بوقاحة قلّ نظيرها يعاود رياض سلامة إتحافنا بنظرياته عن حاضر المالية اللبنانية ومستقبلها. وبامتهان فظّ للعقول يعلن سعد الحريري عن استعداده وجاهزيته لمعاودة الاضطلاع بتشكيل حكومة جديدة مع اشتراطه السماح له بحرية الاختيار والتوليف. وبتحلّل كامل من الواجبات ومقتضياتها الأخلاقية يعلن وزير التربية أكرم شهيّب عن استئناف الدروس على كامل الأراضي اللبنانية غير المحتلة. وبصلافة واستهتار تعلن المصارف عن إعادة فتح أبوابها بدءاً من صباح اليوم...يحدث كل ذلك أمام سمع الناس، كل الناس، وبصرهم. إننا أمام تحلّل معلن وسافر من أدنى موجبات المسؤولية الأخلاقية التي كانت تفرض على سلامة الاستقالة. وعلى الحريري الاعتذار عن هربه وتملّصه من تحمّل المسؤولية المباشرة عن تردي الأوضاع وسوئها شبه الشامل قبل الإفصاح النفعي عن حاجته الماسّة إلى الموقع وتمسكّه به. كما كان على شهيّب تفسير وتعليل أسباب «الإشعار الآخر»، الذي سمح بهذا الإغلاق الطويل للجامعات والمدارس في كل لبنان. وعلى أصحاب المصارف تبرير هذا التمادي غير المبرّر بالإقفال وما نتج عنه من خسائر الليرة وارتفاع أسعار السلع... إن هذا يحدث لأن الحراك الشعبي غير المسبوق، الذي تعلقت به الآمال، واشتغلت له السواعد، قد دخل غرفة العناية الفائقة بسبب من فيروسات التوظيف السياسي الرخيص والحرْف المريع والاستثمار الوضيع الذي اشترك به حشد من أصحاب المصلحة المضادة الذين تصدّرهم مرتزقة المجتمع المدني وقوى سياسية - طائفية معروفة تمثل الوجه الأبشع للسلطة (القوّات اللبنانية وتوأمها السيامي حزب الإقطاع الجنبلاطي).
أخيراً، أمكن لقوى السلطة (بأضلعها السياسية - الطائفية وأذرعها المالية والأمنية والقضائية والإعلامية...) التي انتابها الذعر، وبعون حاسم من القادر الخارجي إياه، أن تطمئن وأن تأخذ نفساً عميقاً. فالإرباك والحيرة المفاجئة التي ظلّلت نهارات وليالي الأيام الثلاثة الأولى قد سجّلت وبدءاً من اليوم الثالث أو الرابع تراجعاً انتظرته وعملت له وعوّلت عليه. والفضل في ذلك لا يعود إلى حكمة المناورات أو لدهاء الألاعيب ولا حتى إلى متانة النظام المتداعي... على ما سنسمع، في قادم الأيام، في معرض تفسير شبه الفشل وتبريره. بل إلى كثرة أخطاء الفريق الآخر وعجزه الفاضح والفادح عن اقتناص الفرصة الاستثنائية التي لاحت. والتي كان يمكن لو توفّر لها الذكاء والحنكة وحسن التخطيط البناء على الهدية الشعبية الثمينة وتثميرها باتجاه فتح الباب أمام إطاحة وتهديم، أو أقله تعرية كامل المنظومة السلطوية التي ابتنتها الحريرية السياسية، وأن يؤدي مهمته النبيلة في استنقاذ الناس من براثن السياسات والبرامج التي أوقعت بالدولة وأفقرت اللبنانيين وأذلتهم.
مرّة جديدة أثبت دفاع المنظومة المركّب نجاعته في احتواء الأخطار، وأكّد على قدرات أفراده المنتشرين في شرايين البلد ومفاصله على الحؤول والتغييرات التي كان لها أن تفتح السبيل أمام إنهاء آلام الناس المفتوحة.
