ينسحب مبدأ التناسبيّة الذي حدَّده الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، كعنوان حاكم على ردود المقاومة في مواجهة أيّ اعتداء جوي إسرائيلي على لبنان، على العلاقة بين «الأبعاد الاستراتيجية الخطيرة على إسرائيل» لرد حزب الله الصاروخي، بحسب معلّقين مختصّين في كيان العدو، وبين مستوى الانتقادات العلنية التي تعرّض لها جيش الاحتلال وأجهزة التقدير الاستخباري. فالجيش وأجهزته مسؤولة عن «تضليل القيادة السياسية» باستبعادها الى حد الاطمئنان، رد حزب الله «التناسبي» والجدي والصريح على الغارة التي نفّذها سلاح الجو على منطقة مفتوحة في جنوب لبنان فجر الخميس الماضي. وكانت تلك الأجهزة تبني تقديرها على الظروف الداخلية التي يشهدها لبنان.وأظهرت الشروحات التي قدَّمها السيد نصر الله، بمناسبة الذكرى السنوية لانتصار حرب عام 2006، حول مخاطر ورسائل الاعتداء الإسرائيلي وخلفيات وأهداف قرار حزب الله بالرد وطبيعته وحجمه وتوقيته وأسلوبه، حجم الفروق بين عمق الفهم الذي تتمتع به قيادة حزب الله لواقع كيان العدو، وخلفيات خياراته ورهاناته وتقديراته، وبين الخلل الذي تعانيه القيادتان السياسية والعسكرية الإسرائيلية في فهمها لحزب الله ولبيئة المقاومة في ذروة الضغوط الداخلية والخارجية التي يتعرضون لها.
أهمية وخطورة هذا الخلل تكمنان في كونهما تُجسِّدان مرة أخرى حقيقة أن العدو قد يُحسن كثيراً وصف الوقائع، انطلاقاً من حجم المعلومات الكبيرة التي لم يعد هناك مشكلة في توفيرها، في ضوء تطور وسائل الاتصال والتواصل. لكن ذلك لا يُحصِّنه من الوقوع في الفخ الذي يُحذّر منه كبار الخبراء في عالم الاستخبارات إزاء خطورة وضرورة عدم «إسقاط مفاهيمنا على مفاهيم الطرف المقابل»، لأنها قد تورّط في خيارات تستند الى تقديرات خاطئة ويترتب عليها نتائج مغايرة بالتمام لما كان يتم السعي إليه.
كما في الكثير من المحطات السابقة، كانت الرؤية الاستراتيجية التي يتبناها حزب الله عاملاً رئيسياً أيضاً في إنجازات المقاومة وانتصاراتها. وهذه المرة كانت هذه الإنجازات عاملاً إضافياً أيضاً في منشأ الانتقادات التي تعرّضت لها أجهزة التقدير الاستخباري في كيان العدو، وتحديداً في ما يتعلق بالمفهوم الذي استند إليه قرار الاعتداء الإسرائيلي (فجر الخميس) الذي أسهب سماحة الأمين العام لحزب الله في كشف وشرح أبعاده ومخاطره على واقع ومستقبل الوضع في لبنان.
النتيجة المباشرة والفورية لرد حزب الله الصاروخي (الجمعة)، أنه منع العدو من تحقيق هدفه في فك القيد الذي فرضته المقاومة على خيارات العدو العدوانية إزاء لبنان والمقاومة منذ حرب عام 2006. هذا الهدف كان ولا يزال مطلباً ملحّاً لقيادة العدو. لكن، مع ذلك، لم تجرؤ طوال السنوات الماضية على المبادرة الى خطوات عملياتية لتحقيقه، رغم كل التطورات التي شهدها لبنان والمنطقة، باستثناء الاعتداء المحدود في شباط 2014، في منطقة ملتبسة بين لبنان وسوريا، وأحبطها حزب الله في حينه بالرد في منطقة مزارع شبعا. ويعود هذا الامتناع والتردد الى إدراك كل المسؤولين والقادة الذين توالوا على مناصبهم في تل أبيب أن أي مغامرة في هذا الاتجاه كانت ستؤدي الى رد مضادّ من قبل حزب الله قد يتدحرج الى مواجهة أوسع وأشد خطورة.
مع ذلك، الميزة التي اتسمت بها محاولة العدو الأخيرة، لا تكمن فقط في أصل المبادرة العملياتية، وإنما أيضاً في كونها صريحة ومباشرة، وعبر سلاح الطيران، وفي عمق الجنوب اللبناني. والخطورة الأشد في هذه المحاولة تكمن في كون أحد أبعادها، أيضاً، اختبار بالنار لمفاعيل مجموعة من العوامل المؤثرة في حسابات قيادة حزب الله، بدءاً من محاولة اكتشاف تأثير تطورات الداخل اللبناني على خيارات الحزب وتقديراته في مواجهة إسرائيل، الى مفاعيل رسائل التهويل التي توالى عليها قادة العدو في كل مناسبة، ولاكتشاف أثر الرفع المتواصل لمستوى جهوزية جيش العدو، طوال السنوات الماضية وما إن كانت ستؤدي الى ردع حزب الله أمام خيارين: إما التسليم بهذا المستوى الجديد من الاعتداءات أو الذهاب نحو مواجهة عسكرية واسعة لا يريدها في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي يشهده لبنان.
