قبل أيام من عيد الاستقلال، رفض لبنان استلام هبة ذخائر مقدّمة من وزارة الدفاع الروسية، تضم ملايين الطلقات متعددة العيارات لبنادق رشاشة ومتوسطة (ثمنها نحو خمسة ملايين دولار، بالإضافة إلى أعتدة وصواعق ومتفجرات)، بذريعة أن الأعيرة المقدّمة لا تتناسب مع الأسلحة التي يستخدمها الجيش اللبناني، والتي تتطابق مع أعيرة حلف الناتو. علماً أن الجيش يملك عشرات آلاف بنادق كلاشينكوف الروسية ورشاشات PKS المتوسطة، وبالتالي يحتاج هذه الذخائر. فضلاً عن أن إسرائيل، عدوة لبنان، وفي الوقت الذي تملك فيه أكبر ترسانة أسلحة غربية في المنطقة، تحافظ على قدر معيّن من الأسلحة الشرقية في مستودعاتها يضاهي ما تملكه بعض الدول العربية.
جنود من الجيش اللبناني في البقاع الشمالي عام 2014(هيثم الموسوي)
ويأتي التبرير التقني الذي أرسِل للجانب الروسي عبر رسالة رسمية وصلت إلى الملحقية العسكرية الروسية في بيروت، بعد أكثر من عائق ساهم في تأخير وصول الهبة في موعدها المقرّر بداية حزيران الماضي، قبل أن تنتهي المسألة برفض «مهذّب».
الرسالة تخفي قراراً سياسياً لبنانياً، غير معروف المصدر حتى الآن، لكنّه يصبّ في خانة وضع الجيش اللبناني في أحضان التسليح الأميركي حصراً، وعزله عن أي مصدر تسليحي خارج دول حلف الناتو.
فاعتماد الجيش على مصدر تسليحي واحد وتبديل ما يملكه من السلاح الروسي لحساب أسلحة غربية، هو قرار سياسي قبل أي شيء آخر، وهو قرار لا يمكن الجيش أن يتخذّه، بل هو جزء من سياسة الدولة العليا، التي من المفترض أن تناقش - على الأقل في مجلس الوزراء - السياسة التسليحية. فهل اجتمعت الحكومة وقررت الشروع في هذه السياسة؟ على الأقل لم تفعل ذلك في ظل تصريف الأعمال. فمن اتخذ القرار؟ لا جواب على هذا السؤال حتى كتابة هذه السطور.
ولم يكن القرار الروسي بتقديم الهبة للجيش قراراً روسياً ذاتياً، بل حصيلة محطتين، أوّلها بعدما تقدّم الجانب اللبناني إبان ما سمي حينها بالهبة السعودية لشراء الأسلحة بلائحة متطلبات من الجانب الروسي، وفي محطة ثانية خلال زيارة وزير الدفاع يعقوب الصراف إلى موسكو في العام الماضي وعرضه لحاجات الجيش. وعلى هذا الأساس، قرّر الجيش الروسي تقديم هبة عينية للجيش اللبناني، تكون بمثابة هدية أولى تمهيداً لبداية مسار من التعاون العسكري تنفيذاً لاتفاقية التعاون العسكري التقني الموقعة، وتأسيساً لاتفاقية التعاون العسكري التي كان من المفترض أن توقّع قبل الانتخابات النيابية في شهر نيسان، قبل أن ينجح الأميركيون والبريطانيون في إقناع رئيس الحكومة سعد الحريري بمنع توقيعها. كما أن الهبة جزء من نتائج لقاءات اللجنة العسكرية المشتركة، التي عرضت في اجتماعاتها الأخيرة للهبة، وعلى أساسها تم تحضير الطلبية من مستودعات الجيش الروسي، وقد صدر بها مرسوم من الرئيس فلاديمير بوتين.
السلطة السياسية هي المسؤولة عن التسليح وعن الجهات التي يجب على المؤسسة العسكرية أن تتعاون معها


