في توقيت مدروس، وفي ذروة الاستنفار على الحدود مع لبنان، عمد قائد المنطقة الشمالية في جيش العدو اللواء أمير برعام الى توجيه رسائل محدَّدة ومضبوطة الى حزب الله، تمحورت حول التهديد بالرد على رد حزب الله، مع إظهار حرص شديد على تجنّب التدحرج الى حرب، في موقف يكشف عن قرار قيادي بأن تكون الرسائل مدروسة بدقة في مضمونها وحدودها، وتحاول الجمع بين تعزيز صورة الردع والحؤول دون رفع مستوى الاستفزاز والتحدي.لذلك، تُظهر القراءة الهادئة والدقيقة للمقابلة مع صحيفة «اسرائيل هايوم»، أن برعام حرص على البقاء من دون سقف اللغة التي كنا نشهدها في سنوات ماضية حول تدمير لبنان وإعادته عشرات السنوات الى الوراء. ومن الواضح أن ذلك يعود الى حرص القيادة الاسرائيلية على عدم استفزاز حزب الله، لإدراكها أن ذلك سيؤدي الى رسائل مماثلة مقرونة بتوفر الارادة والقدرة على تنفيذ ذلك.
مع ذلك، وبهدف التوازن، حاول برعام أيضاً أن يُعزِّز صورة الردع الاسرائيلي، بالتلويح برد قد يؤدي الى «أيام قتالية» وليس الى حرب. وعندما حدَّد له المحاوِر سيناريو استهداف الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، أجاب بأن ذلك يتم في ظروف مُعينة! وبالمناسبة، لم يُظهر تبجّحاً في الحديث عن هذا الأمر، بخلاف ما هي عادة القادة العسكريين، بل بقي ضمن سقف تجنّب الاستفزاز والتحدي. لذلك، رداً على سؤال «هل يجب أن يكون (السيد نصر الله) هدفاً للتصفية؟ كان جوابه: «نعم، في ظروفٍ معينة»، و«حالياً هذا غير مناسب، لكن يمكن أن تتغير الأمور».
مع ذلك، وبعيداً عن الدخول في مناقشة هذا الخيار ومدى القدرة على تنفيذه، اللافت أيضاً أن القيود نفسها حدَّدها برعام رداً على سؤال آخر للمحاوِر حول سيناريو استهداف «قدرات استراتيجية» لحزب الله تضعها القيادة الاسرائيلية العليا على رأس أولوياتها. فاعتبر أن على حزب الله أن يفهم أن «هناك ثمناً لجنود إسرائيليين قتلى، وأن هذا منزلَق»، في إشارة الى أن هذا المسار قد يتدحرج نحو سيناريو يؤدي الى هذا الاستهداف. وهكذا يصبح جلياً أنه في ما يتعلق بالمفاصل الحساسة، حرص برعام على ربطها بالتدحرج والانزلاق، أي بنشوب الحرب، التي أعلن في المقابلة أيضاً، أن إسرائيل وحزب الله لا يريدانها.
قائد المنطقة الشمالية لا يترك فرصة إلا ويحاول الحد من تعاظم صورة حزب الله في وعي جنوده، بهدف الحفاظ على معنوياتهم، وفي مناسبات سابقة كانت لغته التهديدية أشد مما ورد في المقابلة مع «إسرائيل هايوم». لكن هذا القائد العسكري نفسه أقرّ بأن تصميم حزب الله على الرد - على قتل المقاوِم، علي محسن، في غارة قرب مطار دمشق الدولي - ليس وليد مستجدات تبلورت حديثاً، بل تعود الى ست سنوات إلى الوراء، عندما أعلن الأمين العام لحزب الله، «المعادلات» وثبّتها، بأنه رداً على قتل أي من عناصر حزب الله في لبنان أو سوريا، المقاومة سترد بقتل جندي إسرائيلي، وهو ما عمد الى تنفيذه في أكثر من محطة، بدءاً من الرد على اعتداء القنيطرة في كانون الثاني عام 2015، وصولاً الى عملية «أفيفيم» في أيلول 2019.
في السياق نفسه، حدَّد برعام أيضاً أن الهدف من رد حزب الله المرتقب، الحفاظ على معادلة الردع القائمة مع إسرائيل. وبالنص، أوضح قائد المنطقة الشمالية أن حزب الله «يريد ألا نبالغ، وأن نحافظ على قواعد اللعبة، والتأكد من أن رجاله لن يُقتلوا». وهو بذلك أقرّ ضمنياً بأن أبعاد هذا الرد تتصل مباشرة بالحفاظ على المعادلة التي تحمي لبنان والمقاومة.
الأهم في هذا التوصيف الذي قدَّمه قائد المنطقة الشمالية، أنه كشف ايضاً عن إدراك اسرائيلي للمفهوم الذي يحضر في عقل صانع القرار في حزب الله، ويمثّل عاملاً اساسياً في تصميمه على الرد، أنه لن يسمح باهتزاز معادلة الردع لكونها ستسهم في تغذية الاوهام والرهانات لدى المؤسستين الامنية والسياسية في تل ابيب.
