لا يزال «شيخ سجناء الرأي» في «موطن حقوق الإنسان»، المناضل اليساري اللبناني جورج إبراهيم عبد الله، محتجزا رهينة في السجون الفرنسية، حيث يقبع منذ 32 سنة. إذ تصرّ السلطات الفرنسية على مواصلة احتجازه، في خرق سافر ومتعمّد للإجراءات القانونية المعمول بها في فرنسا، وللمعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان التي تنص بأن المحكومين بالسجن المؤبد يجب أن يُطلق سراحهم بعد 18 سنة سجناً كحد أقصى.إمتثالا لتلك التشريعات، أصدرت الإدارة القضائية الفرنسية المتخصصة في تنفيذ أحكام السجن، في تشرين الثاني 2003، قرارا ًبإطلاق سراح الملتحي اللبناني الأشهر، بحكم انتهاء مأمورية سجنه رسمياً، بعد أن ظل معتقلا منذ العام 1984، بتهمة الانتماء إلى «الألوية الثورية اللبنانية المسلّحة». إلا أن الحكومة الفرنسية، ممثلة بوزارة العدل، تدخلت على الفور، لتعطيل ذلك القرار، بضغوط من الأوساط الصهيونية ومن الإدارة الأميركية في عهد بوش الابن آنذاك. (راجع البرواز أدناه).
وعلى رغم تغير الوزراء وتعاقب الحكومات، اليمينية منها واليسارية، لا يزال وزير العدل الفرنسي ـــ المعروف في لغة موليير بـ «حافظ الأختام» ـــ يعترض منذ 13 سنة على طلبات الإفراج الدورية التي تتقدم بها هيئة الدفاع عن جورج إبراهيم عبد الله، كل ستة أشهر. وذلك بحجج إدارية واهية. كمطالبته، مثلاً، بتقديم ضمانات مسبقة بحصوله على منصب شغل يكفل «إعادة إدماجه في المجتمع»، كما هو معمول به بالنسبة لمجرمي الحق العام! أو الاشتراط منه أن يكتب تعهداً لإدارة السجن بأنه «نادم على الجرم الذي اقترفه، ويلتزم بعدم تكراره». وهو الابتزاز الذي درج المحامي الراحل جاك فيرجيس، رئيس هيئة الدفاع عن جورج إبراهيم عبد الله، على الرد عليه دوريا بجواب واحد لا يتغير، كاتبا الى إدارة السجن: «لا تتوقعوا مني أو من موكلي أن ننحني تحت ضغوط الاعداء أو نخفض سراويلنا. فأنا، مثلاً، قتلتُ جنوداً ألمان يوم كنت مقاتلاً في صفوف المقاومة الفرنسية ضد النازية. فهل يجب أن أطلب الصفح من عائلاتهم؟ إن جورج إبراهيم عبد الله ثوري وفدائي، وليس إرهابياً كما تريد وصفه الدعاية المعادية. وموقفه لم يتغير، فهو يقول انه يريد العودة إلى بلده لبنان وإلى مهنته الأصلية كمدرس. لكن إذا عاود الجيش الإسرائيلي اعتداءاته على لبنان، فإنه سينضم مجدداً إلى صفوف المقاومة. وهذا، بالنسبة إليه، موقف مبدئي، وغير قابل للمساومة».
يعترض وزير العدل منذ 13 سنة على طلبات الإفراج بحجج إدارية واهية

وتجدر الاشارة إلى أن «طلب الصفح» الذي تستعمله إدارة السجون الفرنسية حجة بيروقراطية لتبرير الاستمرار في احتجاز جورج إبراهيم عبد الله، ليس الظلم الوحيد الذي لحق به خلال مشواره النضالي الطويل. فهو بدأ نضالاته «في الحزب السوري القومي الاجتماعي» و«الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، قبل أن ينتسب إلى «الألوية الثورية اللبنانية المسلّحة». وبهذه الصفة أُلقي عليه القبض، في تشرين الثاني 1984، في مدينة ليون الفرنسية. وكانت «الألوية اللبنانية» متهمة آنذاك بتدبير عدد من العمليات الفدائية المدوّية، أبرزها اغتيال الملحق العسكري الأميركي في باريس، تشارلز روبرت راي (18 كانون الثاني 1982)، والدبلوماسي الإسرائيلي يعقوب بارسيمنتوف (3 نيسان 1982).
عند اعتقاله، لم تعثر السلطات الفرنسية على أي أدلة تدين جورج إبراهيم عبد الله، باستثناء مناشير تدل على انتمائه إلى «الألوية الثورية اللبنانية»، وجواز سفر جزائري مزوّر. لذا، لم توجَّه إليه حين قُدِّم أمام المحكمة للمرة الأولى، في تموز 1986، سوى تهمة واحدة هي «استعمال وثيقة سفر مزوَّرة». وقد دوّن جاك أتالي، مستشار الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في مذكراته عن تلك المرحلة التي أمضاها في قصر الإليزيه، بتاريخ 6 آذار 1985: «لا تتوافر لدينا أي أدلة ضد جورج إبراهيم عبد الله. لذا، لا يمكن أن توجِّه إليه المحكمة أي اتهام آخر سوى امتلاك جواز سفر مزوّر».
تلك التهمة البسيطة التي كانت موجهة إلى الثوري اللبناني، كان معناها أنه سيغادر السجن بعد أقل من 18 شهراً. لكن قضيته لم تلبث أن سلكت وجهة مغايرة تماماً، أدت إلى إدانته بالسجن المؤبد. ففي 28 شباط 1987، استُدعي مجددا إلى المحكمة، على حين غرّة. وفوجئت هيئة الدفاع عنه بتهم مغايرة، وأدلة جديدة لم تكن مدرجة في الملف خلال المحاكمة الأولى. إذ زعم الادعاء القضائي بأن أسلحة قد حُجزت في مخابئ وشقق سرية تابعة لجورج إبراهيم عبد الله. واعُتبر ذلك دليل إثبات على اشتراكه في العمليات الفدائية التي نفذتها «الألوية الثورية اللبنانية» في فرنسا عام 1982!
لم تتورّع المحكمة عن إصدار حكم بالسجن المؤبد بحق جورج إبراهيم عبد الله، استناداً إلى تلك التلفيقات، غير آبهة باحتجاجات هيئة الدفاع التي دفعت بأن تلك «الأدلة المستجدة» لم تكن مدرجة في الملف الأصلي للقضية القضائية المتعلقة بتلك الاغتيالات، بل تمت فبركتها لاحقاً، وبشكل متعمّد، لإدانته بأثر رجعي. وفي ذلك خرق صارخ لكل الإجراءات والأعراف القانونية.
كان واضحاً أن جورج وقع ضحية تلفيق أدلة استخباراتي. لكن معالم المؤامرة التي حاكها ضده جهاز DST الفرنسي لم تنكشف سوى بعد أكثر من عقد على إدانته. ففي مذكراته التي صدرت العام 1998، عن منشورات «كالمان ليفي» في باريس، كشف رئيس الاستخبارات الفرنسية السابق إيف بونيه بعضاً من خيوط المؤامرة: «لقد استطعنا أن نجمِّع معلومات كافية ضد عبد الله بعد أن نجح قائد شعبة مكافحة الإرهاب، جان ــــ فرنسوا كلير، في استقطاب مخبر مقرّب جدا من الألوية الثورية اللبنانية». واكتفى بونيه آنذاك بالترميز إلى ذلك «المخبر» باسم جان بول ــــ إم، مشيرا الى أنه محام!
وفي تموز 2001، ما كان من المحامي جان بول مازورييه، العضو في هيئة الدفاع عن جورج عبدالله، إلا أن فجّر قنبلة هزّت الوسط القضائي الفرنسي، إذ اعترف في مقابلة مطوّلة مع جريدة «ليبراسيون» بأنه هو المخبر الذي ألمح إليه إيف بونيه! وروى المحامي بالتفصيل كيف استقطبته الاستخبارات الفرنسية للتجسس على موكله (هذا في حد ذاته يشكل حجة قضائية كافية لإبطال الحكم الصادر بحق جورج إبراهيم عبد الله). وأضاف مازورييه أن الـ «دي إس تي» أوعزت له بإيهام موكله بأنه يقاسمه أفكاره الثورية ونضاله من أجل القضية الفلسطينية. إلى أن وثق فيه وصار يوفده للقاء رفاقه في «الألوية الثورية» في لبنان، ما سهّل على الاستخبارات الفرنسية اختراقها، وبالتالي تجميع أدلة الإدانة ضد جورج إبراهيم عبد الله بأثر رجعي.
إثر الفضيحة التي فجّرتها اعترافات «المحامي المخبر»، توقّع الجميع أن تقوم هيئة الدفاع عن عبد الله برفع طعن قضائي لإبطال الحكم ضد موكلها، لأن القانون الفرنسي يحظر استعمال المحامين والأطباء والصحافيين للتجسس على المتهمين وتجميع الأدلة ضدهم. لكن هيئة الدفاع لم تفعل ذلك، لأسباب غامضة، وفضلت التريث إلى العام 2002 لتقديم طلب الإفراج عن عبد الله بحكم انقضاء المأمورية القصوى لسجنه. وهو ما وافقت عليه هيئة الإدارة القضائية المكلفة بتنفيذ أحكام السجن، إذ أصدرت، في تشرين الثاني 2003، قرارها القاضي بإطلاق سراح جورج إبراهيم عبد الله. لكن وزارة العدل الفرنسية لا تزال تعطل ذلك القرار، كل ستة أشهر، رافضة طلبات الإفراج التي تواظب هيئة الدفاع عن جورج على تجديدها بشكل دوري. وهو ما يفسر بقاء الثائر الملتحي، محتجزاً رهينة سياسية في زنازين موئل الحريّات وحقوق الإنسان، منذ… 32 سنة! وهي المدّة التي تتجاوز بـ 14 سنة، مدة السجن القصوى التي ينصّ عليها القانون.


في مناسبة العيد الوطني الفرنسي، دعت «الحملة الدولية لإطلاق سراح الاسير جورج عبدالله»، والأحزاب والقوى الوطنية واليسارية، للإعتصام أمام «قصر الصنوبر» في بيروت، بين السادسة والثامنة من مساء اليوم. وستلقى كلمات لكل من الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني حنا غريب، ومسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في لبنان مروان عبدالعال، وسماح إدريس (حملة مقاطعة داعمي «إسرائيل» في لبنان)، وكلمة لـ «الحملة الدولية لإطلاق سراح المناضل الأسير جورج عبدالله».