الأخطاء التي أوصلت إلى شبه الفشل كثيرة إلا أن أبرزها كان تخلّف قوى اليسار الوطني (يتقدمها الحزب الشيوعي)، صاحب المسؤولية والمصلحة، والتجربة والمراس النضاليين، عن واجب ومهمة التصدّي المباشر أو غير المباشر للقيادة. وتفضيلها البقاء في الصفوف الخلفية بذرائع واهية ومقولات بائسة أهمها الالتحاق بالشارع والتماهي مع عفوية نبضه بدلاً من قيادته أو تصويب مساراته التي لا يمكن التنبؤ بها، ولا ضمانة بأن يحسن التصويب على ما تقوله التجارب المعروفة. وهو عين ما كانت تحتاجه السلطة التي اهتزت أركانها واحتجب قادتها طيلة أيام. فالتسيّب والفوضى وضبابية العناوين وتداخل الأهداف وعموميتها، وغياب القيادة والتنظيم سمح لهذا وذاك من أصحاب الأغراض بالتسلّل ومن ثم تمكنّه من تزييف العناوين وتشتيت القدرات وتشويهها، وتحويل فعالياتها إلى ممارسات فولكلورية بائسة أضاعت المعنى وشوّهت الهدف. والأرجح أن سبب التخلّف يعود إلى عجز القوى المعنية عن التقاط المعنى العميق والخاص والاستثنائي للغضبة، أو الانتفاضة التي تجاوزت الأسوار الاجتماعية والسياسية الطائفية الحاكمة وعدم استعدادها له. أما الحماسة والاستعجال الذي تجلّى في الفائض الشعاراتي وفوضاه غير البريئة فترك هو الآخر أثراً حاسماً وتسبّب في غياب أو تغييب أهمية برمجة الأهداف وتبويبها التبويب الصحيح، والذي كان له أن يوفّر القدرة على منح الحراك سمات التجذير النضالي الذي يحتاجه. ثم كان الفخّ القاتل بالإصرار على مجهولية الفاعلين الحراكيين، والذي عنى أو انطوى، بالنسبة إلى كثيرين، على وجود ما هو غامض، وإلى افتراض وجود «أجندة» ما تحتاج إلى أن تبقى بعيدة عن الأنظار. فالإصرار هذا هو الذي فتح الباب أمام التشكيك الذي ساور شرائح الناس ومعهم القوّة اللبنانية الأكبر، وذات الوزن والتأثير (حزب الله) فجعلها تبتعد، مرغمة، عن الحراك من غير أن تعاديه، إلا بعدما ارتفعت الأصوات الدخيلة على الحراك بالشتم والتعريض الذي أكّد له صحّة شكوكه.
مرّة جديدة أثبت دفاع المنظومة المركّب نجاعته في احتواء الأخطار


واليوم، وأمام خفوت الآمال المعلقة على الحراك وشحوبها، يرتسم الواقع السوريالي السابق عليه. ويعاود هذا وذاك من أصحاب السلطة أو أدواتها، وبوقاحة مضاعفة، استئناف الأكاذيب إياها. لعلمهم بزوال الخطر وتراجعه وإلا لوجدتهم مذعورين في أوكارهم منتظرين أن تنقض عليهم طلائع المنتفضين الذين ملأوا الشوارع والساحات مسلحين بالغضب الطبقي النبيل. لكن النجاة التي كتبها لهم عجز المنتفضين عن بلورة مطالبهم وقيادتهم الواعية والمسؤولة، فضلاً عن عمومية الأهداف وتشابكها، منحتهم الفرصة لمعاودة الظهور واستئناف ما كان سابقاً على هذه الفرصة التاريخية، والتي سينجم عن فشلها المؤسف مضاعفة الإحباط العام.
إن ما نشهده اليوم من فصول وألاعيب صراع الحصص والتمثيل الطوائفي الممهدة لاستيلاد الحكومة، وتجاذباتها التي لم توفّر استعادة الشوارع المذهبية وتأليبها على بعضها البعض، ينذر بأننا أمام مقدمات الإعلان عن خسارة لبنانية إضافية كنا بغنى عنها. ومع ذلك وبرغم قوّة الضربة وفداحة الهزيمة الزاحفة لا نملك إلا أن نردد مع المناضلين الحقيقيين الثابتين على المبادئ والمتمسكين بالقيم الثورية ووعي الانحياز إلى الناس وحقها في العدل الكرامة والحريّة، والذين يتوقون إلى بناء لبنان مغاير، كل المغايرة، أن الأمل بالبلد وبناسه الذين انتفضوا أبقى وأقوى.