رام الله | ليست الهجمة الأوسع والأشرس التي يشنّها المستوطنون على عشرات القرى والبلدات في الضفة الغربية، منذ يوم الجمعة الماضي، الأولى من نوعها، ولكنها تعدّ الأخطر كونها ظهّرت نموذجاً من سيناريو أشمل يدرك الفلسطينيون أنهم سيواجهونه قريباً. فمنذ الجمعة، حوّلت عصابات المستوطنين أراضي الضفة إلى ساحة مواجهة مفتوحة، بعدما هاجمت قرى في وسطها وشمالها، ما أدى إلى استشهاد فلسطينيين وجَرح آخرين، إلى جانب إحراق بيوت وسيارات وأراضٍ زراعية وتدميرها. وبدأ الهجوم على إثر فقدان فتى إسرائيلي (14 عاماً) قرب رام الله، قبل أن يُعثر على جثمانه السبت شمال شرقي المدينة، بعد 24 ساعة من عمليات البحث عنه، علماً أن أجهزة الاحتلال الأمنية أكدت أن خلفية قتله قومية.وتعرّضت قرية المغير الواقعة إلى الشرق من رام الله، ابتداءً، لهجوم واسع وعنيف نفّذه نحو 1500 مستوطن، واستمرّ لعدّة أيام، وتركّز في المنطقة الشرقية، حيث احتشد المستوطنون، وغالبيتهم مسلّحون، وهاجموا المنطقة عبر مجموعات حاصرت المنازل وأَطلقت النار عليها وبدأت بإضرام النيران فيها، ما أدى إلى استشهاد الشاب عفيف أبو عليا أثناء مساعدته في إجلاء سكان أحد المنازل، وإصابة 76 مواطناً تراوحت جروحهم بين الطفيفة والمتوسطة والخطيرة. كذلك، أحرق المستوطنون 14 منزلاً بشكل كامل، و13 بشكل جزئي، وقاموا بتهشيم عدّة بيوت، بينما بلغ عدد المركبات المحترقة بشكل كامل، 15. وتعمّد المستوطنون مهاجمة 3 «مشاطب سيارات» يضمّ كل واحد أكثر من 30 سيارة، إضافة إلى «كاراج سيارات»، فيما شمل الهجوم أيضاً حرق «بركسات» أغنام وأعلاف حيوانات ومعدّات زراعية، وسرقة 120 رأس غنم، وذبح 50 خاروفاً.
على أن ما جرى في المغير لم يكن استثنائياً؛ فخلال 72 ساعة، تعرّضت أكثر من 36 قرية وبلدة لهجمات مماثلة على أيدي المستوطنين، كان أشدّها في خربة الطويل شرق بلدة عقربا جنوب نابلس، حيث استشهد مواطنان إثنان، هما عبد الرحمن بني فضل، ومحمد أشرف بني جامع، برصاص مستوطنين، أمس. وفي قرية دوما الواقعة جنوبي مدينة نابلس، أَطلق المستوطنون الرصاص الحيّ مباشرة على الأهالي، وأحرقوا منازلهم ومركباتهم، بعدما كانوا قد وجّهوا دعوةً، عبر مواقعهم، إلى «الهجوم على القرى العربية وحرقها». وترافق الهجوم المذكور مع اقتحام عسكري واسع للقرية، داهمت خلاله قوات الاحتلال منازل المواطنين وقامت بتفتيشها والعبث بمحتوياتها، واعتدت على السكان وصادرت تسجيلات الكاميرات الخاصة بمنازلهم وهواتفهم الشخصية، وأغلقت مداخل دوما ومخارجها بالكامل، وأعلنتها «منطقة عسكرية مغلقة». وبدت الغارات على المغير وخربة الطويل ودوما وغيرها من القرى، مثل ترمسعيا وأبو فلاح، وكأنها ممنهجة؛ إذ كانت الاقتحامات منظّمة على شكل جماعات وعصابات ومن أكثر من محور، فيما لوحظ وجود بعض قيادات المستوطنين وهم يرشدون الأخيرين إلى المواقع التي يودّون استهدافها. وبحسب مصادر محلية، فإن معجزة منعت وقوع عدد كبير من الشهداء في القريتَين بعد التنبّه السريع إلى الاقتحام، والتمكّن من إخراج المواطنين من منازلهم التي أحرقها المستوطنون.
أعاد هجوم المستوطنين إلى الذاكرة الجرائم التي نفّذتها عصابات «شتيرن» و«هاغاناه» عام 1948


وأعادت هجمات المستوطنين، إلى الذاكرة، الجرائم التي نفّذتها عصابات «شتيرن» و«الهاغاناة» الصهيونية بحقّ الفلسطينيين عام 1948، عندما هجّرتهم من قراهم وبلداتهم في فلسطين التاريخية. كما أنبأت هذه الهجمات بانتقال المستوطنين من العمل الارتجالي إلى العمل المنظّم المسلّح، خاصة بعد نجاح وزير الأمن القومي، إيتمار بن غفير، في تسليح 100 ألف مستوطن في الضفة والداخل المحتلّ، وهو ما يمهّد الطريق أمام اتّساع تلك العمليات مستقبلاً، واتّخاذها أبعاداً وأشكالاً أكثر عنفاً ووحشية لفرض وقائع على الأرض، وإجبار أهالي القرى والبلدات، خصوصاً المحاذية للمستوطنات والطرق الالتفافية، على مغادرتها كجزء من مخطّط شامل لتطهيرها عرقيّاً، وتفريغ الأرض الفلسطينية من أصحابها.
وفي هذا الإطار، يقول مدير عام النشر والتوثيق في «هيئة مقاومة الجدار والاستيطان»، أمير داوود، لـ«الأخبار»، إن العمل جارٍ على حصْر الخسائر والأضرار جرّاء هجوم المستوطنين بالتعاون مع المجالس المحلية، مشيراً إلى أن «الهجوم لم يبدأ قبل أيام فقط، بل يأتي في السياق الذي تبلور بداية عام 2023 مع تشكُّل الحكومة الإسرائيلية الجديدة، ونتيجة البنية التشريعية واللوجستية التي فعّلتها إسرائيل في الأشهر الماضية، من منح صلاحيات واسعة للمستوطنين لإطلاق النار، وتسليحهم بـ40 ألف قطعة سلاح في الضفة فقط، وغير ذلك». ويشير داوود إلى أن «المستوطنين باتوا يشنّون موجات إرهابية منظّمة، تتولّى حكومة الاحتلال شرعنتها، ومنها البؤر الاستيطانية، حيث بات هؤلاء يسيطرون على أيّ منطقة أو موقع يروق لهم بقوّة السلاح، ثم تتولّى الحكومة تثبيت ذلك، وهذا ما جرى الأسبوع الماضي، حين صادقت الحكومة على إنشاء خمس بؤر استيطانية دفعة واحدة، باعتبارها مستوطنات جديدة، وأقرت لها مخصّصات مالية وخدمات أساسية، من ماء وكهرباء وأمن وخدمات».
ويرى داوود أن «حكومة نتنياهو هي حكومة المستوطنين التي تنفّذ أجندتهم وأهدافهم، وتعمل على حماية عصابات «فتية التلال» وتحصينها»، منبهاً إلى أن «أحد السيناريوات الذي يجب الاستعداد له هو هجوم أوسع وأشمل، إذ لا يمكن النظر إلى ما جرى على أنه حدث وانتهى، بل هو يدق ناقوس الخطر في شأن القادم»، محذّراً من محاولة الاحتلال تأطير ما يجري في الضفة، على أنه «صراع بين شعبَين مختلفَين على الأرض، والجيش يقف على الحياد بينهما لتفكيك هذا الصراع». كذلك، يلفت داوود إلى خطورة عمليات التهجير القسري التي تجري على الأرض، والتي طالت 26 تجمُّعاً بدويّاً منذ السابع من أكتوبر.