الإجراءات «الناعمة» والاستنسابية التي بدأتها المصارف قبل أسابيع بشأن تقييد عمليات السحب والتحويل، تحوّلت في الساعات الأربع والعشرين الماضية إلى كابوس يؤرّق اللبنانيين. فقد انتقلت هذه الإجراءات إلى مرحلة أشدّ قساوة وأكثر لؤماً، إذ امتنعت الكثير من المصارف أمس عن صرف الشيكات نقداً مهما تكن قيمها متدنية، وخفضت سقوف السحب إلى أقل من 2000 دولار شهرياً، وخفّضت سقوف السحب عبر بطاقات الائتمان أيضاً. والانكى أن بعض المصارف تمتنع عن تسليم زبائن كامل رواتبهم «الموطَّنة»، فضلاً عن امتناع مصارف عن إجراء تحويلات داخل لبنان. وواصلت المصارف تعليق التسهيلات المصرفية القصيرة الأجل (Over draft) للشركات، ما دفع بالكثير من الصناعيين والتجار والمقاولين وسواهم من الشركات، إلى بدء إجراءات تقليص الرواتب وإعداد لوائح لصرف الموظفين... هذه القرارات ستكون شرارة أكبر موجة صرف موظفين شهدها لبنان، سيتبعها ارتفاع هائل في معدلات البطالة كان البنك الدولي قد حذّر من أن تتجاوز 50% وأن تكون أعلى لدى الشباب بالتحديد.إلى جانب هذه التطورات، كانت جمعية المصارف لا تزال تسعى لانتزاع إقرار من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة يحميها تجاه الزبائن في لبنان والخارج الذين يعتزمون رفع دعاوى إفلاس في نيويورك بسبب امتناع المصارف عن تحويل الأموال إلى الخارج. المصارف، ولكل منها أسبابه الخاصة، ترى أن الغطاء المناسب لها لحمايتها من دعاوى الإفلاس هو في إعلان تطبيق ما يسمى الـ«كابيتال كونترول» بشكل رسمي، خلافاً لرؤية سلامة الذي يحاول رمي كرة النار هذه على مجلس النواب، «أي على السياسيين»، وفق تعبير المصرفيين، لتحميلهم مسؤولية هذا القرار.
تقول مصادر مصرفية إن سلامة يتذرّع بعدم صلاحيته لإعلان الـ«كابيتال كونترول» رسمياً وأن هذه الخطوة ليس منصوصاً عنها صراحة في قانون النقد والتسليف ما يستوجب استصدار تشريع لها في مجلس النواب، لذا «دفش» رئيس جمعية المصارف سليم صفير ليقوم بجولة على الرؤساء استهلها أول من أمس عند الرئيس برّي للطلب منه تشريع قانون للقيام بإجراءات تقييد التحويل والسحب.
بعض المصارف تمتنع عن تسليم زبائن كامل رواتبهم «الموطَّنة»


وقال بري أمام زواره أمس إنه يعارض أي خطوة تتعلق بتقييد حركة الأموال (Capital Control). وفي الموضوع نفسه، أوضح رئيس جمعية المصارف سليم صفير في تصريح أمس، أن «اللقاء مع رئيس مجلس النواب نبيه بري، يأتي في إطار الاتصالات المستمرة مع كل القيادات اللبنانية للتباحث في وسائل الخروج من الأزمة الراهنة التي تعصف بالبلاد». وقال: «ناقشنا العديد من النقاط، إلا أنه لم يُصر إلى طرح ما ذكر عن اقتراح قانون متعلق ببعض نواحي سير العمل المصرفي».
تقاذف المسؤوليات بين سلامة والسياسيين فضلاً عن رغبات المصرفيين في حماية مصارفهم من الانهيار، لا يزال بعيداً عما يحصل على أرض الواقع حيث الناس بدأت تتململ من سلوك المصارف. بعض المصارف بات يرفض أن يدفع للزبائن رواتبهم التي يتقاضونها عبر الشيكات.
الـ«كابيتال كونترول» الذي تطلبه المصارف، يشمل عمليات مختلفة منها التزامات على شركات لبنانية في الخارج، وهي التزامات تتعلق بالقطاعات الصناعية المهدّدة بالتوقف عن العمل بسبب عدم قدرتها على تسديد ثمن مستورداتها من الخارج من المواد الأولية الضرورية لخطوط الإنتاج، سواء كانت خطوط إنتاج في الصناعات الغذائية أو في الصناعات التحويلية أو سواها. ومنها أيضاً ثمن مستوردات استهلاكية مثل السيارات والأثاث المنزلي وأمور أخرى، وهناك ثمن مستوردات تتعلق بالكماليات مثل اليخوت وسواها.
وإلى جانب هذا الأمر، بدأت إجراءات القيود تطاول عمليات تجريها شركة «ميدكلير» التي تعد بمثابة مخزن السندات والأسهم وباقي الأدوات المالية. فقد صدر تعميم عن رئيس مجلس إدارة شركة ميدكلير فؤاد الخوري يحمل الرقم 79 ويشير فيه إلى أن الدفعات على الشركات في الخارج لن تكون متاحة بعد الآن، وأن كل الدفعات التي تتعلق بأعمال الشركات مهما كانت، ستوضع في حسابات الشركات لدى مصرف لبنان. بمعنى آخر فإن كل الأعمال التي تنطوي على عمليات تحويل إلى الخارج باتت ممنوعة، وأي طرف محلي لم يعد بإمكانه تحويل الأموال إلى شريكه الأجنبي.