صدرَ منذُ أسبوع تقرير لمجلة «لو بوان» الفرنسية، في ظاهِره تذكير بقضية «سعودي أوجيه»، لكنه يحمِل في طياته إشارة سياسية. يقول التقرير المنشور تحت عنوان «سعد الحريري كريم مع العارضات، وليسَ مع موظفيه»، إن الـ«16 مليون دولار التي قدّمها الحريري الى عارضة الأزياء الجنوب أفريقية تساوي تقريباً قيمة الأموال التي يدين بها لـ 240 موظفاً فرنسياً كانوا يعملون فيها»، ثم يوجّه، في فقرة ثانية، اتهاماً لقصر «الإيليزيه» بالتقصير في حلّ الملف. تقرير المجلّة جاءَ بعدَ يومين من استقالة رئيس الحكومة. وبالتوقيت أيضاً، يتزامن نشره مع الذكرى السنوية الثانية لاستقالة الحريري الأولى، عندما اختطفته المملكة العربية السعودية وأجبرته على التنحي، وكان لفرنسا دور بارز في تحريره وإعادته الى البلاد. إذا نُظر الى المسألة من زاوية ما يجري في لبنان حالياً، وغياب صورة السفير الفرنسي في بيروت برونو فوشيه عن منزل الحريري في وادي أبو جميل، بعدَ الاستقالة ــــ علماً بأن الأخير التقى النائب نجيب ميقاتي أخيراً ــــ يُمكن اعتبار ما أثارته الصحيفة رسالة سياسية تتجاوز قضية الموظفين الفرنسيين، وتصبّ في مسار الضغط الخارجي الذي يتعرّض له الحريري من أجل تأليف حكومة «تكنوقراط» لا يُشارك فيها حزب الله.لا شكّ في أن الحريري اليوم في ورطة. حيَن تلا بيان الاستقالة أول مرة مُرغماً، توافرت لديه كل الظروف الداخلية والخارجية للعودة واستكمال مسيرته السياسية. وإلى اليوم، فإن الفريق الداخلي نفسه الذي أنقذه من الأسر السعودي، يتمسّك به ليكون الرئيس المقبل للحكومة. مع فارِق أساسي يتمثّل في موقف الدول الخارجية التي تريده أن يكون رئيساً، إنما مع الانقلاب على شركاء التسوية الرئاسية. المُشكلة هي في الخيار الذي سيتخذه، وسيعود عليه في كل الأحوال بنتيجة سلبية، لأنه حين قرّر الخروج من الحكومة والالتحاق بركب الحراك، وضعَ نفسه في مواجهة خاسرة مع الطائفة السنية ومع القوى السياسية.
على المستوى السياسي، إذا أصرّ الحريري على حكومة من دون أحزاب، فلا شيء يضمَن بأن تبقى هذه الأحزاب على موقفها منه. وقد وضعت القوى الأساسية فيها، بالفعل، الأسماء البديلة وكل السيناريوات المُحتملة. أما في الشارع، فماذا سيحصل؟ إن تراجع عن السقف الذي وضعه وربط فيه عودته بحكومة «تكنوقراط»، فلن تبقى لديه أي مظلة شعبية تحميه، وبذلك يكون قد حرقَ أوراقه كلها مع ما تبقى له من مناصرين ــــ إلا قلّة منهم (شاركت في قطع الطرقات وتنظيم تحركات داعمة له). وإن بقي منخرطاً في دور «البطل»، فسينشغل في الحفاظ على هذه الأقلية، لأن شريحة لا يستهان بها من جمهوره انفضّت عنه وأصبحت في مكان آخر.
هذه الشريحة وجدت في الحراك مساحة تعبير. تتشارك فيها مع باقي الساحات الهموم المعيشية المشتركة، لكن جزءاً من انتفاضتها مرتبِط ــــ وفقَ ما يقول مشاركون ــــ بالإحباط السياسي. طوال سنوات التسوية الرئاسية، اتّسمت مشاعر جزء من مناصري تيار «المُستقبل» بالهزيمة نتيجة ما اعتبرته «عدم توازن» في التحالف القائم بين الحريري والوزير جبران باسيل. وبحسب هؤلاء، ساهم الحراك ضد السلطة والعهد في عودة الهمّة إليها، فاستعادت نشاطها ومعنوياتها، وكان الحراك بالنسبة إليها فرصة لإخراج كل الانتقادات والتحفّظات. صحيح أنه في الأيام الأولى للحراك، بقي معظم البيروتيين والبقاعيين في منازلهم، بسبب الموقف الذي صدر عن المفتي عبد اللطيف دريان وإصراره على الوقوف الى جانب الحريري، لكن من اليوم السابع لم يعُد بإمكان أحد تجاهل ما يحصَل في باقي المناطق، وطرابلس على وجه الخصوص. بدأت نسبة المشاركة تزداد، وتعززت بعد إطلاق أمين دار الفتوى الشيخ أمين الكردي موقفاً متضامناً مع المتظاهرين، داعياً فيه «جميع العلماء وجميع أصحاب الفكر وسائر الأحرار إلى الوقوف في صف الشعب المظلوم».
