«وبالتالي فإن التاريخ وعلى عكس الإنسان، يفعل كل ذلك دون أي اعتبارات أخلاقية. ويتجلّى هذا التاريخ في أماكن مثل غزة حيث يكون من الرخيص إطعام السكان ومن المكلف جداً مهاجمتهم بطائرات الـF35»[علي القادري]

كثيرة تلك المناورات والحيَل التي استخدمتها المقاومة في عملية التمويه والمباغتة الكبرى التي سبقت السابع من أكتوبر، والتي ستكشفها لنا الأيام، قريباً، أو في متاحف وأرشيفات ما بعد التحرير. رغم ذلك، لا يمكن الاستهانة بأن أحد أعمدة عملية التمويه التي جعلت استخبارات جيش الاحتلال تغرق في فقاعة موازية للواقع، هو الذهنية الإمبريالية الصهيونية. في سبتمبر من عام 2021، سمح كيان الاحتلال، ولأول مرة منذ بدء الحصار على غزة عام 2006، لآلاف العمّال الفلسطينيين من غزة بالعمل في الداخل، أي في «الاقتصاد الإسرائيلي». مسألة السماح هذه تتصل بأمرين: الأول، وهو ما يصبّ في جوهر العملية التاريخية الصهيونية في استعمار فلسطين وإبادة الفلسطينيين، وهي تحويل أهلها إلى لاجئين في أرضهم ومن ثم استغلال هؤلاء اللاجئين في العمل بأجر منخفض وظروف قاهرة من ضرب وتنكيل في بناء الاقتصاد الاستعماري الصهيوني.
لكنّ المسألة لا تقف هنا، فلأننا نتحدّث عن مشروع استيطاني إحلالي، فعلينا إدراج حتى مسألة الاستغلال هذه للعامل الفلسطيني ضمن صيرورة الإبادة، فما السماح للفلسطينيين بالعمل هنا سوى إدارة للوقت حتى يكمل المستوطنون عملية الطرد الكاملة لكل الفلسطينيين، واستبدال العمالة الرخيصة بأخرى، توفّرها إحدى دول التطبيع العربية كالمغرب مثلاً. وهذا ما يوصلنا إلى الأمر الآخر، وهو تحويل مسألة استغلال العمّال إلى أداة ضغط وتفاوض على الغزيين أو الفلسطينيين في الضفة، فهؤلاء العمال يوفّرون أقوات آلاف العوائل الغزيّة.
في آب الماضي سُرّب اتصال من ضابط صهيوني مع أحد العمّال في غزة يخبره بإلغاء تصريح عمله لأن ابن أخته قد شارك في مسيرات على الحدود وعند الجدار الفاصل. وأمّا ما يُسمّى بالمنسّق، أي منسّق أعمال الحكومة الإسرائيلية في «المناطق الفلسطينية»، وعبر صفحته الرسمية والموثّقة على «فايسبوك» (لاحظوا كيف توثّق الشركات الرأسمالية عمل المستعمرين على وسائل التواصل وكأنها إجراء طبيعي)، فقد هدّد بشكل مباشر: «من المستحيل أن تكسب لقمة عيشك من خلال العمل في إسرائيل من جهة وتقوم بتربية فرد من عائلتك متورّط في الإرهاب من جهة أخرى، رسالتنا واضحة: إمّا الإرهاب وإمّا مصدر الرزق!».
قبل عملية «طوفان الأقصى» قامت قيادة «حماس» بما نسمّيه جزافاً بعملية تفاوضية وهي حشد الشباب للتظاهر على السياج مع كيان العدو وإطلاق بالونات حارقة على مستوطنات قضاء غزة للضغط على كيان العدو للسماح للعمّال بالذهاب للعمل أو تسهيل دخول منح مالية خارجية للقطاع. بتعبير آخر، فإن على الغزيين، وحتى يحصلوا على بضعة دولارات، أن يُستهدفَ ويغتال شبابهم برصاص جيش العدو كإجراء «تفاوضي». انتهى ذلك بسماح الاحتلال للعمّال وفتح الحواجز لهم ليلاً، فمن ناحية فهو تحت ضغط المستوطنين الذين يحتاجون إلى عمّال لمصانعهم ومصالحهم، ومن جهة أخرى ضغط مستوطنين آخرين يعيّرونه بالخضوع للفلسطينيين.
