مذبحة أم مجزرة أم ما يفوق معنى المفردتين؟ سيقع العلّامة مرتضى الزبيدي صاحب «تاج العروس من جواهر القاموس» في الحيرة، وهو يراقب الصور المتدفقة من الشاشة، ذلك أن ما كان يشاهده من وقائع جحيمية في مدينة غزّة لا يستقيم في المعنى المتداول للمفردة، سواء أفي ما جاء في أواخر الكلمات أم في أولها! فكّرَ أن يستنجد بسلفه الفيروز آبادي صاحب «قاموس المحيط» ليسعفه في توصيف ما يحدث بدقّة، إلا أن الجحيم كان أعلى بدرجات مما يفسّر معنى مذبحة أو مجزرة أو حتى مهلَكة! حاول أن يستعيد صورة غزة القديمة في رحلته الأخيرة من الحجاز إلى فلسطين وصولاً إلى مصر، وإذ بهذه المدينة الكنعانية كانت دوماً في مرمى الغزاة القدامى والجدد، ولكنها لم تشهد يوماً، مثل هذه الأهوال والمهالك. كان عليه أن يرمم معجمه بما يفيد أنه «نسخة منقّحة ومزيدة»، فآلة القتل الإسرائيلية أسرفت في استعمال أفعال العنف والتهجير والإبادة، ما يضع كل ما سبق في باب «الأضرار الجانبية» بالمقارنة مع وحشية الذبح. لجأ إلى الجزء الرابع من «تحفة العروس» لاستدراك ما فاته من مصدر كلمة «مذبحة»، فوجد أنّ «المجزرة أشد وحشية من المذبحة، إذ إن المجزرة تدل على العداوة الشديدة بين الطرفين المتحاربين وأنهما قد يأكلان من لحم بعضهما حياً، أما المذبحة فتدل على الذبح والقتل في معركة». ثم إن «مَجْزَر» تعني «موضع ذبح البهائم» لا أكثر ولا أقلّ. سيكتشف العلّامة أن الأمر لا يتعلّق بمسلخ البهائم فقط، وإنما في ذلك المذبح البشري المفتوح ليلاً نهاراً تحت وابل القذائف المتطوّرة فوق مستطيل صغير يُدعى غزة، يشبه يوم الحشر، ما يتطلّب تعريفاً جديداً في المعجم يتوافق مع لغة الوحوش، وأنياب الخنزير البري التي عبثت بشقائق النعمان. طبعاً، لن يُغفل تواريخ مذابح أخرى ارتكبها الإسرائيليون قبلاً، لكنها جميعاً، بدت مثل تدريبات أولية على الذبح، بصرف النظر عن نوع الذبيحة، فكلّ فلسطيني هو دريئة صالحة للرمي، منذ مذبحة دير ياسين، ومجزرة كفر قاسم وما تلاهما من فظائع. إذ كانت عصابات الموت الصهيونية تقتحم القرى والمدن الفلسطينية كما لو أنها في رحلة صيد أو في نزهة للقتل أو ما لا نجد تعريفاً له في المعاجم لجهة العطش إلى الدم الفلسطيني المهدور. في مجزرة كفر قاسم، سيسجّل الأرشيف البصري للموت أسماء 49 ضحية من البشر العُزّل، كانوا عمّالاً وفلاحين عائدين إلى قريتهم في شاحنة، قبل موعد (حظر التجوّل) بقليل، ثم ستُمحى الأسماء تدريجياً لمصلحة الأرقام، أرقام فقط، ثمّ سيتوقّف العدّاد عن العمل أمام الأرقام الفلكية للقتلى، ولن يكتفي أحفاد «شايلوك» باقتطاع أرطال من اللحم الحيّ، إنما بأطنان من الجثث المكدّسة بفوضى تحت الأنقاض، في ما يشبه وليمة شكسبيرية من الأشلاء البشرية تحت بند «ذبح عشوائي». كما لو أننا لم نغادر قاموس القرون الوسطى، حين كانت مفردة الذبح تتعلّق بذبح الحيوانات، وفي نُزهات الصيد تعني «رأس الفريسة»، قبل أن تُلصق هذه المفردة بالقتل البشري والرعب والتدمير في حروب دينية واستعمارية وعنصرية ضارية، حروب السيوف والسهام والبلطات، وصولاً إلى الصواريخ الزلزالية، باعتبار أن غزة مجرد حقل تجارب من الدرجة الأولى لفحص نجاعة الإبادة الجماعية بدقيقة واحدة! ثمّ كان علينا أن نفسّر معنى «المذبحة اللغوية» في شؤون النحو والصرف وتزييف الحقائق، ذلك أن الفلسطيني بعُرف الآخر ضمير غائب، لا محلّ له من الإعراب، أما الجملة المفيدة في قاموس البرابرة فهي همجية العدو من دون منازع!