مع أن التلويح بالحرب يفترض نظرياً أن يسهم في تعزيز صورة ردع اسرائيل، ورفع منسوب المخاوف من تداعيات رد حزب الله، لوحظ أن قائد المنطقة الشمالية، أعلن بشكل صريح ومباشر: «لحد الآن أنا أعتقد بأن الطرفين عاقلان، وكلاهما لا يريد الحرب. وأنا أقول على رؤوس الأشهاد، نحن لا نريد حرباً. وليس من الحكمة الوصول الى هناك، وما هو أكثر حكمة يكمن في تجنّب الوصول الى هناك، وهو (حزب الله) أيضاً لا يريد».
يختصر موقف برعام الكثير من الشروحات والاستدلالات لكونه يؤشر بشكل مباشر الى مدى تأثير إرادة حزب الله وقدراته عميقاً في وعي كبار القادة الاسرائيليين. ويكشف عن ارتداع «دولة» بحجم «إسرائيل»، ليس حصراً، عن شنّ حرب على لبنان والمقاومة، بل أيضاً عن التلويح بذلك في هذه المحطة. وهو أمر يعتبر استثنائياً في هذا التوقيت، ليس لجهة الهوة الهائلة في المزايا الاستراتيجية بين البلدين وحسب، بل ايضاً في ظل ما يواجهه لبنان على المستوى الداخلي. وهنا تتجلى حقيقة مغايرة تماماً لما يجري الترويج له، أنه كلما ضعفت مقومات الصمود الاستراتيجي ارتفعت معها الحاجة الى قدرات عسكرية نوعية تحاول ردم الهوة مع الاعداء المتربصين، لمنع - أو للحد من - استغلال أعداء لبنان ذلك.
في ضوء هذا المفهوم الذي أسهب في شرحه برعام، تصبح خلفية الشروحات التي قدمها لامتناع جيش العدو، بحسب الرواية الاسرائيلية، عن قتل مجموعة من عناصر حزب الله في شبعا، أكثر وضوحاً. فهو حدَّد أن «معضلة» استهداف المجموعة «شغلت القيادتين السياسية والامنية لساعات». ويعني ذلك أن هذا الامر خضع لتقديرات وتجاذبات وعرض سيناريوات خلصت في النهاية، بحسب ما ورد حرفياً على لسانه، الى «التقدير أنه إذ صُفّيت (المجموعة)، حزب الله سيضطر إلى الرد بشدة، بما في ذلك إطلاق قذائف صاروخية على الجليل والجولان، ما كان يمكن أن يتدهور بسرعة إلى أيام قتالية، بل وربما حرب».
حزب الله رسّخ في وعي قيادة العدو أن الوضع الداخلي في لبنان لن يردع المقاومة عن الرد القاسي


وهكذا يكشف برعام وبشكل صريح أن حزب الله نجح في أن يُرسِّخ في وعي كبار القادة الاسرائيليين أن مستجدات الوضع الداخلي في لبنان، لن تردع المقاومة عن الرد القاسي، وصولاً الى الرد المتدحرج الذي يشمل بحسب تعبير برعام «الجليل والجولان».
يلاحَظ ايضاً أن قائد المنطقة الشمالية يُميِّز بين مواجهة «أيام قتالية» والحرب. وهو ما ينبغي أن يكون حاضراً لدى مقاربة آفاق أي وضع قائم. لكن السؤال الاهم هو عمّا يدفع القيادة العسكرية الإسرائيلية إلى التلويح بخوض «أيام قتالية» بدلاً من الحرب؟ وأي سقوف تفصل بين السيناريوين؟ وما هي القيود التي تحضر لدى الطرفين، وتدفع كلاً منهما إلى الحرص على تجنّب الحرب؟ وأي دور يلعبه فهم هذه القيود في فهم المعادلات الاستراتيجية القائمة بين حزب الله والعدو؟ وأي رسائل تؤشر اليها هذه القيود في استشراف آفاق هذا الصراع المفتوح على مستوى المنطقة؟
نتيجة هذه القيود التي فرضها حزب الله على مؤسسات القرار السياسي والأمني في تل أبيب، تجد قيادة جيش العدو نفسها مضطرة إلى الاختيار بين خيارات ضيقة ومحدَّدة، على قاعدة الأقل ضرراً على صورة الجيش وعلى الأمن القومي الاسرائيلي. من جهة، أدى امتناعه عن استهداف مجموعة حزب الله في حينه، بحسب الرواية الاسرائيلية، الى انتقادات داخل الجيش والرأي العام والمؤسستين السياسية والاعلامية، لكون ذلك ظهَّر بشكل جلي قوة ردع حزب الله ورضوخ الجيش لذلك. ومن جهة مقابلة، تدرك قيادة جيش الاحتلال أنها في حال بادرت الى قتل مجموعة حزب الله، فسيتلقى أصحاب القرار في تل أبيب انتقادات اضافية وقاسية، نتيجة المواجهة التي ستنشب. وبحسب تعبير برعام «في اليوم الخامس من الحرب التي يمكن أن تندلع نتيجة حادثة ما، سيأتون إليّ جميعاً، بمن فيهم كل الذين ينتقدونني الآن لعدم قتلي هذه الخلية، وسيسألونني من هؤلاء الذين كانوا أصحاب الرؤوس الحامية وعملوا بقوة وليس بأدمغتهم».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا