن نظرية رياض الترك حول (الصفر الاستعماري) تنطلق من نظرية «بناء الأمم» عندما قال بأن الأميركيين قد نقلوا عبر الاحتلال «المجتمع العراقي من تحت الصفر إلى الصفر» (حديث مع جريدة «النهار»، 28 أيلول 2003 )، وكان مبرّر هؤلاء في الاستعانة بالخارج بأن «الديكتاتوريات قد جفّفت ينابيع التغيير الداخلية».
هنا، وبالتأكيد وبمعزل عن صدق أو حالة إنكار جو بايدن، فإن بايدن، وقبله أوباما وترامب، يمثلون ثلاثتهم اتجاهاً أميركياً أصبح يسود الحزبين، الديمقراطي والجمهوري، نحو التخلي عن نزعة «بناء الأمم» التي كانت مثل اللوثة المرضية التي أصابت الإدارة الأميركية لجورج بوش الابن عقب هجمات 11 سبتمبر 2001، كما أن كلام بايدن يعكس ليس فقط الفشل الأميركي في أفغانستان والعراق، وإنما أيضاً انتصاراً لـ «الاتجاه الواقعي» للتعامل مع الوقائع القائمة، وهذا اتجاه موجود منذ السبعينيات مع هنري كيسنجر بما فيها اتجاهه نحو سياسة الوفاق والتعايش السلمي مع الاتحاد السوفياتي، من أجل تمرير أهداف السياسة الأميركية.
* كاتب سوري