للبنان نموذج فريد في الحكم وتداول السلطة، إذ إن النائب فيه هو المشرّع والمنفّذ والرقيب، ولا من يحاسبه. فهل يسهم فصل النيابة عن الوزارة في تسيير عجلة الديموقراطية في بلاد التناقضات، حيث المقعد الوزاري أصبح جسراً لتأمين الخلود النيابي؟
نسرين زهر الدين
وصل الخلاف، بعيد تأليف الحكومة، على الوزارات الخدماتية إلى حد الانقسام، وذلك لاستغلالها انتخابياً، ولتعزيز حظوظ الوصول إلى المجلس النيابي في الدوائر التي ينتمي إليها الوزراء من مختلف التلاوين. فبلد الخلطات العجائبية يجمع التشريع إلى التنفيذ، فإذا عيّن وزير غير نائب في حكومة تكنوقراط (هذه التسمية الهروبية التي لا تعني شيئاً) يبدأ بإعداد انتهاء ولايته للانتقال إلى مقعد نيابي يؤمّن له التوريث والراتب الدائم، إضافة إلى الصفقات التي أصبحت صفة «النائب اللبناني الخدماتي»، وهي غالباً ما تعيده إلى القصر الحكومي ولكن برصيد «قوة» مضاعف.
وفي بلد الخلود السلطوي يحاسب الوزير نفسه في المجلس النيابي. وإن لم يكن هو، فابنه أو شقيقه يتكفلان بالمهمة، والوزير يعدّ مشروع القانون ليعرضه على نفسه في الوزارة، يقوّمه، يمحّص تفاصيله، ويمهره بختم الموافقة! أما مرد أزمة الفصام في شخصية النائب ــــ الوزير فيعود إلى طبيعة النظام البرلماني الذي يعتمد من حيث المبدأ على فصل السلطات وتعاونها، وتعاونها هذا ينتج تداخلاً وإدماجاً بين الوزارة والنيابة، بحيث يتحول مجلس الوزراء إلى برلمان مصغّر كما هي الحال اليوم.

اقتراح بالفصل قيد الدرس

أمل بالتغيير يعلنه النائب غسان مخيبر لـ«الأخبار»، إذ يلفت إلى نقاش في تكتل التغيير والإصلاح بشأن التقدم باقتراح تعديل دستوري يقيم فصلاً ومانعاً بين تولّي النيابة والوزارة، وذلك بعدما وضع النائب نعمة الله أبي نصر مسوّدة مشروع قانون دستوري ناقشها التكتل سابقاً. إذ أعلن مخيبر أنه سيقدّم اقتراح قانون إلى المجلس النيابي يهدف إلى فصل النيابة عن الوزارة بحيث لا يستطيع النائب أن يصبح وزيراً إلا بعد التخلّي عن مقعده النيابي، ويُختار في هذه الحالة نائب رديف من التكتل السياسي نفسه ليشغل مكانه حتى لو كانت الوفاة هي السبب، بحيث يصار إلى الاستغناء عن الانتخابات الفرعية.
ويبيّن مخيبر في أكثر من دراسة أسباب غياب نشاط البرلمان في المناقشة العامة. فمنذ اتفاق الطائف، تمثّلت غالبية القوى في مجلس النواب في الحكومات، مما أثّر على فعالية عمله. فمن1992 حتى 1996 بلغ عدد جلسات المناقشة العامة في المجلس النيابي 7 فقط. وذلك بغية حماية الحكومة من المعترضين عليها أولاً، وثانياً بسبب اتخاذ الحكومة أو الترويكا القرارات الجدية لتقرّها الحكومة نفسها. وكان مجلس النواب مسرحاً لتصديق القرارات التي تتخذ في أماكن أخرى «كانت في وقت سابق دمشق أو الترويكا أو الحكومة» كما يقول مخيبر.
ويقارن الاقتراح بين النظام اللبناني والفرنسي وعدد من الأنظمة الأوروبية والأفريقية، مثلاً بلجيكا وسويسرا والمغرب، للوصول إلى ترجمة عملية للمشروع. ففي فرنسا حيث الفصل التام بين السلطات، يمنع على الوزير أن يستمر نائباً ويعتمد لهذه الغاية نائب بديل أو رديف ينتخب في وقت انتخاب النائب، فإذا تسلم وزارةً ما تسقط نيابته ويحل مكانه. ويجري اختيار الرديف خلال الانتخابات ويلحظه القانون لكي لا تجري انتخابات فرعية عند كل تأليف لحكومة. ويشرح مخيبر هدف الفصل، و«هو إعادة تفعيل رقابة مجلس النواب عبر تعزيز فصل السلطات، على الأقل بعدم المزج بين شخص الوزير والنائب، ليكون المراقب منفصلاً. حتى لو كانت الكتلة ممثلة بوزير غير نائب، يبقى قريباً من الكتلة لأنها من سمّاه. وعادةً تحمي الكتلة وزيرها ولا تُسائله، حتى لو لم يكن نائباً، وتبقى لعبة الرقابة بتنوّع الكتل. فالكتلة «أ» لا تراقب بفاعلية الوزير من كتلة «أ» إنما الكتلة «ب» تراقب وزير الكتلة «أ» جيداً. ولتطبيق هذا المبدأ دور في تفعيل الرقابة عبر تطوير النظام الداخلي للبرلمان ويمثّل خطوة إيجابية لتعزيز الديموقراطية.

