كان على فاتنة الغرّة أن تنجو كي تروي ما حدث في غزة! ليس مصادفة أن تصل الشاعرة الفلسطينية المقيمة في بروكسل إلى القطاع، بعد غياب خمسة عشر عاماً عن الأهل، قبل يومٍ واحد فقط من اندلاع شرارة «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023. في ذلك اليوم، مشت ساعةً كاملة في حي الرمال لاستعادة ذكرياتها في المكان الأول. لم تعلم أن من هم في الأنفاق يستعدون للساعة صفر، فما حصل في 7 أكتوبر لم يخطر في بالها لحظةً واحدة، وإلا لما علقت هناك 90 يوماً من الجحيم. كانت صفحتها على الفايسبوك وسيلتها الوحيدة لتوثيق يومياتها في حرب الإبادة الإسرائيلية، وكان غيابها ليوم أو يومين عن الصفحة يثير القلق لدى أصدقائها من حصول كارثة ما لها. ذلك أنّ جنون القصف الإسرائيلي كان يحصد عشرات الأرواح يومياً، فعبارة مثل «قصف شديد جداً يصمّ الآذان.. الدار اهتزت»، يعني أن صاحبة «خيانات الرَّب.. سيناريوهات متعددة» في مرمى الخطر. لكنها ستعود ثانية بمشيئة عمل شبكة الإنترنت، وقدرتها على الحركة والانتقال.
ستُغادر البيت بعد 20 يوماً، بصحبة أبوين عجوزين، قرّرت أن تكون عكازيهما في هذه المحنة، رافضةً نصائح أصدقائها بالتواصل مع السفارة البلجيكية لمساعدتها في مغادرة غزة، قائلة: «ما زال تراب السفر على أقدامي، وأنا مع أهلي بعد غياب 15 عاماً. هذه خطّة الله لي أن أكون في غزة في هذا التوقيت. باقية مع أهلي، إلى أن يكتب الله أمراً مغايراً»، و«ما زلت أتفقد ما حدث لغزّة ومن فيها... يكفيني أنني رأيتها ليوم أو اثنين قبل أن يحيل الدمار هذه الذاكرة إلى رماد وركام».
في الأيام الأولى للحرب، كانت فاتنة الغرة توثّق جرائم الاحتلال بصورٍ حيّة مرفقة بشروحات في اللغتين العربية والإنكليزية. ستتكرّر مفردة القصف في يومياتها تبعاً لجنون طائرات الاحتلال التي حوّلت معظم الأحياء إلى ركام بقصد تهجير الأهالي إلى الجنوب. هكذا نزحت مع مَن تبقّى من عائلتها إلى «مستشفى القدس» في حيّ تل الهوى بمساعدة الهلال الأحمر الفلسطيني «من دون ماء، ولا فراش، ولا مراحيض في مستشفى القدس». في المستشفى، ستبث شريطاً وهي تغني «يما مويل الهوى... ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيّا» كنوع من المقاومة، فدائماً ما كانت الأغاني الشعبية الفلسطينية سلاحاً ضد النسيان والإخضاع القسري لتاريخ مزوّر.
بعد 28 يوماً من الرعب، كان على النازحين إخلاء المكان والمغادرة إلى خان يونس في أكبر عملية عسف ضد المدنيين: «أمس كان أشبه بيوم قيامة... مهما تحدثت، لا يمكن لأحد أن يتخيّل ما حدث وما يحدث» تقول. وفي مشهد يشبه ما رأيناه في النكبة الأولى لجموع النازحين من قراهم ومدنهم، ها هي فاتنة الغرة بصحبة أمها تغادران المستشفى إلى خان يونس تحت القصف مسافة 25 كيلومتراً: «أمي التي عمرها أكبر من عمر دولة الاحتلال مشت على قدميها الواهنتين أميالاً وأميالاً». في عيد رأس السنة، ستقترح حِداداً بدلاً من الاحتفال بعامٍ جديد: «هذه ليلة يجب فيها الحداد على الإنسانية لا الاحتفال، الحداد على عقود تمّ خلالها تضليل شعوب العالم عبر تثقيفهم عمّا يسمى حقوق الإنسان والمساواة والعدل والإخاء التي هي جوهر القوانين الأوروبية. على كلّ الشعوب إعلان الحداد هذه الليلة لا من أجلنا ولكن من أجل الإنسانية المستباحة أمام عدسات الكاميرات بلا أدنى خجل من التاريخ الشاهد».
كانت تكتب عن جرائم الاحتلال بصورٍ حيّة مرفقة بشروحات باللغتين العربية والإنكليزية


قبل أيام، تمكّنت صاحبة «ما زال بحر بيننا»، و«ثقوب واسعة» بعد عناء وحصار وتعب، من الخروج من غزة بصحبة والديها وغادرت معهما إلى بروكسل. تكتب في بوست أخير: «الحرب لم تنته بعد، وهوامش الحرب أكثر صعوبة من الحرب ذاتها». وتضيف: «الآن أستطيع أن ألقي بجسدي للراحة حينما أصل معهما إلى بلجيكا وأدخل بيتي، حينها فقط يمكنني القول إنني خرجت، وحينها فقط يمكنني الحداد كما ينبغي».