في المرّة الأولى، حصل خطأ تقني في شهادة «المستهلك النهائي» التي أرسلها الجانب اللبناني، بعد أن تمّ تحضير الطلبية وتوضيبها على مرفأ عسكري روسي تمهيداً لنقلها. وطلب الروس تصحيح الخطأ لأشهر طويلة من دون ردّ. ثم وبعد أن وافق الروس على نقل الطلبية على حساب الحكومة الروسية، اعترض اللبنانيون على نقلها بسفينة حربية من المفترض أن ترسو في مرفأ بيروت، نظراً لضيق الحوض في القاعدة البحرية في بيروت. وفيما يؤكّد مصدر عسكري لبناني أن رسو أي سفينة حربية يحتاج إلى إذن مجلس الوزراء والحكومة الآن معطّلة، تؤكّد مصادر أخرى مطّلعة، أن لبنان برّر للروس، بصورة غير رسمية، عدم قدرته على استقبال بارجة روسية بسبب الرفض الأميركي. وعادةً ما تنقل الجيوش المعدات العسكرية بسفن حربية، خصوصاً أن البوارج والقطع البحرية الروسية تأتي دائماً إلى مرفأ طرطوس السوري، وبإمكانها أن ترسو في بيروت وتنزل حمولتها قبل أن تكمل رحلتها إلى سوريا من دون تكلفة إضافية.
كل هذه الذرائع، انتهت الأسبوع الماضي، بموقف واضح برفض الهبة، التي عمل على تأمينها وتمهيد الطريق لها في موسكو مجموعة من الديبلوماسيين والعسكريين الروس واللبنانيين، فسقطت جهودهم هباءً، لأن أحداً ما قرر أن يخضع مرة جديدة للإملاءات الأميركية!
خطوة لبنان فاجأت موسكو. مصدر عسكري روسي امتنع الأسبوع الماضي عن التعليق لـ«الأخبار»، في انتظار تبلور الصورة في وزارة الدفاع وفي الدوائر المعنيّة، إلّا أنه أكّد أمس، أن «رفض هديّة يحمل دلالات سياسية. نحن نعتبر لبنان دولة صديقة وتاريخياً لدينا علاقات مع الحكومة اللبنانية. ونعتبر الجيش هو العمود الفقري للدولة اللبنانية». ويتابع المصدر: «من حق الجيش اللبناني أن يعتمد على أي جهة للتسليح، مع تفهمنا لأن تكون للبنان صداقة مع أميركا وفرنسا والصين والدول الأخرى وأن لا يكون التعاون مع روسيا على حساب الدول الأخرى، ولكن ليس ليكون هذا التعاون على حساب الجيش الروسي ودور روسيا في إقليم الشرق الأوسط».
بدورها، تقول مصادر ديبلوماسية معنية بشؤون الشرق، إن «الخطوة اللبنانية غير منطقية، وهي تأتي بسبب الضغوط الأميركية والبريطانية في سياق محاولة الغرب تقييد حركة موسكو في الشرق. لكن روسيا دائماً كانت نصيراً كبيراً للبنان في المحافل الدولية وفي مجلس الأمن والأمم المتحدة، وهي شكلت خطة لإعادة النازحين السوريين إلى سوريا للحفاظ على التوازن والاستقرار في لبنان».

مصدر عسكري في موسكو: تعاون لبنان مع دول أخرى يجب أن لا يكون على حساب روسيا


هناك من يتعمد وضع الجيش تحت رحمة طرف تسليحي واحد، هو الولايات المتحدة الأميركية، دافعاً بالمؤسسة العسكرية إلى فالق صراع المحاور على جيوش المنطقة. فحتى الجيش الأردني والإماراتي والسعودي والمصري، الذين يرتبطون بالجيش الأميركي ارتباطاً وثيقاً، يملكون هامش حركة كبيراً للحصول على أسلحة من مصادر متعددة. وكذلك الأمر بالنسبة للموقف السياسي، إذ إن المواقف الروسية في المحافل الدولية عادةً ما تصب في مصلحة لبنان، على عكس المواقف الأميركية التي تدعم إسرائيل في كلّ ما يخصّ مصالحها على حساب مصالح لبنان والدول العربية. وليس بعيداً من المواقف، فإن أزمة النازحين السوريين، التي يصفها وزير الخارجية جبران باسيل وحتى الحريري بالأزمة الوجودية، فإن روسيا كانت سباقة في السعي إلى إيجاد حل لها عبر طرح المبادرة من دون تكليف لبنان أعباء مالية، فيما تتكشّف كل يوم النيات الأميركية والغربية لعرقلة العودة إلى سوريا وفرض التوطين، لا سيّما بعد ما كشفه وزير خارجية الفاتيكان قبل أيام للوفد اللبناني (راجع «الأخبار»، عدد 24 تشرين الثاني 2018) عن نيّة الأميركيين إبقاء النازحين السوريين في لبنان. فهل مصلحة لبنان تقتضي الانحياز إلى دولة عظمى على حساب دولة أخرى، أم أن «سياسة النأي» بالنفس تطبّق على محور من دون آخر؟



يوم رفض لبنان طائرات الميغ 29
في عام 2008، قررت روسيا تقديم هبة عسكرية للجيش اللبناني تتضمن عشر طائرات ميغ 29، و77 دبابة T-72 ومدافع هاون 130 ملم، و50 ألف قذيفة لكل من الدبابات والمدافع. وكان بإمكان هذه الهبة أن ترفع من مستوى تسليح الجيش اللبناني بشكل كبير. لكن لبنان، الذي كان يرأسه ميشال سليمان، رفض الهبة. وكانت الذريعة أن طائرات الميغ تحتاج إلى مطارات مجهزة خصيصاً لهذا النوع من الطائرات، فضلاً عن حاجتها إلى كلفة عالية للصيانة ودعمها بمنظومات رادارات ودفاعات جوية. وبعد رفض الهبة، ردّ الروس بأنه يمكن أن يمنحوا لبنان مروحيات قتالية تستطيع التكيّف مع ظروف البنية التحتية العسكرية في البلاد بكلفة صيانة أقلّ، إلا أن السلطات اللبنانية ماطلت طويلاً حتى أسقطت العرض الثاني أيضاً. فالضغط الأميركي نجح يومها في رسم خطوط للبنان. وكشفت وثائق ويكيليكس لاحقاً كيف تمّت عرقلة الهبة (8 نيسان 2011)، وإفشال الجهود الروسية وحرمان لبنان هذه المساعدة المهمة، لأجل أسلحة أميركية تحصر مهام الجيش في مكافحة الإرهاب.
كذلك الأمر بالنسبة إلى اتفاقية التعاون العسكري بين لبنان وروسيا التي عمل الأميركيون والبريطانيون على الطلب من الرئيس سعد الحريري عدم توقيعها، وهو ما حصل بالفعل.