في العرف وفي الممارسة والقانون والدستور ، لا يتحمل العهد ورئاسة الجمهورية عبء التدهور الاقتصادي والانهيار المالي والاجتماعي. السلطة في لبنان تنفيذية والحكومة هي التي تتحمل مسؤوليتها في مواجهة الاحتجاجات الشعبية والعمّالية. لكن ما حصل منذ مساء الخميس، لم يُوجَّه ضد ممارسات الحكومة وحسب، إنما ضد العهد والحكومة والمجلس النيابي دفعة واحدة، وتحولت مساءلة سعد الحريري كرئيس حكومة إلى محاكمة ليس في ملف الهدر والفساد فحسب، إنما أيضاً لشراكته الكاملة مع الذين يتحملون مسؤولية التدهور المالي والاقتصادي، ولخضوعه لتأثيرات العهد والوزير جبران باسيل في الملف الاقتصادي والمالي. ولم يعد اتهام سياسة الرئيس الراحل رفيق الحريري الاقتصادية وحدها كافياً، لأن عمر السلطة الحالية بمكوّناتها القديمة والحديثة يكاد يقارب عمر الحريري الأب في السلطة، لا سيما في وزارات الخدمات الأساسية منذ عام 2005 وحتى اليوم.في واحد من أرقى المشاهد الشعبية الاحتفالية وأجملها التي شهدها لبنان في السنوات الأخيرة، وتفلّتها من كل سياق طائفي ومذهبي وحزبي رغم محاولات أحزاب الإفادة منها، وجمعها مختلف الشرائح الاجتماعية والفئات العمرية، ثمة مفارقتان :
الأولى، مشاركة المسيحيين الكثيفة مع جميع المتظاهرين بعيداً عن 8 و14 آذار. لا يمكن تخطي هذا الواقع في مقاربة النزول إلى وسط بيروت وفي مناطق جبل لبنان، من البترون وجبيل وجونيه وسنّ الفيل والكحالة وبعبدا، لأن المسيحيين في السنوات الأخيرة اعتادوا الانتظام في الأحزاب، كما دلّت الانتخابات النيابية، كما التماهي مع زعمائهم السياسيين واتّباع أوامرهم، وفي أفضل الأحوال الامتناع عن النزول إلى الشارع لأسباب «اجتماعية». المشهد المسيحي الأول، قمعهم من النظام الأمني وسوريا بالترحيب بكثافة بالبابا. التجربة الثانية كانت في تظاهرات 7 آب، ومن ثم 14 آذار عام 2005. ومن المؤسف للقوى المسيحية قاطبة، أن تتحول تظاهرات المسيحيين ضد زعمائهم، رغم محاولات هؤلاء في السنوات الأخيرة التذرّع بالحفاظ على حقوق المسيحيين، للمرة الأولى بهذه الحدة.