مشاركة جزء من جمهور الحريري في الحراك مرتبط بجزء أساسي بالإحباط السياسي


مسار الانضمام الى الحراك، حتى من وجوه محسوبة على تيار المُستقبل، كشف عن انتفاض هذه الشريحة على مرجعياتها. أرادت تقديم مشهد من خارِج كل السياقات التي وُضعت فيها، رافضة العودة الى جلباب الزعيم. لكن الأمر ليسَ مزحة ويفتح الباب أمام تساؤلات عديدة، وخاصة في ظل غياب أي قيادة قادرة على استقطابها، ما يُنذِر بتطوّر الأمور نحو الأسوأ، وبفتح المجال لدخول قوى متعدّدة لتسجيل خروقات في صفوف هذه البيئة، قد تكون على غرار المشاهد التي أُريد تصديرها في البداوي والعبدة، أو في مشهد الجندي المنشق في طرابلس!
لماذا هذا التخوف؟ يقول متابعون «حريريون» إن جمهور المستقبل هو الجهة الأكثر تعرضاً لـ«التفكك»، وإن أطرافاً كثيرة في الخارج ستحاول تجييرها لمصلحتها بوجه خصومها السياسيين على الساحة الداخلية، وستساعدها على ذلك أسباب عدة:
ــــ أولاً، أن الحريري نفسه قد يتهّرب من مسؤولياته، ويقرر ترك كل مسيرته خلفَ ظهره ويغادر البلاد. وفي حال بقائه هنا، سيقف على الضفاف أقرب الى المتفرج منه الى مشارِك في صنع القرار. فالشارع الذي قرر الحريري تحريكه، تبيّن أنه ليس هو من يقوده أو ينظّمه.
ــــ ثانياً، أن الذين يُعدّون مِن نخب الجمهور الحريريّ، سياسياً أو ثقافياً، دورهم محدود جداً. ليسَ لديهم شغل منظّم على الأرض. فالرئيس السابق فؤاد السنيورة، على سبيل المثال، يجِد نفسه محاصراً ومتهماً. النائب نهاد المشنوق ليسَ بعيداً عن محكمة الشارع المستقبليّ. «مجموعة العشرين» (التي «يقودها» السنيورة) لم تجتمِع مرة واحدة منذ بدء الحراك. وبالتالي، لم يعُد هذا الحراك فرصة لتصفية حسابات الحريريين «المنشقّين» مع الحريري، لأن العناصر اللازمة غير متوافرة: المزاج الشعبي غير موجود، وأي كلمة أو موقف أو مشروع سيطلقه هؤلاء لن يجِد أي صدى له في الشارع.
ــــ ثالثاً، وهو الأهم. في مقابل «الضربة» التي تعرض لها الحريري جراء الحراك، ظهر «جمهوره» بمظهرين مختلفين. واحد على صورة طرابلس «الثورة» وما يشبهها من «طرابلسات» مصغرة في عدد من المناطق. وآخر على صورة ما ظهر في مناطق أخرى مثل برجا، مجدل عنجر وسعدنايل والعبدة والبداوي. وهنا يتحدث المعنيون عن دور خارجي تقوم به جهات عدة، تحديداً تركيا ومعها قطر في مقابل الدور الذي تقوم به السعودية والإمارات. فالأتراك يحركون جمعيات إسلامية منظمة، بالإضافة الى أفراد ومؤسسات بهدف الحفاظ على النفوذ التركي، في الشمال تحديداً.
في ظل هذه المؤشرات، يرى المعنيون أن «الحريرية» اليوم أمام اختبار صعب. قياداتها كما معظم القيادات في مختلف القوى السياسية تعرضت لصفعة مدوية. لكن الآخرين لا تزال لديهم أوراق تجعلهم قادرين على استقطاب الشارع ولملمته، فيما غياب القيادة البديلة عند «الحريريين» يجعلهم مشتّتين بين خيارَين: إما على هيئة الاعتدال في طرابلس الحالية، وإما على هيئة تطرّف منكفئ ينتظر فرصته للعودة إلى الضوء.