طوال سنتين، لم تيأس المحامية فاديا شديد من البحث عن الحقيقة لتبيان براءة عمر العاصي، وعملت بجهد للعثور على طرف خيط يُنقذ موكّلها الذي اشتُهر بـ«انتحاري الكوستا» من الإعدام أو السجن عشرين سنة على الأقل. لم يُساورها الشكّ يوماً في براءة العاصي، لكن لم يخطر في بالها أبداً أن يكون من غرّر بموكلها مخبراً يعمل لمصلحة... مخابرات الجيش!بدأت القصة قبل أكثر من عامين. العاصي الذي كان يجاهر على مواقع التواصل الاجتماعي بكرهه للشيعة والمسيحيين «الذين يحكمون لبنان»، تلقّى على حسابه على تويتر رسالة من حساب يُطلق صاحبه على نفسه اسم «لِيلّو». طلب الأخير منه أن يتواصلا عبر تطبيق «تيليغرام». هناك، أخبره بأنّه ينتمي إلى تنظيم «الدولة الإسلامية»، وطلب منه زيارة مواقع جهادية تتضمّن إصدارات مرئية وصوتية للتنظيم. بدأت بين الطرفين «علاقة أُخوّة» استمرت نحو ستة أشهر، أخبر العاصي خلالها «ليلّو» عن رغبته في الخروج من لبنان للجهاد. إلا أن الأخير نجح في إقناعه بالبقاء في لبنان لتنفيذ «عملية استشهادية»، وطلب منه إرسال تسجيل مصوّر يبايع فيه «الخليفة أبو بكر البغدادي». بعدها، حدّد له تاريخ ٢١ كانون الثاني 2017 موعداً للتنفيذ. طلب منه أن يستحم ويُجهّز نفسه، واتفق معه على خطة لتسلّم حزام ناسف من أحد الأشخاص قرب مسجد الحريري في صيدا، مزوّداً إياه بكلمة السرّ وبمواصفات السيارة التي ستكون في انتظاره. هكذا كان. في الموعد حضر العاصي ووجد شخصاً بانتظاره في سيارة. «بيبلوس» كانت كلمة السرّ، ردّ عليها السائق بعبارة: «يللي صبر، بيوصل». صعد العاصي إلى جانب الرجل الذي ألبسه الحزام الناسف، والذي وصفه المتهم بأنه «ثلاثيني هادئ، حكيو بلا لكنة». تنقل محامية العاصي عن موكّلها أنّه رأى أربعة أحزمة ناسفة في المقعد الخلفي، وأنّ السائق حدّد له مكان التفجير في مقهى الكوستا في محلة الحمرا، ثم أوصله إلى المكان المحدد حيث أوقفه عناصر من مخابرات الجيش قبل أن يضغط على زر التفجير.
على مدى جلسات المحاكمة، حاولت المحامية شديد، عبثاً، سلوك كل السبل الممكنة لكشف براءة موكّلها، من دون أن تنجح بسبب التكتّم الذي رافق العملية. طلبت عرض الحزام الناسف على المتهم، فرفضت هيئة المحكمة الطلب. كما طلبت داتا الاتصالات من فرع المعلومات، فردّت رئاسة المحكمة الطلب أيضاً. بعدها، طلبت شديد أن تستدعي المحكمة للشهادة أمنيين من مخابرات الجيش وفرع المعلومات، لكون العملية مشتركة بين الجهازين، فجاء الردّ عبر رسالتين وردتا إلى المحكمة العسكرية من مديرية المخابرات وفرع المعلومات، الأولى أبلغت المحكمة أنه «يتعذّر علينا الإجابة لأسباب أمنية»، فيما تضمّنت رسالة فرع المعلومات تفاصيل سرية تُكشف للمرة الأولى. عادت الرسالة الى كانون الأول 2016، عندما أُوقف لبناني وسوري ينتميان إلى تنظيم «الدولة الإسلامية» تبين أنّهما على تواصل مع جهاز العمل الخارجي في التنظيم الذي كلّفهما بتنفيذ عمليات انتحارية. بعد توقيف الرجلين من دون إعلان، استمر التواصل مع مشغّلهما في مدينة الرقة السورية، بإشراف ضباط من الفرع، ليتبيّن أنّ المشغّل كان في الوقت نفسه على تواصل مع مخبر يعمل لمصلحة المخابرات. وعليه، اتُّفق على تنفيذ التنسيق بين الجهازين، لكون الشخص نفسه يتواصل مع الموقوفين لدى فرع المعلومات ومع مخبر الجيش.
