يُوجّه معرض «أمير غزة الصغير» المُقام في «مؤسسة دلّول للفنون» (DAF)، بالتعاون مع «المتحف الفلسطينيّ» في بيرزيت، تحيّة لشهداء القطاع، وبخاصة الأطفال منهم. استوحي عنوان المعرض الجماعي من منحوتة برونزيّة للفنان اللبناني شوقي شوكيني أنجزها عام 2010 في مقر إقامته في باريس ومنحها عنوان «الأمير الصغير»، في إحالة واضحة لرواية أنطوان دو سان إكزوبيري الشهيرة. المنحوتة تجريدية هندسية، تجسّد طفلاً مجزّأ الكيان، مثلما هي حال شهداء غزة الخارجين مقطّعي الأوصال من تحت الركام. ومحاكاة لموضوعي المعرض ومنحوتة شوكيني، تُعرض منحوتتان للفنان العراقيّ ضياء العزّاوي (الأخبار 5/12/2023): واحدة صغيرة تمثّل شخصية «حنظلة» الأيقونية التي ابتدعها الفنان الكبير الشهيد ناجي العلي، ومنحوتة «الهدف» التي يعود تاريخها إلى عام 2012. الأخيرة عبارة عن منحوتة برونزيّة مستطيلة مثقوبة بالرصاص، تنهض على قدمين رفيعتين مغروستين في الأرض. للعزاوي أيضاً عمل طباعيّ يحمل عنوان «النشيد الجسدي: قصائد مرسومة لتل الزعتر».
«أمير غزة الصغير» لشوقي شوكيني الذي أعطى عنوانه للمعرض

الفنان السوريّ الكبير يوسف عبدلكي (الأخبار 29/12/2023)، نشاهد له في هذا المعرض لوحةً قاسيةً، كبيرة الحجم بعنوان «طفل من غزة» تظهر وحشيّة المحتلّ بمظهر الذئب المعدنيّ الواقف فوق الطفل الغزاوي المتمدّد أرضاً مذعوراً من الوحش المتهيّئ لالتهامه بأنيابه التي تسيل منها الدماء. هذا العمل المشغول بالفحم والرصاص والتضاد اللوني بين الأسود والأبيض والرمادي، يندرج تماماً في أسلوب عبدلكي بالانزياح إلى الأشياء والعناصر المكوّنة لأعماله أكثر من اللون. ودائماً ما كان عالمه التشكيليّ المبدع شاهداً على الإنسان المقهور والمعذّب والمضطهد والمقتول، وسط فراغات لا متناهية تشبه صمت العالم.
الفنانة الفلسطينية الراحلة ليلى الشوّا (1940 ــ 2022) نشاهد لها في المعرض أربع لوحات أُدرجت تحت العنوان الجامع «عارضة أزياء إرهابية» (2010) فضلاً عن «صرخات» (2011) و«سماء غزة» (2012) و«أطفال الحرب، أطفال السلام» (2013). أمّا رباعيتها الأولى، فهي مشغولة بوسائط متعددة ومتمازجة، من التصوير الفوتوغرافي إلى كريستال سواروفسكي على القماش، وفيها امرأة ملثّمة بالكوفية الفلسطينية ومرتدية لباساً طبعت عليه «تفاحة نيويورك». الألوان قوية وجريئة تعكس أفكار الفنانة الثورية والتزامها السياسيّ.
الالتزام السياسيّ يظهر كذلك في أعمال الفنان الفلسطيني إسماعيل شموط (1930 ــ 2006) القديمة والمستعادة خصيصاً للمعرض: «هنا كان أبي» (1957)، «معركة الكرامة» (1969)، «في العين» (1976) من سلسلة لوحات «تل الزعتر»، فضلاً عن «توهج الانتفاضة» (2001) التي تستلهم يوميات الانتفاضة الثانية حيث أطفال يرمون الحجارة وعلم فلسطيني يرفعه شبّان مناضلون في مواجهة جنود إسرائيليين يتقدمون خائفين ومحتمين بعرباتهم.