وفي ضوء نتائج هذا الاختبار، كان من الطبيعي أن يؤسِّس العدو لمسارٍ عمليّاتي يتجاوز المشهد الميداني في الجنوب ليطال لبنان بأكمله. ويتسع نطاق تداعياته الى أكثر من ساحة وعنوان بما في ذلك الوضع الداخلي في لبنان. وأي محاولة لاحقة لاحتواء هذه التداعيات والحد منها ستكون أكثر صعوبة وكلفة، وخاصة أن نجاح العدو في خطته، كانت ستؤدي الى تغذية أوهام المتربصين بالمقاومة، وتبثّ في وعيهم تقديراتٍ ــــ أوهاماً، تورّطهم وتورط معهم لبنان في ما هو أخطر من ذلك بكثير. ولا يوجد في هذا التقدير أي مبالغة، والمؤشر الأقوى عليه أن بعض هؤلاء على الأقل، يتمسك أحياناً بحدث أو موقف هنا وهناك، ويبني عليه تقديراته وخياراته، قبل أن يكتشف لاحقاً أنها كانت مبالغة أو من أنواع التفكير الرغبوي.
الحكومة الإسرائيلية الجديدة أصبحت أكثر إدراكاً، ومن موقع التجربة، بأن خياراتها في مواجهة حزب الله ولبنان محدودة وضيقة ومكلفة


ليس بعيداً عن هذا السياق، حققت المقاومة أيضاً إنجازاً في معركة الوعي يتصل بفلسفة وجودها ودورها، وفي تأكيد حاجة لبنان الى استمرار تعاظم قدراتها في مواجهة تعاظم قدرات العدو وجهوزيته المتواصلة لشن الاعتداءات. فقد أسقطت المقاومة بردّها المدوي في أبعاده ورسائله، الرهان على محاولة الإيحاء بأنها لم تعد قادرة على الاستمرار في الدفاع عن لبنان وحمايته. ولو امتنعت المقاومة عن الرد الجدي والفعال، كان سيتم توظيف ذلك في الحرب التي تشنها الأجهزة الداخلية والخارجية المعادية للمقاومة على وعي بيئتها، ومحاولة نشر مفاهيم من قبيل أن المقاومة أصبحت أكثر كلفة ومن دون جدوى. لكن النتيجة التي تبلورت بعد رد حزب الله، أكدت مرة أخرى حاجة لبنان الى المقاومة التي توفر له الأمن في مواجهة التهديد الإسرائيلي.
مع ذلك، تجدر الإشارة الى أن المقاومة، في كل السيناريوات، وفي مواجهة كل ما حقّقته وستحققه، ستبقى تتعرض لهذا النوع من الحروب التي تحاول توهين الإنجازات التي تحققها، والتشكيك بخلفياتها وخياراتها. واللافت أن بعض خبراء العدو، أكثر موضوعية من بعض الداخل. تجلّى ذلك في مقاربة الباحث في مركز هرتسيليا المتعدد المجالات، وفي منتدى الفكر الإقليمي، أوري غولبرغ، الذي كتب مقالة في موقع «يديعوت أحرونوت»، بعنوان «ماهية حزب الله التي نسينا أن نأخذها بالحسبان» تناول فيها هويته اللبنانية التي تملي عليه مواقفه وخياراته، في سياق الرد على القراءات التي حاولت الربط بين قراره بالرد وبين التطورات الإقليمية.
في مقابل كلّ ما تقدم، كان ردّ حزب الله صريحاً ومباشراً، وبشكل غير مسبوق منذ 15 عاماً. لكن خصوصية البعد الاستراتيجي لهذا الرد لا تكمن فقط في كونه مقابل اعتداء إسرائيلي سابق، بل في رسائله المستقبلية، التي أوضحها الأمين العام لحزب الله عندما تعهد بشكل صريح وواضح بالرد التناسبي والمناسب، على أي اعتداء جوي في أي بقعة من لبنان. وفي هذه النقطة بالذات، تكمن خطورة وأهمية تبديد رد حزب الله للتقديرات والرهانات التي ثبت أنها محفورة في وعي القيادتين السياسية والعسكرية في تل أبيب، لجهة أن تسارع الانهيار الداخلي في لبنان يشكل قيداً على حزب الله في الرد على أي محاولة تأسيس لمعادلة جديدة في لبنان تجعله مستباحاً أمام الاعتداءات الإسرائيلية.
