فبعيداً عن المسبّبات الصغيرة، يفترض السؤال عمّا حال طوال هذه السنوات دون بناء المختبر الوطني وتفعيل صناعة الأدوية في بلد يطيب لأهله تسميته «مستشفى الشرق الأوسط» والتغنّي بحلوله في المراتب الأولى للطبابة، من دون أن يكون لديه صناعة أدوية، وأقلّه محاولة التصدير إلى البلدان المجاورة لمعادلة فاتورة الاستيراد أو القفز فوقها؟ تطول اللائحة هنا، ففاتورة لبنان السنوية نتيجة استيراد «الأغري فود» مليار و300 مليون دولار، و60 مليون دولار للورود، ومليار و300 مليون دولار للأدوية والمستلزمات الطبية، مليار دولار لمنتجات صناعة الأغذية والمشروبات، مليار دولار للحوم، مليار و700 مليون لمنتجات الصناعات الكيميائية، 5 مليارات على المنتجات المعدنية ومثلها الكثير.
أما السبب الثاني، فمردّه وفقاً لقرداحي إلى الاقتصاد الجزئي أي «الطبيعة الاحتكارية للأسواق اللبنانية، بحيث لا نجد إلا عدداً محدوداً من الشركات والمنتجين في كل قطاع. فالدولة اللبنانية التي فتحت الأسواق بشكل كبير وسهّلت دخول البضائع، أبقتها مغلقة إلا أمام عدد من المستوردين والمنتجين المحليين». وذلك لإغناء بعض المحظيّين مقابل إفقار غالبية الطموحين وإجبارهم عمداً على التخلّي عن أعمالهم وشركاتهم: منع المنافسة الداخلية يرفع كلفة الإنتاج، وخصوصاً مع غزو البضاعة المستودرة الرخيصة للسوق. أضف إلى ذلك طبيعة الاقتصاد التي حصرت النشاطات بالمصارف والسياحة والبناء... وهذه القطاعات أيضاً تغذّت من الاحتكار، بمعنى أن السياسة النقدية حدّدت خطاً واضحاً للفوائد والخدمات متشابهة في كل المصارف، وبالتالي منعت التنافس في ما بينها.
يضغط «لوبي» رجال الأعمال لمنع إقرار قانون المنافسة وتحرير الاقتصاد
وكان يفترض أن يرفع قانون المنافسة الذي أعدّه وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش يد المحتكرين بشكل أو بآخر عن بعض القطاعات الرئيسية ويعيد الحماسة الى أصحاب الشركات ومصانع الإنتاج، لكنه يصطدم اليوم بمساعٍ لإسقاطه أو إفراغه من مضمونه. وتشير المعلومات الى أن «اللوبي» النافذ يضغط اليوم لمنع إقرار القانون حتى لا تسحب ورقته الرابحة من بين يديه. في اتصال مع «الأخبار»، قال بطيش إنه أنجز القانون وفق أهم المعايير الدولية خلال السنة الماضية وأرسله إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء. والمطلوب أن يوقّعه وزير الاقتصاد راوول نعمة ويعيده إلى المجلس، لا أن ينشره على الموقع الإلكتروني. فنعمة وضع مشروع القانون المعدّ من بطيش على موقع الوزارة الإلكتروني حتى يتمكن المواطنون من اقتراح التعديلات عليه وسط ضغط سياسي من الهيئات الاقتصادية وغيرهم لمنع بتّه. ببساطة، يريد هؤلاء الإبقاء على اقتصاد يأكل حقوق الناس، لأنه يخدم القلّة المحتكرة، فيما البلد يرزح تحت خط الفقر، مترافقاً مع ارتفاع خياليّ في سعر صرف الدولار. الأولوية اليوم، «هي لتحرير الاقتصاد بالفعل، فمن المعيب أن نكون من بين الدول التي تدّعي الاقتصاد الحر، ولكنها من بين قلّة لم تقرّ قانوناً لمنع الاحتكار في جميع القطاعات».
إعادة النهوض بالاقتصاد اللبناني، على ما يرى أحد الخبراء، أسهل مما يبدو عليه. فتسارع الأزمة النقدية وانكشاف سعر الدولار أدّيا تلقائياً الى خفض الاستيراد، بالتزامن مع بحث السكان عن المنتج الأقل سعراً، ما يعني استبعاد غالبية السلع الأجنبية بشكل تلقائي. ولكن رغم ذلك، «يفترض الوصول الى صيغة تحمي الإنتاج المحلي وتمنع ولو لفترة معيّنة استيراد بعض السلع مقابل خلق مناخ تحفيزي لأصحاب الأعمال الصغيرة والمصانع على شكل إعفاءات ضريبية أو قروض بفوائد منخفضة، وهو ما سيساهم أيضاً في خفض عجز الميزان التجاري. هذه الخطة، تترافق بالتكافل والتضامن بين وزارات الاقتصاد والصناعة والزراعة والخارجية لتأمين أسواق لتصريف الإنتاج في دول الخارج».