سُئل الحلاج في السجن ما الحب، قال سترونه اليوم، وغداً، وبعد غد. قُتل الحلاج في اليوم نفسه، وفي اليوم التالي قطّع، وفي ثالث يوم حُرق وذرّ رماده في الفرات. أما سيد قطب، فسئل يوم إعدامه عن الشهادتين. قال له السجان تشاهد ستُعدم بعد قليل. رد قطب: ما فعلت كل ما فعلت، إلا من أجل هاتين الشهادتين. يمثّل الرجلان حالتين مختلفتين من حالات الرفض للسلطة القائمة، اتُهم الأول بالزندقة والكفر والولاء للشرق –تحديداً القرامطة-، فيما اتهمت الدولة الآخر بتكفيره الناس وبخدمة الغرب. لكن الرجلين وبكل تأكيد اختصرا خزيناً من الثقافة والفكر، وأجوبة مفارِقة في التطلع للحياة وللمعرفة وللزمن، وهو ما سنحاول الإصغاء إليه، في هذا الحوار المفترض بينهما.

غير آبهين بالتاريخ وما كان أو سيكون، يختار الاثنان مجلسهما بعيداً عن أعين الخلق. لم يثق الرجلان يوماً بالمدينة وأهلها. هي جاءت قطب بدم كذبٍ وكادت في غير مرة أن تقتله. أما الحلاج فمُعرض عن المدينة مذ هجر بغداد قاصداً أقاصي الشرق. هنا وعلى مقربة من القاهرة يجلس الرجلان حائرين من أين يبدآن، من دجلة؟ أو النيل؟ من ترحالهما في الشرق والغرب؟ أم من الحداثة المعاصرة؟ كان قطب مبادراً كعادته لسؤال الحلاج عن الموت، ما الموت؟ تعجّب الحلاج عن معنى السؤال وعن بدء قطب حواره بالسؤال عن المعنى؛ يا سيد، قل لي، ما وجه سؤالك؟ وما هيأته؟ تبسّم سيد قطب متذكراً سؤال كيركيغارد عن وجه الفلسفة. في سرِّه كان قطب مقتنعاً أن الحلاج وجودي النزعة وإن شاب تصوّفه بعضٌ من الإشراق. لا يا منصور –وكان الحلاج ينادى باسم والده- إن سؤالي عن الموت مبتسمٌ رد قطب.
«من الصعب تعريف الموت، إنه كما الحب حالة شعورية خاصة. لكل منّا موته الخاص. أنا يا سيد لم تقتلني المشنقة بل قتلتني وردة رماني بها ذاك المريد. يبدأ الموت لحظة ولادتك ثم يصير صنيع يديك، فتأمل. هل يجهل أحد منا موته؟» لم ترق الإجابة سيّد قطب، فسيّد يخشى الأسرار والأسئلة المبهمة. أما الحلاج، فبدا متحذراً من بحث قطب عن الإجابات بدلاً من الأسئلة.
إن نفي الصوفي للجسد
إنما له مُرادٌ بتجريد السلطة من فاعليّة قوتها

كان الحلاج مقتنعاً أن السؤال أحقّ بالإسلام وبالإيمان، وبأن السؤال وحده يحيلك أبداً على الآتي. يعتمر الزمن بذكر أهل الحق، ويزداد الحق جمالاً بمعرفتنا له. لا يبدو الزمان سكونياً بنظر الحلاج -على الضد من قطب-. يرى قطب في الزمن هجراناً ومدعى للوحشة. هو يريد كما جلّ أهل التصوّف العودة إلى مقام «ألستُ!»؛ يوم شهد الأشهاد بوحدانية الله وربوبيته. أما الحلاج فمختلفاً يبدو بعض الشيء. هو يرى أن الوجود كله في مقام الـ«عند» بزكاة أهل التجانس. بالشهادة يصير الزمان كله في مقام الـ«عند». الـ«عند» هذه لا تقبل بذاك الحب العذري الأفلاطوني الذي يراه قطب. هي لا تقبل بالنور ولا بالدفء، بل تريد كلها الفناء كيما تعود.
