من باب التوضيح: الناس المقهورون الذين نزلوا وينزلون الى الشارع من حقهم ليس إسقاط الحكم والحكومة فحسب، بل قلب هذا النظام من أساسه. ومن حقهم القيام بكل ما يلزم لاستعادة حقوقهم وحمايتها، بل وعليهم الاعتراض الدائم من أجل إسقاط هذه التركيبة والصيغة الطائفية، والذهاب نحو دولة مدنية حقيقية، فيها قوانين واضحة وزجرية تمنع عودة المرض الطائفي الكارثي. ومن باب التنويه أيضاً، فإن من نزلوا وينزلون الى الشارع من حقهم قول كل شيء، وفعل أي شيء، ورفع أي شعار يخدم قضيتهم.وما هو ملازم، في هذه الحالة، رسم علامة استفهام حول كل أبناء النظام الذين ينضمّون الى الحراك، متضامنين أو داعمين أو مساعدين. لأنه في لحظة الانفعال التي لا تزال تتحكّم بحشد من الانتهازيين والمراهقين، يتحول الأمر الى سذاجة تقارب حدّ من يغلق عينيه عمّا يدور حوله، وحول العمل الجاري من أجل استغلال قضيته لأهداف أخرى.
وللسذاجة فصولها في مقاربة بعض التطورات والوقائع المتصلة بما يجري منذ عشرين يوماً. واقتراب موعد تأليف الحكومة سيصدم معظم المشاركين في الحراك، عندما يسمعون أسماء المرشحين لتمثيلهم في الحكومة وكيفية اختيارهم، وكيف سيتم الترويج لهم تباعاً. وهؤلاء يتوزّعون على منظمات العمل المدني (مدني!!)، الى جانب خبراء الأحزاب «غير المتطرفة». ويمكن قراءة بعض الأسماء في اللائحة، لتجد مرشحي «بيروت مدينتي» و«حزب سبعة» الى «ناشطي» المنظمات الداعمة لحقوق الإنسان ورفض العنف، مروراً برجال سنسمع أنهم أهل قانون واستقامة لأنهم حصلوا على ورقة مبايعة وقّعها فضلو خوري، ما غيره... وسيواصل «المفاوضون الحقيقيون» استبعاد أي رمز من رموز اليسار الحقيقي، لأنه «متطرف يريد تحطيم الدولة». وسيتم استبعاد أي علماني حقيقي لأنه «يعرّض التركيبة اللبنانية للاهتزاز».
وللسذاجة في عدم مراقبة ما يجري من حول الحراك فصولها الغريبة. ولنأخذ مثلاً ما تفعله السفارات الغربية.
السفيرة الأميركية اليزابيت ريتشارد ملّت الانتظار في بيروت منذ انتخاب الرئيس دونالد ترامب، وهي تعاني الأمرّين. من جهة، لم تعد سفارتها مصدر القرارات الأميركية بشأن لبنان. وهي تستمر في تسقّط الأخبار عن موعد اختيار من يخلفها في منصبها. ومن جهة ثانية، هي مضطرة الى الاستماع الى اللبنانيين على أنواعهم، وتجيبهم بقليل من الكلمات وكثير من الغمزات والضحكات، وتترك لهم التفسير، علماً بأن مساعدين لها، وبينهم من يتولى مهمات غير دبلوماسية لكنه يحمل صفة دبلوماسي، يتولون الشرح بإسهاب. لكن للسفيرة، كما كل الدبلوماسيين في لبنان، نظرتهم الى السياسيين اللبنانيين. وهي نظرة غير محترمة مع الأسف، ليس بسبب الفوقية الأميركية فحسب، بل بسبب الدونية المفرطة عند جماعات لبنانية معتنقة لثقافة القناصل منذ زمن بعيد. وما تتمناه ريتشارد قبل مغادرتها بيروت غير قابل للتحقق، لأن من ترغب في الاجتماع به (يعرف بعض القريبين منها أنها تقول إنها ترغب في ذلك من كل قلبها) ليس من النوع الذي يرحب بها!
السفيرة التي تشرح أحياناً أنها من فئة الناس العاديين في بلادها، تهتم أيضاً لـ«مشاعر المواطنين الرافضين للفساد». وهي التقت قبل أيام، برفقة مسؤولين من السفارة، شخصيات لبنانية؛ بينها مصرفي تعرف أنه على صلة بقوى 8 آذار. لكنها تميّزه لناحية أنه يفضل حياة أميركا على حياة إيران. وتعرف أن روح عمله مرتبطة بقرار وزارة الخزانة الأميركية. وتعرف أن ميوله الشخصية ليست حيث يقف الآن سياسياً. لكنها تفضل أن تستمع منه الى بعض المعطيات، كما بعض الأسئلة، التي تفيدها في بعض الأمور. وتستمتع بتحميله كمية من الرسائل التي تعرف أنه سيحملها على وجه السرعة الى مرجعيته السياسية حيث القناة المباشرة مع حزب الله.