العقبات أمام التطبيق في لبنان

يشرح مخيبر ذلك مقارنة بالنظام الفرنسي حيث تطبيق الأخير أبسط لأن قانونه الانتخابي قائم على الدوائر الفردية (كل دائرة نائب واحد). أما في لبنان، فتواجهه مشكلتان: الأولى تعدد المقاعد في الدائرة الواحدة، والثانية تكمن في كون تنظيم الحياة الحزبية في فرنسا أصح منه في لبنان، حيث يحل الرديف محل النائب ويكون من حزبه في حال تسلّم الأول للوزارة. وواقع الحياة الحزبية في لبنان يفرض أحياناً إجراء الانتخابات على أساس شخصي أو عائلي أو مناطقي لا حزبي، لذا هناك صعوبة في إيجاد الرديف، إضافة إلى كون النظام برلمانياً، والذي يحدد الحجم في الوزارة هو حجم الكتل النيابية، وهذه مشكلة أخرى.

طريقة لبنانيّة... وتنوّع!

يرى مخيبر «أن كثيراً من القوى السياسية تؤيّد الفكرة، وتضمنتها برامج سياسية وانتخابية وتصريحات لبعض القوى. إلا أنّ تصريح النيّة لم يتحول بعد إلى مشروع متكامل، ويبقى الأساس عند التطبيق وما يلزمه من تعديلات عند التنفيذ»، (عندها قد يتلاشى كل دعم)!
ويوافق مخيبر في رؤيته وزير الدولة جان أوغاسبيان، لكن «إذا كانت الغاية أن تقوم المؤسسات الدستورية بالمحاسبة والرقابة، يفضّل أن لا يكون النائب وزيراً لممارسة مهماته». لكن «الأجواء لا تسمح بإجراء كهذا، لكونه جزءاً من مشروع متكامل طويل الأمد، ونحن ما زلنا في ظروف استثنائية في لبنان، إضافة إلى مشكلة الطائفية".
ويستطرد أوغاسبيان أن هذا المشروع إنما هو «جزء من عملية إصلاحية شاملة»، وأن «المجلس النيابي قادر على الاضطلاع بدوره على نحو سليم، ولكن النائب الوزير لا يحاسب نفسه، وهكذا يخسر المجلس كل النواب الوزراء، ويخسر دورهم حيث هناك ازدواجية، والوزير يصوّت كنائب، ومن جهة أخرى لا يستطيع محاسبة الحكومة. مما يسبب تناقضاً في أداء النائب الوزير».
أوغاسبيان لا يؤيّد تعديلاً دستورياً يتجه إلى فصل تام، بل يفضل الصيغة الدستورية الحالية التي تقوم على الفصل والتعاون. إذ إن اللجان النيابية تناقش مع الوزراء أي مشروع قانون، وهذا «ما لا أريده أن يتغيّر». و«للحكومة وجهة نظر ومشروع سياسي، ومفروض أن يكون الوزراء حاضرين أثناء مناقشة مشاريع القوانين ليبدوا آراءهم».
أما النائب أنطوان زهرا، فيقول «إن القوات تفصل بين النيابة والوزارة، وهي تؤيّد هذا الأمر بغية تحقيق المحاسبة الحقيقية». إلا أنه يرى أن الأمر بحاجة إلى تعديل للدستور والنظام ككل «وتحويله من برلماني إلى رئاسي»، «وهذا ما لا يمكن تحقيقه في بلد ذي تنوّع طائفي كلبنان، حيث الرئيس ينبغي أن يكون من طائفة معينة، وهو ما كرّسه الطائف الذي ألغى إمكان تحول البلاد إلى نظام رئاسي يعتمد على فصل تام بين السلطات، كما هي الحال في فرنسا». ويضيف أن هذا الأمر ليس «شهوة خطرت على بال أحد ويريد فرضها على الجميع»، بل إنه شأن إصلاحي كبير يتطلب تعديلاً دستوريا.ً
يبقى أنّ هذه الخطوة كما يصفها مخيبر «مثل أي تحرك، تحتاج إلى ممارسة ضغط لإقرارها. فالمطلوب بناء مؤسسات الدولة الفاعلة التي لا تتعطل عند أقل أزمة أو هزّة، وهو تحدٍ كبير يمر عبر تصحيح قانون الانتخاب، والنظام الداخلي لمجلس النواب، وسلطة قضائية مستقلة، وتعزيز المجلس الدستوري، وإنشاء المحكمة الخاصة لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وملء الثغرات في العلاقة بين رئيسي الجمهورية والحكومة، «وبالتالي إنها لبنة في بناء صرح الدولة».


تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب

تقدم النائب مخيبر باقتراح لتعديل النظام الداخلي لمجلس النواب، وتحديداً القسم الرقابي منه، وتعديل المادتين 136 و137 لجهة تخصيص جلسة شهرية على الأقل لمناقشة أعمال وسياسات الحكومة أو إحدى الوزارات أو المؤسسات العامة، واستحداث مادة جديدة (126) لجهة تخصيص جلسة أسبوعية على الأقل للأسئلة التي تليها مناقشات والأسئلة الشفهية الطارئة أو الاستجوابات.
ويسعى الاقتراح إلى «إدخال طرح الثقة بوزير معيّن في الثقافة اللبنانية، بحيث تسعى الكتل الأخرى من غير كتلة الوزير إلى ممارسة الرقابة على هذا الوزير». ويضيف مخيبر أنه لا نية لدى التكتل بطرح الاقتراح لتضمينه في البيان الوزاري للحكومة الحالية، إذ إنه «لا يمكن خياراً استراتيجياً كهذا يمس بُنية الدولة أن يناقش أو يعتمد في بيان وزاري لحكومة مدتها 10 أشهر».