كانت هذه المحصّلة، واستمرارية عملية الاستغلال الإمبريالي للسكّان الغزيين، أحد أبرز العوامل التي أشارت إلى العقل الاستعماري الصهيوني بأن لا تصعيد من قبل المقاومة الفلسطينية حيث إن استغلال العمّال يشكّل عاملاً قاهراً سيجبر المقاومة على الخضوع، وهذا الذي نعلمه جميعاً أنه لم يحصل. من هذه الزاوية من الممكن قراءة «طوفان الأقصى» كعملية تمرّد فلسطينية على تحويل عملية الاستغلال الرأسمالي كورقة ضغط، والكلام هنا ليس فقط عن البنية الرأسمالية الصهيونية بل والرأسمالية على مستوى عالمي، في مواجهة مباشرة مع الصهيو-إمبريالية التي من المهم تعريفها.

فهم الصهيونية رأسمالياً
كثيرة تلك الزوايا التي من الممكن فيها قراءة الصهيونية تاريخياً، فمن الممكن قراءتها ثقافياً وهوياتياً وسياسياً، لكنّ القراءة الحاكمة لها، والتي ضعفت عربياً في العقود الأخيرة، هي تحليل وفهم الصهيونية كمشروع اقتصادي يمثّل ذراعاً للرأسمالية الغربية. أي بأننا لا نتكلّم عن حركة دينية أو قومية، بل عن حركة لها دور اقتصادي تعنون ذاتها دينياً وبأسطورة قومية. وعليه، فلكل فعل تقوم به تفسير ومنفعة اقتصادية للرأسمالية في أوروبا وأميركا. بل يصل الأمر إلى حد توصيف الباحث علي القادري، وهو الذي سنستخدم أطروحته في الأسطر التالية، بأن الصهيونية أحد أكثر مشاريع الرأسمالية جرأة على الإطلاق، منطلقاً من كلام لكارل ماركس بأن عمليات التهجير الكبرى هي أسوأ الكوابيس المطروحة لمستقبل البشرية.
وفي حين أن قهر وقوة الرأسمالية لا يُمارسان على الفلسطينيين فقط، وإنما، وفق القادري، لاستيعابهما علينا أن نقيسهما بالقدر ذاته الذي تستشعر فيه طفلة من غزة قوة مقاتلة من طراز F16 تحلّق فوق منزلها. نعم، الرأسمالية عدوان على البشرية جمعاء، ولكنّ القوة التاريخية للرأسمالية لم تكن مكثّفة بالشكل التي هي عليه في الصهيو-إمبريالية، فهنا نرى تمظهر القوة الأيديلوجية لرأس المال من ناحية أن الغربيين استطاعوا نسج قصة عن إله وعد مجموعاً من البشر الأوروبيين بأرض فلسطين، ويقومون بعملية التطهير العرقي المدعومة من الرب والدول العلمانية في آن واحد. باختصار، إنّ قوة الإمبريالية في فلسطين هي تمظهر مكثّف لقوة الإمبريالية في العالم.
الرأسمالية عدوان على البشرية جمعاء، ولكنّ القوة التاريخية للرأسمالية لم تكن مكثّفة بالشكل التي هي عليه في الصهيو-إمبريالية


يكمل القادري بأن القوة الطبقية الرأسمالية الغربية تتمثّل في أعمدة ومؤسسات؛ من حلف شمال الأطلسي والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصولاً إلى «إسرائيل» كمشروع استعماري. ومن هذه القراءة تمسي بوضوح مركزية القضية الفلسطينية لا عربياً وحسب بل إنّ الصراع ضد الصهيونية هو صراع البشرية جمعاء (حتى حين قراءة الصهيونية ثقافياً سنصل أيضاً في نهاية المطاف، ومن ناحية ثقافية بحت، إلى أن الصراع ضد الصهيونية هو صراع البشرية جمعاء كونها تكثيفاً تاريخياً للعنصرية والأطروحة المَقيتة باصطفاء بشر عن آخرين).
ولأنه صراع للبشرية جمعاء، فإنه وكلما خضع العرب والفلسطينيون للصهيونية، استقوت الرأسمالية على باقي البشر، وكذلك، كلما انتصر العرب والفلسطينيون على الصهيونية، ضعفت قبضة الإمبريالية على شعوب العالم - وهذا التكثيف تقع غزة في صلبه، وذلك لأنها في الواجهة مقابل العسكرة والتراكم الرأسمالي عبر الحرب.