لا يقتصر الربط بين الوضع الداخلي اللبناني وجرأة العدو على خياره العدواني، على تقدير ظروف الاعتداء وسياقاته وطبيعته وتوقيته وأسلوبه... بل هو أيضاً مما كشفه العديد من التقارير الإسرائيلية، حيث أظهرت بالدقة حجم الهوّة التي تفصلها عن فهم واقع حزب الله، وخاصة بعدما كشفت صحيفة «معاريف»، وغيرها من وسائل الإعلام الإسرائيلية، عن أن «ردَّ حزب الله فاجأ الأجهزة الأمنية كثيراً»، في إشارة الى أن درجة استبعاد رد الحزب كانت ترقى الى مستوى الطمأنينة، انطلاقاً من المعلومات المتوفرة لديهم عن مجريات الوضع الداخلي في لبنان. ونتيجة خطورة هذا الخلل وما قد يترتب عليه في المستقبل أيضاً، دعت الصحيفة الى «فحص معمّق لطريقة تحليل المعلومات الاستخبارية، وفحص إن كانت هناك غطرسة مفرطة في تقدير أن حزب الله لن يردّ». هذا مع الإشارة الى أن المفاجأة لم تقتصر على أصل قرار الرد، وإنما شمل أيضاً حجمه، وينسحب أيضاً بالضرورة على الإعلان عنه في بيان رسمي وتصويره ونشره في وسائل الإعلام.
تؤشر هذه الجولة، وما تخلّلها من تقديرات خاطئة استند إليها العدو، الى حقيقة تنطوي على مخاطر كبيرة جداً على الواقع اللبناني. وهي أن الحملة السياسية والإعلامية الداخلية في لبنان، والضغوط التي يشهدها على المستويات الاقتصادية والمالية، شكلت عامل استدراج للعدو للتورط في خيارات عدوانية. وإن كان رد حزب الله السريع والصريح والمقرون بالرسائل والمواقف التي أطلقها أمينه العام، أوقف في هذه المرحلة هذا التدحرج الذي كان سيورط لبنان وكيان العدو في مواجهة عسكرية واسعة.
مع ذلك، وبالرغم من اكتشاف رئيس وزراء العدو نفتالي بينت، وغيره من أجهزة التقدير السياسي والاستخباري، مبالغتهم في الرهان على مفاعيل الوضع الداخلي، إلا أنه عاد وتناولها في ما يشبه التحية والثناء على الأصوات التي تهاجم حزب الله في الداخل اللبناني. إذ اعتبر خلال جلسة الحكومة الإسرائيلية، أمس، أن «هناك صحوة مهمة جداً في الجانب اللبناني، يعبر عنها الكثير من المواطنين ضد حزب الله والتدخل الإيراني في البلاد». وتناغم بينت مع بعض الأصوات اللبنانية، بقوله إنه «في ظل الأزمة الاقتصادية والسياسية الحادة في لبنان، تتجه إيران وحزب الله لتوريط الشعب اللبناني بالجبهة مع إسرائيل»، متجاهلاً حقيقة أن عملية المقاومة أتت رداً على اعتداء جوي في عمق الجنوب اللبناني.
من جهة أخرى، تجدر الإشارة الى أن بينت فشل في ما كان يراهن عليه بأن يثبت أهليّته لقيادة إسرائيل في مواجهة حملات التشكيك التي يتعرض لها من قبل سلفه/ غريمه بنيامين نتنياهو. إذ كان يأمل بأن ينجح في خيار عدواني لم يجرؤ نتنياهو على الإقدام عليه، والتأسيس لمعادلة تهَيّب سلفُه الإقدامَ عليها. مع ذلك، فقد ثبت لرئيس الوزراء الجديد، بينت، الذي كان يوجّه الانتقادات لسلفه إزاء سياساته في مواجهة حزب الله ولبنان، أنه عندما يصبح في موقع القرار سيرى الأشياء بشكل مختلف عما كان يراها عندما كان في موقع المعارضة وفي موقع المزايد على سياسات نتنياهو وقراراته.
في كل الأحوال، المؤكد أن هذه الجولة ستخضع للكثير من البحث والدراسة لدى جهات التقدير والقرار في كيان العدو، من أجل استخلاص العبر ومحاولة إصلاح الخلل الكامن في المفاهيم التي ينظرون من خلالها الى المقاومة ولبنان. والقدْر المتيقَّن الذي أصبح واضحاً لدى قيادة العدو، أن من الخطأ الرهان على تطورات الوضع الداخلي في لبنان لشن المزيد من الاعتداءات على المقاومة وعلى لبنان من دون أن يتلقّوا ردوداً تناسبية. وأن الحكومة الإسرائيلية الجديدة أصبحت أكثر إدراكاً، ومن موقع التجربة، بأن خياراتها في مواجهة حزب الله ولبنان محدودة وضيقة ومكلفة.