الرسالة أشارت الى أنّه في اليوم الأخير من عام 2016، طلب المشغّل (اللبناني أحمد زهرمان الملقّب بـ«البرفيسور»، وقُتل لاحقاً في غارة جوية في الرقة) من الموقوفين لدى الفرع الإعداد لتنفيذ عمل انتحاري من ضمن مجموعة من الانتحاريين في ليلة رأس السنة، قبل أن يُبلغهما بإرجاء العملية لعدم التمكن من إدخال أحزمة ناسفة إلى لبنان. وفي صباح 21 كانون الثاني 2017، طلب المشغّل من الموقوفَين لدى الفرع الاستعداد لتنفيذ عملية انتحارية في صور، وأن يتوجّها إلى صيدا لتسلّم الأحزمة الناسفة. تواصل ضباط المعلومات مع مخابرات الجيش ليتبيّن أنّ المشغّل أعطى التعليمات نفسها للمخبر. رسالة المعلومات الى المحكمة العسكرية أشارت إلى أنّه أثناء التوجه إلى صيدا، حدثت مماطلة لكسب الوقت، لكي يتمكن مخبر المخابرات من تسليم الحزام الناسف للانتحاري الثالث، وبيان إذا ما كان هناك انتحاري رابع لتوقيفه. وختمت الرسالة بالإشارة إلى أنّ فرع المكافحة في مديرية المخابرات اصطحب العاصي من صيدا إلى الحمرا حيث تمَّ توقيفه داخل مقهى «كوستا».
في المحصّلة، توافرت معلومات عن وجود عملية انتحارية جماعية. فرع المعلومات تحدث عن أربعة انتحاريين، كان اثنان منهم موقوفين لديه. أما معلومات مخابرات الجيش فأفادت بوجود ثلاثة انتحاريين يجري البحث عنهم، استناداً إلى معلومات تم الحصول عليها من مخبر كان يتواصل مع قيادي في تنظيم «الدولة الإسلامية». وقد أبلغه الأخير أنّه سيُرسل له ثلاثة أحزمة ناسفة لتسليمها الى ثلاثة انتحاريين. يومها، علم ضباط المخابرات أنّ اثنين من الانتحاريين موقوفان لدى فرع المعلومات، فيما بقي الانتحاري الثالث مجهولاً، قبل أن تكتشف أنه عمر العاصي، عندما حضر لتسلّم الحزام الناسف.
وعلمت «الأخبار» أن المخبر تسلّم الأحزمة الناسفة في بلدة بقاعية من شخصين لم توقفهما المخابرات حرصاً على عدم انكشاف المخبر، لكنها أبقتهما تحت المراقبة. فور تسلّم المخبر الأحزمة الناسفة، طلب زهرمان من المخبر نقلها إلى صيدا حيث سيحضر الانتحاريون لتسلّمها. حضر العاصي في الموعد المحدّد لتسلم حزامه الناسف الذي كان قد عُطّل على الأرجح، وطلب منه المخبر تنفيذ التفجير في مقهى «كوستا» في الحمرا وليس في صور. في المقهى، داهمت قوة من المخابرات العاصي وأوقفته من دون أن يكون أفرادها، على الأرجح، على علم بأن الحزام الناسف معطّل. وهذا ما يفسّر الضرب الشديد الذي تعرّض له المتهم أثناء توقيفه.
مديرية المخابرات تؤكد أن المخبر الذي سلّم الانتحاري الحزام الناسف لم يستدرجه لتنفيذ العملية الانتحارية


رسالة «المعلومات» تعني، بوضوح شديد، أنّ من زوّد العاصي بالحزام الناسف واختار له الهدف وأوصله إلى المكان المحدد هو مُخبر مخابرات الجيش. وهذا ما أثار سيلاً من الأسئلة المشكّكة: لماذا يرافق عناصر المخابرات انتحارياً مزنّراً بحزامٍ ناسف، ولو كان معطّلاً، إلى مقهى يعجّ بالمواطنين؟ ولماذا لم يُوقف المتهم فور وصوله لتسلّم الحزام الناسف في صيدا؟ وهل كان هدف تطويل أمد العملية تحقيق «خبطة إعلامية» لإنجاز نوعي لمديرية المخابرات عبر عملية استعراضية تُحبط فيها عملية انتحارية قبل لحظات من تنفيذها؟ لماذا المخاطرة بتضييع إنجاز كان سيكون نوعياً حتى لو لم يترافق مع الاستعراض الإعلامي؟ ولماذا صمت فرع المعلومات طوال هذه المدة؟ أما السؤال الأكثر خطورة: هل المخبر سائق السيارة هو نفسه «ليلّو» الذي جنّد العاصي وأقنعه بتنفيذ العملية الانتحارية، ما يعني عندها أن العملية بمجملها «مفبركة» وقائمة على الاستدراج؟
مصدر مطّلع في مديرية المخابرات ينفي تماماً أن يكون المخبر قد استدرج العاصي، مؤكداً أن الأخير «انتحاري لم يُسعفه الحظ». وأكّد أن المخبر «ليس نفسه الشخص الذي جنّد العاصي، إنما كان وسيطاً مع مشغّل الرقة الذي كان يُعطي توجيهات لكل من المخبر وللموقوفين الاثنين لدى فرع المعلومات». وعن سبب اختيار مقهى «كوستا» لتنفيذ العملية، يجيب المصدر بأنّ «الغاية كانت كسب مزيد من الوقت لربما يتواصل خلاله الانتحاري مع أي شخص آخر. وفي الوقت نفسه، إبعاده عن صور وصيدا لتأخير إعلان إفشال العملية».
تجدر الإشارة إلى أنّ المحكمة العسكرية أرجأت محاكمة العاصي المعروف إلى 10 آذار المقبل. وأرسلت كتابين الى كل من فرع المعلومات ومخابرات الجيش تطلب فيهما استدعاء ضابطين للشهادة لشرح بعض الملابسات المتعلقة بالقضية.