من ناحية، من الممكن لأحدهم، وبما يشي بادئ الأمر بالبديهية، طرحُ سؤال: أليس، وبحسابات تجارية بحتٍ، يكون إرسال الغذاء والدواء وحتى إعمار غزة أرخص من قصفها بقنابل تبلغ قيمتها الملايين من الدولارات؟ بل كيف يستوي أن يُقصف منزل بقنبلة يبلغ سعرها أضعافاً مضاعفة لما تقصفه، أليس ذلك خسارة مادية؟ وعلى تضاد من مبدأ مراكمة الربح الرأسمالية؟ هذا بالتحديد ما تجيب عنه غزة، وهو فهم الرأسمالية ودور الصهيونية فيها بشكل دقيق، فالحرب هنا، وعلى عكس ما يُصوّر على أنها عبارة عن خسائر مادية ومالية، وهي كذلك لميزانية كيان الاحتلال واقتصاده، إلا أنها، من ناحية تاريخية شاملة، هي عملية مراكمة رأسمالية، وهذه المراكمة عبر الحرب هي ما تجعل مسألة أن الحرب بالنسبة إلى الصهيونية هي مسألة سلام واستمرارية، وهو ما كيّفوه ثقافياً كما يبيّن جوزيف مسعد.
وذلك من وجهين: الأول، أن دم الغزاوي هنا هو ربح يُحسب بالدولارات لشركات السلاح الأميركية، فمع كل مربع سكني ومجزرة في غزة عبر قنبلة MK84 على سبيل المثال لا الحصر، هذا، وبالمعنى الحرفي، رقم يُسجّل في فواتير شركة GDOTS الأميركية وميزانيتها خلال عام 2023. الأمر الآخر الأكثر تعقيداً وتفصيلاً، هو أنه وبمنطق التراكم الرأسمالي، أحد الأهداف الرأسمالية الرئيسية للتراكم وجني الأرباح هو تخفيض سعر وقيمة الموارد والعمّال؛ كلما انخفض سعر العمّال، عبر تردي الأوضاع الاقتصادية في بلدهم ودفعهم للهجرة أو العمل لمصانع غربية بأجور زهيدة، فذلك في مصلحة الرأسمالي الألماني والأميركي والبريطاني. كذلك، كلما انخفضت أسعار الموارد الطبيعية التي تستخدمها الشركات الرأسمالية لعملية إنتاج قنابلهم وأسلحتهم على سبيل المثال، فإنّ ذلك يعني أرباحاً أكثر لمصلحة الطبقة الرأسمالية في الغرب. وحين نتكلم عن خفض قيمة الإنسان والأرض فنحن نتكلم عن خفض قيمة دول ومجتمعات بأكملها، وهذا ما يحصل عبر الحروب.
والأهم، أن ذلك هو الدور الرئيس للصهيو-إمبريالية في الوطن العربي وفي العالم؛ فكما أن البنك الدولي وصندوق النقد يرفدان الرأسمالية بالأدوات المالية لمراكمة الأرباح ودوام الفقر في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، كذلك فإنّ دور «إسرائيل» هو الحرب وإبقاء الوطن العربي في حالة فقر وضعف، ليكون الإنسان فيه عبارة عن مدخلات لحسابات الشركات الرأسمالية. فكما هي عملية خفض قيمة الغزاوي ليعمل في اقتصاد عدوه وأن يُقتل على نطاق إنتاج صناعي عسكري، كذلك مصير أن تكون عربياً في أيامنا، أن تكون سورياً أو عراقياً أو يمنياً أو لبنانياً أو ليبياً مقتولاً أو مهجّراً يعمل للرجل الأبيض في أوروبا. ولأن أخاك الفلسطيني هو من في الواجهة لأكثر من سبعين عاماً، وهو الواقع أمام آلة القتل دونما توقف منذ عقود، ولأنه العنوان لهذه العملية التاريخية من جني الأرباح، فهذا ما يجعل محض وجوده عدواً للصهيونية، عدواً للمتواطئين والطبقات والأنظمة العربية المطبّعة مع «إسرائيل»، تلك النخب التي باعت الملايين من العرب لكي تنجو من توحّش المراكمة عبر الحرب، وهذا ما يجعل المقاومة العربية على مختلف الجبهات تخوض معركتنا جميعاً.

* كاتب عربي