المصرفي الشطّور فعل كل ما توقّعته السفيرة تقريباً. عاد بمحضر عن اللقاء. من كان موجوداً وماذا دار في اللقاء، ومن سأل ومن أجاب ومن قدم إيضاحات. وكيف كانت تعابير الوجوه، وخصوصاً أنه استفاد من وجود إعلامي في اللقاء كان له دور في الحوارات والإيضاحات. لكن المهم، أن موجز ما نقله المصرفي هو الآتي:
ــــ حرص الفريق الدبلوماسي الأميركي على نفي «أي علاقة لنا بما يجري، لكن تحقيق المطالب يحتاج ربما الى استمرار التظاهرات وأي أساليب احتجاج أخرى، بما فيها قطع الطرقات». وعبّر الفريق عن قلقه، على صيغة أسئلة، عن احتمال حصول «توتر مسيحي ــــ مسيحي في حال تركّز الحراك في مناطق معينة وانحساره بعيداً عن جمهور أو مناطق حزب الله».
«رسائل التحذير الضرورية»، عندما تأتي من سفارات ودول، لا يكون فيها أدنى حرص على سلامة المواطنين


ــــ يملك فريق السفارة نظرة سلبية الى الوضع الاقتصادي والمالي، ويتحدّث عن صعوبة في توقع خروج لبنان من الأزمة (بالمناسبة، قال سفير أوروبي بارز إن تقديرات واقعية تقول إن لبنان يحتاج الى 5 سنوات على الأقل للخروج من النفق الاقتصادي الحالي إن باشر إصلاحات كبيرة). لكن الفريق الدبلوماسي الأميركي يرى «إيجابية» لناحية أن «واقع لبنان اليوم سيجعل المسؤولية تقع على ميشال عون وحزب الله».
ــــ إشادة متكررة بقائد الجيش العماد جوزيف عون «الذي يبدو أنه أفضل من يعرف لبنان من بين جميع المسؤولين، برغم أن ميشال عون هو من اختاره لمنصبه، لكن واشنطن تتحمّس له بعدما تعرفت إليه وهو محلّ احترام المؤسسات الأميركية وستواصل دعمه في منصبه ودعم الجيش».
ــــ اعتبار أن دور وسائل الإعلام يمكن أن يتجاوز ما تحتاج إليه السلطة، بل يمكن أن يكون رافعة ليس فقط لشعارات بل لشخصيات من خارج النادي المعروف. وفي تدقيق جانبي، مع أحد المسؤولين في السفارة الأميركية، يكون الحرص واضحاً حيال «انتباه» الإعلام الى «منع الترويج لمحتجّين متطرفين يريدون تغييراً جذرياً لتركيبة النظام، لأن الواقعية تفترض العمل على تغيير سياسة النظام وسلوكه، ومعرفة أن الإصلاحات المطلوبة هدفها لا يتعلق حصراً بإرضاء الناس، بل باستعادة ثقة المجتمع الدولي».
لكن الأمر لا يتوقف هنا بالنسبة إلى الإحاطة الخارجية بالحدث اللبناني. لأن ما هو أهم يتعلق بدور الأجهزة الأمنية والعسكرية. و«رسائل التحذير الضرورية» بعدم التعرض للمتظاهرين، عندما تأتي من سفارات ودول، لا يكون فيها أدنى حرص على حياة المواطنين وسلامتهم. وحتى لا يجتهد أحد، يكون الجواب الغربي واضحاً: «ممنوع على القوى الأمنية القيام بأي نشاط أو إجراء من شأنه إحباط الاعتراضات القائمة، والمطلوب هو احتواء التحرك لمنع استغلاله من الطرف الآخر»، علماً بأن هذه «النصائح» تترافق مع مطالبات بإجراءات خاصة لحماية السفارات والقنصليات والمؤسسات الغربية، وتسهيل مغادرة من يشاء من الرعايا الأجانب. بالمناسبة، هل هناك من سأل كيف ترك الجيش (والقوى الأمنية) الطرقات مقفلة أمام مسافرين، بينما تولى تأمين خط سير آمن لقافلات تنقل رعايا السعودية وغيرها؟ بالإضافة الى عدد كبير من الأسئلة حول دور الأجهزة الأمنية في بعض الأنشطة وخصوصاً ملف قطع الطرقات أو منع فتح بعضها.
لكن السذاجة تأخذ منحى أكثر خطورة، عندما لا ينتبه الناس المقهورون الى من بات يقف «إلى جانبهم» في الحراك. تذكّروا هذه اللائحة: القوات اللبنانية، حزب الكتائب، وليد جنبلاط والحزب الاشتراكي، قيادات 14 آذار، فؤاد السنيورة ورضوان السيد مع كامل فريق الانقلاب المستقبلي على سعد الحريري، قيادة الجيش وقيادة قوى الأمن الداخلي، الجماعة الإسلامية، جميع المنظمات غير الحكومية وخصوصاً تلك المموّلة من حكومات وجهات غربية، الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية، أرباب الفساد من «المتبرعين» من أصحاب شركات الترابة والاسفلت، وحشد المقاولين وممثلي الشركات الناشطة في الأعمال التجارية العامة... وصولاً الى الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا والسعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر وتركيا... ومحمد دحلان!
السذاجة هي في الإصرار على عدم رؤية كل هؤلاء، وعدم القطع بينهم وبين الحراك. فبقاؤهم مؤثرين على المسرح، سيعني ضياع اللحظة، وتبديد السبل التي تسمح بالوصول إلى الأهداف التي من اجلها خرج الناس إلى الشوارع.