أراد الحلاج مفاتحة قطب بتجربته الشعرية وفي موقفه من اللغة. الشعر بالنسبة لقطب، سبيل آخر للتعاطي مع الذات، هو لا يتطلع لتضخيمها كما فعلت الفلسفة، ولا لتذويبها كما فعل العلم. الشعر كشف للمساحة الملتبسة بين الإنسان ونفسه، إنه سؤال عن النفس بأسلوب النفس عينها. أما اللغة فهي لم تكن في يوم من الأيام مسألة خبيئة. برأي قطب، الأرض تُعمر بالحضارة والدلالة. وللعمران في الأرض فضاءان؛ واقعي ولغوي، يتساوقان ويتوازيان. مختلفاً عنه بدا الحلاج في مقاربته. هو كان يرى في اللغة سلطة متعالية على كل سلطة. وكان يخشى أن تأسر المدينة اللغة فتفعل بها فعلها بأشيائها. كان ثمة أمر ما يحول دون تنازل الرجلين عن موقفهما، فلربما كان في إصرار الحلاج على إعلاء اللغة، محاولة لإخراج اللغة من آصرة التاريخ والسلطة السياسية. ولربما التمس قطب ذلك الشيء في ثنايا كلام منصور، وهو ما دفعه ليؤكد في غير مرة عزمه تطهير التاريخ من سلطته الزمنية غير المقدسة.
لم يكن الحلاج معارضاً لطهرانية قطب تلك، لكنه كان يرى في السلطة ما هو أبعد من مسألة وجودها نفسها. ثمة تماثل بين السلطة والجسد، فكما الجسد لا ينوَجد غير مستتبَع أو ملحق بذات أو أنا، كذلك السلطة. هي لا تظهر في هذا العالم إلا وهي مستتبعة بذات أو أنا. يوافقه قطب. يقول له إنه أراد من الحاكمية أن يحرر السلطة من استتباع الذات الإنسانية، لجعلها صنوَ الحقيقة الخالصة. لا يقبل الحلاج بذلك. برأيه، ثمة استحالة في مطابقة الحقيقة والسلطة، شبيهة باستحالة مطابقة الذات مع الجسد، أو الجسد مع الأنا. كل جسد ذاتي، لكن فارقاً بينهما يستدعي الذات في كل مرة لترى نفسها في الفكر أو النفس لا في الجسد، أو لنقل في ذاك المنفصل عن الجسد وإن وجد معه.
يشير الحلاج إلى جسده قائلاً: إن نفي الصوفي للجسد إنما له مُرادٌ بتجريد السلطة من فاعليّة قوتها. الصوفي هو الرافض الأول للسلطة بما هي احتياز وسلطة على كل جسد. ربما ذاك ما يجعل من ثقافة التصوف ثقافة رافضية في التاريخ بشكل عام. يواجه الصوفي السلطة بالسُماع وبالحب، ويقهرها بالفكر وتأويل اللغة. يقاطعه قطب سائلاً: ولما يُهمل الفكر الجسد، -الموضوع الأقرب لكل حب-؟ ولما ينأى الفكر عن هذا الأقنوم الموجود وحده «في كل آنٍ وهُنا»؟ يشير قطب إلى جبة الحلاج سائلاً: هل ثمة شيء تحت هذه الجبّة غير الله؟ يُعرض الأخير عن الإجابة ويشيح بوجهه ناحية القاهرة.
سأل الحلاج قطب عن القاهرة وحالها. تنهد قطب؛ إن سؤالك عن القاهرة كسؤال سُئلته أنت يوماً عن الحب. ما الحب؟ تنهّد الرجلان. بدا وكأن لكل منهما فهمه الخاص وإجابته، لكنهما -ولغاية ما- لم يريدا البوح ولا المزيد من الأسئلة. كانت الساعة تشير لانتصاف الليل، عندما تركتهما يستكملان حديثهما.
في الطريق إلى القاهرة رأيت الفقراء نائمين بالعراء. هم لم يكونوا آبهين بما يمكن أن يكون قد تبادله الرجلان. لكن الحال يقول إن ثمة كثيراً من الغياب ومن الحضور لهذين الرجلين، في مساءات القاهرة وفضاءاتها، في الفرح الفاطمي، وفي يوميات الحزن العادي. في الطريق، كان حديث إيميل درمنغهام عن الولي يراودني: سيظلّ قتل الولي أبداً، بمثابة الشكوى المقدمة ضد هذا العالم. إن وجود الولي بين الناس إهانة للظالمين. يقول درمنغهام: سيظل موت الولي يرعب جلاديه، وقد يكون في منحه درجة الولاية نصراً للعقيدة وللحب وللأمل.
* باحث لبناني