حالات وعي في الطبقة الكنسية بدأت تتشكّل بضرورة الوقوف إلى جانب التظاهرات


مشهد اليومين الماضيين غير اعتيادي، لأن كثافة المتظاهرين دلّت على أن نسبة الانكفاء المسيحي عن الأحزاب مرتفعة، وإن كان الرهان لا يزال مبكراً على أن أي انتخابات لن تؤتي النتيجة نفسها، في ظل وجود حزبيين ومنهم حالياً المتنفّعون إلى جانب السلطة. لكن هذا الانفصال الشبابي عن واقع الأحزاب، بادرة يمكن التعويل عليها إذا أحسن استثمارها لصالح المستقلين، لأن العنصر الشبابي الذي تحدّث أمام الكاميرات وعلى صفحات التواصل الاجتماعي، في لبنان وحتى خارجه، كان حريصاً على إيصال صوت مستقل لا يمتّ إلى الأحزاب بصلة، وأكثريته من الجامعيين والخرّيجين الجدد والعاملين في مجال مهنية عدة. المفارقة أيضاً أن الشريحة الثانية من المسيحيين المتظاهرين هم الأهل الذي هاجر أبناؤهم إلى الخارج بسبب الجو الاقتصادي، وهي هجرة تصاعدية ما يشكّل خطراً على الواقع الاجتماعي المسيحي، والعائلات التي بدأت ترزح تحت الفقر. ثمة واقع يعيشه المسيحيون هو «الفقر المقنع»، يتحدث عنه العاملون في مؤسسات اجتماعية وتربوية وكنسية. حالة الفقر في ما كان يُعتبر الطبقة الوسطى بدأت تتوسع، والتسرب من المدارس الكاثوليكية – والمسيحية عموماً مقلق، رغم محاولات تغطيته، على مدى السنوات الأربع الأخيرة في مناطق مسيحية صرف. والكلام عن الأعداد لافت بخطورته. كل ذلك يضاف إلى العوامل الاجتماعية الأخرى التي تشهد عليها المؤسسات الاجتماعية بكثافة، ولا يزال الحديث عنها مغطى ببعض الحالات الاجتماعية الفاقعة في ثرائها، جعلت ظاهرة نزول المسيحيين إلى الشارع أمراً مسلماً به. ناهيك عن ظاهرة ليست بجديدة على الكنيسة، وهي أن حالات وعي في الطبقة الكنسية بدأت تتشكّل حول ضرورة الوقوف إلى جانب التظاهرات. ورغم أن بعض الرهبانيات، يقف إلى جانب العهد بوضوح، كما بعض الأساقفة، إلا أن بوادر تحرك كنسي إلى جانب المتظاهرين، شكّلت عاملاً لافتاً. علماً أن المجمع الماروني والكنيسة في مذكّرتها الشهيرة عن «الكنيسة تضع أصبعها على الجرح»، عام1998، أعطيا الشق الاجتماعي والاقتصادي الأولوية على كل شأن سياسي.
النقطة الثانية سياسية – أمنية: في الأشهر الأخيرة، تفاقم وضع العسكريين وعناصر القوى الأمنية كافة، من خلال الحديث عن حقوقهم واقتطاع مكتسبات منها. صحيح أن هناك مبالغات في رواتب ضباط والخدمات المقدمة إليهم والتعويضات، لكن ذلك لا يعني أن عناصر هذه الأسلاك لا تشملهم وعائلاتهم الأوضاع الاقتصادية. النقمة الأخيرة داخل القوى الأمنية على مستوياتها وأنواعها كافة، على الواقع المعيشي، أحد عناصر هذا انفجار الأزمة والغضب على الواقع الاقتصادي. وهو أمر استُثمر في الأيام الأخيرة في السياسة. يضاف إلى ذلك، عامل التجاذب الرئاسي بين المرشحين الرئيسيين جبران باسيل وقائد الجيش العماد جوزف عون. كان بيان قيادة الجيش لافتاً، بعد انكفاء الساعات الأولى وعدم التدخل لفتح طرق رئيسية، رغم ضغوط كثيفة مورست على الجيش منذ ساعات فجر الجمعة. هنا يفهم محاولة كل طرف استثمار كل الأسلحة المتوافرة لتحصيل أقدمية على الآخر. لم يتحرك الجيش ولم يقمع إلا مساء الجمعة ليلاً، رغم عدم توضح ملابسات ما حصل بعد. لكن في المجمل موقف الجيش رمادي، وأقرب إلى المتظاهرين الذين قال الجيش بأنه «متضامن بالكامل مع مطالبهم المحقّة». لن يقدم الجيش اصطدامه مع الناس على طبق من فضة إلى باسيل الذي يسعى لفرض أجندته في القيادة والمخابرات، لأن عيون اللبنانيين والمجتمع الدولي موجهة إليه، وأي اصطدام أو مواجهة أو صورة ستنعكس حكماً على صورة المرشح الرئاسي. لكن كلّما توسعت دائرة التظاهرات، زادت الضغوط أكثر كما شدّ الكباش بين بعبدا واليرزة، التي حيّدها المتظاهرون حتى الآن.