منحوتة ضياء العزاوي


عمل للراحلة ليلى الشوا. الصور بإذن من «مؤسسة دلول للفنون»

إلى أعمال الفنان الفلسطيني سليمان منصور (1947): «ابنة القدس» (1978)، «جمل المحامل» (2005)، «عند نقطة التفتيش» (2009)، و«الوطن» (2010). اللوحة الأخيرة مشغولة بالفحم والأكريليك، أشدّ حزناً من الحزن نفسه، إذ يظهر فيها فلسطينيون من مختلف الأعمار في مجموعات مقسّمة داخل سجون ضيّقة مفتوحة على خطوط وتدرّجات لونية من الأسود إلى الرمادي. هم يقفون عند الحدّ الفاصل بين الوطن والسجن. نرى عجوزاً مرهقاً خرج من فلسطين طفلاً قبل خمسة وسبعين عاماً يحمل القدس على ظهره في فراغ بلا أفق كأنّه واقف على سطح العالم. تذكّرنا قدما هذا العجوز الضخمتين بشخوص الفنان المكسيكيّ دييغو ريفيرا. عجوز سليمان منصور معجون بالمعاناة والصبر. علماً أنّ موقع المعرض أعاد إنتاج لوحات هذا الفنان بشكل ملصقات أو بطاقات بريدية يمكن طباعتها أو تداولها، خدمةً للقضية وحفظاً لهذا الإرث التشكيليّ الملتزم. من أعمال الفنان المصريّ سمير رافع (1926 ـ 2004) اختار المعرض لوحة «مشهد فلسطينيّ» (1960) حيث أفراد عائلة فلسطينية يقفون بشجاعة وبأس في وجه جنود الاحتلال الذين يوجّهون إليهم فوهات بنادقهم. لكنّ وجوه هؤلاء الجنود ليست بشرية عادية، بل أعطاها الفنان أشكال الجماجم التي لا توحي إلا بالتهديد والموت. وعلى مألوفه، لا تغادر الحيوانات لوحات سمير رافع وفي هذه اللوحة كلب وحمامة قرب العائلة. ثمة تركيز على يدي الأب الضخمتين، وعلى يدي الأم المرفوعتين تحدّياً لا استسلاماً.
لوحة الفنان الفلسطيني هاني زعرب «الانتظار ــ رقم 1» (أكريليك وأصباغ على قماش ـ 2010) يرسم فيها ابنه «قدسي» جالساً على سلّم من درجتين في حالة تأمّل وانتظار، وخلفية تكوين المشهد حمراء. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ زعرب هو من مواليد غزة، وتحديداً مخيم رفح عام 1976، درس الفن التشكيلي في رام الله ثم في باريس. تميّزت لوحاته بالحضور الطاغي للكتل البشرية الهلامية المنطوية على نفسها كأنها مستسلمة لقدرها، موظفاً ألوانه الزيتية التي يطغى عليها الأبيض والأسود وتدرجاتهما الرمادية. تصوّر جماليّ يرفع اللمسة الفنية إلى مستوى الاحتجاج.
«العفو» (2017) عنوان جدارية الفنان الفلسطيني شادي زقزوق التي تستدعي «مادونا ديلا بييتا» الأيقونية لمايكل أنجلو عن مريم العذراء التي تحتضن ابنها بُعيد إنزاله عن الصليب. في خلفية مشهد الأم الفلسطينية التي تحمل ابنها الشهيد، نرى جدار الفصل العنصري الذي يتمدّد عنده ظلّ عملاق مثقوب جسده كلّه بالرصاص، ويزنّر جثته شريط كتب عليه بالإنكليزية «عدالة»، وصولاً إلى حسناوين تحملان صورة في إطار ضخم يظهر فيها أسرى فلسطينيون في معتقل إسرائيليّ... سوريالية مزدحمة بالألوان والتفاصيل والرموز الواضحة غير الملغّزة داخل جدارية تنتمي إلى الحداثة التشكيلية بقدر ما تبتكر شكلاً جديداً للفن الملتزم.

من المعرض


«العفو» لشادي زقزوق التي تستدعي «لا بييتا» لمايكل أنجلو عن مريم العذراء التي تحتضن ابنها بُعيد إنزاله عن الصليب

الفنان الفلسطيني خليل رباح يُستعاد له في المعرض عمله التركيبيّ المفاهيميّ المشكّل بوسائط متعدّدة تحت عنوان «الفلسطيني» (1997). يدور العمل حول تيمات الحصار والنزوح واللجوء، منطلقاً من تجربته الذاتية كفلسطينيّ واجه تعقيدات الهجرة والتأقلم في الولايات المتحدة حيث يقيم اليوم. يتناول في عمله التركيبيّ هذا قاموس «أكسفورد» الأوسع انتشاراً للغة الإنكليزية، ويفتح صفحتين متقابلتين فيه يغطّيهما، تاركاً فقط تعريف «فلسطينيّ» بحسب الغرب. فالقاموس هذا يجرّد الفلسطينيين من حقّهم في أرض فلسطين متبنّياً رواية «أرض إسرائيل القديمة». يغرز رباح في الصفحتين مسامير ترمز إلى العنف المعتمد طوال قرن من الزمن لتثبيت هذه السردية العنصرية عن الإنسان
الفلسطيني.
أعمال متميّزة تحمل توقيع الفنان الفلسطيني عامر الشوملي نراها في المعرض، من بينها لوحتان يجسّد فيهما الكوفية بأسلوب ذكي لمّاح يرتكز على موتيفات الغرزة السوداء التي تشكل قوام نسيج الكوفية ليبتكر منها الشوملي رموزاً كثيرة. كما يستوحي كوفية الزعيم الراحل ياسر عرفات في صورتين ظهرتا على غلاف مجلة «تايم» الأميركية مرتين متباعدتين زمنياً: الأولى عام 1968 والثانية عام 2002، فضلاً عن أعمال أخرى طباعية تحمل اسم «إكس راي» أو الأشعة السينية وتعود إلى عام 2007، وهي خمس مطبوعات كبيرة الحجم، بالأبيض والأسود، وفيها رموز للمعاناة والنصر الفلسطينيين. ومن الأعمال الأبرز والأجمل في المعرض، لوحة «سنعود» للفنان الفلسطيني الخلّاق عماد أبو اشتية (مواليد 1965 في أحد مخيمات اللجوء في الأردن). هنا تظهر امرأة ترتدي الثوب الفلسطيني التقليدي، عملاقة حجماً كي ترمز إلى فلسطين الناهضة من أطلال دمار غزة المريع، منبعثة من بين الركام.
ألوان قوية وجريئة تعكس أفكار ليلى الشوّا الثورية والتزامها السياسيّ

المرأة دائمة الحضور في لوحات هذا الفنان، محاكياً واقعها ورامزاً عبرها إلى الوطن والقضية، ومنحازاً إلى الزيّ التراثي والتطريز الشائع تاريخياً في القرى والأرياف. يميل عماد أبو اشتية في فنّه إلى الفانتازيا، لكنّه يدلّ على انتمائه إلى المدرسة السريانية، معتمداً الألوان الزيتية والمائية والباستيل ليخاطب المشاعر، حتى إنّ دولة الأورغواي اختارت إحدى لوحاته كطابع بريديّ.
‏التراث الفلسطينيّ محوريّ أيضاً في أعمال بشير مخول التي تجمع التجريد الهندسي بمنحاه الغربيّ إلى الخط الكوفيّ العربيّ. نقف في المعرض أمام لوحته «حجارة» (1990) وفيها كلمة حجر بالخط الكوفيّ على خلفيّة مثلّثات موزعة هندسياً تبعاً لألوان العلم الفلسطيني. والحجر رمز واضح للعمل المقاوم ولأطفال الحجارة في الانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987 وكان اعتماد ألوان العلم الفلسطيني بحدّ ذاته عملاً مقاوماً آنذاك، إذ كان محظوراً من قبل الاحتلال، فضلاً عن لوحة «قطرة من دمي» (2014) وفيها صور مكبّرة لقطرات الدم القرمزية المتناثرة فوق جدارية قماشية. والجدير بالذكر أنّ الفنان بشير مخول (1963 ـــ مواليد قرية البقيعة في الجليل) المقيم في بريطانيا منذ عقود، يحمل درجة البروفيسور في الفنون وهو رئيس «جامعة الفنون الإبداعية» UCA في بريطانيا منذ عام 2017. أصدر العديد من المؤلفات أبرزها «جذور الفن الفلسطيني» الذي يعتبر أهم المراجع حول الفن الفلسطيني المعاصر.

يبتكر عامر الشوملي رموزاً كثيرة من الغرزة السوداء في الكوفية

تلفت في المعرض الفنيّ أيضاً منحوتة للفنان الفلسطيني أحمد كنعان بعنوان «سفينة اللاجئين» تنهض فوق قاعدة خشبية على شكل سفينة مرتكزة إلى مفاتيح من البرونز، ترمز إلى مفاتيح البيوت التي حملها مالكوها المهجّرون على متن السفينة قسراً. يعدّ كنعان من أبرز فناني فلسطينيّي الـ 48، اشتغل على إعادة إحياء التراث الفلسطيني، وخصوصاً الكنعاني، إذ يحمل في اسمه الجذور الكنعانية، لكن ضمن السياق المعاصر، مستخدماً مواد متنوعة بين حجر وطين وخشب وحديد. لا يكتفي بالموروث الكنعاني بل ينهل أيضاً من تراث الفن الإسلامي في منحوتاته ولوحاته الزخرفية التي تكثر فيها الفراشات والغزلان والطيور، فضلاً عن الفارس العربيّ الذي يحرّره من الماضي والتراث ليجعله على علاقة بالمستقبل لا بالماضي.
إنّها فرصة ثمينة للتعرّف عن قرب إلى نماذج رائعة من الفن الفلسطينيّ والعربي شبه المجهول لدينا، جُمعت في معرض واحد وحيّز إبداعيّ مشترك يحاكي مباشرة هول الواقع في غزة المذبوحة المتألمة. إنّه الوقت الأكثر ملاءمة لإشباع الوجدان المكلوم بتعبيرات فنية تُشظّي مشاعر الألم ألواناً وخطوطاً وأشكالاً ورؤى تعكس فجيعة التاريخ والراهن المأساويّ.

* «أمير غزة الصغير»: حتى 15 نيسان (أبريل) ــ قاعة «مؤسسة دلول للفنون» (قريطم ـ بيروت) ــ للاستعلام: 01/791229



الأسماء المشاركة
يضمّ معرض «أمير غزة الصغير» عشرات اللوحات والمنحوتات لمجموعة من الفنانين الراحلين والأحياء من فلسطين والعالم العربي هم: ليلى الشوّا، يوسف عبدلكي، ضياء العزاوي، إسماعيل شموط، نبيل عناني، سليمان منصور، عبد الرحمن المزين، نذير نبعة، هاني زعرب، عامر الشوملي، بشار الحروب، عماد أبو اشتية، أيمن بعلبكي، سميرة بدران، تيسير بركات، خليل رباح، جمانة الحسيني، عاصم أبو شقرا، بشير مخول، محمد أرجدال، سمير رافع، شادي الزقزوق، أيمن كنعان، عبد عابدي، فلاديمير تماري، ستيف سابيلا، فضلاً عن فوتوغرافيات من الأرشيف التاريخيّ عن فلسطين في القرن الماضي.