في موازاة محاولتها الانفتاح على دمشق، وتقدُّمها بخطوات خجولة نحو هذا الهدف، تُتابع تركيا عمليّات إعادة هندسة الشمال السوري، بما يشمل الاستمرار في سياسة «التتريك»، ومواصلة تشييد سور ديموغرافي يحاذي حدودها الجنوبية، وتقوم هي باختيار سكّانه بعناية شديدة بما يضمن لها التحكُّم به على المدى البعيد. وإذ يأتي إعلانها نيّتها إنشاء تجمُّع سكني خاص بالتركمان متّسقاً مع ذلك المخطّط تماماً، فالظاهر أن أنقرة، إلى جانب سعيها للتخلّص من عبء اللاجئين في أقرب وقت، تريد تجذير وجودها شمالاً وتثبيته، قبل الدخول في أيّ مفاوضات ذات طابع سياسي مع الحكومة السورية
في سياق مخطّطها لبناء وحدات سكنية لإعادة توطين اللاجئين السوريين قرب حدودها، أعلنت تركيا نيّتها إنشاء تجمُّع سكني خاص بالتركمان، حيث تسعى إلى توطين 450 عائلة في المجمّع الذي أُطلق عليه «كوموش خانة»، تيمُّناً بولاية تركية تحمل الاسم ذاته. ومن المقرَّر بناء المنشأة الجديدة في منطقة بعيدة نسبياً عن مواقع انتشار التركمان الذين يعيشون في مناطق متفرّقة من ريفَي حلب واللاذقية، وهو ما من شأنه أن يسلّط الضوء مجدّداً على عمليات التغيير الديموغرافي التي تمارسها أنقرة في المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق. وسيتشكّل المركز السكني المُعلَن عنه أخيراً، والذي سيموِّله، وفق وسائل إعلام تركية، رجل الأعمال صبري فاران، من مجموعة شوارع تَحمِل أسماء أحياء تركية، مِن مِثل تورول وشيران وكلكيت، بينما تُظهر المخطّطات أن تنفيذه سينتهي قبل حلول العام المقبل.
وفيما أثار تخصيص هذا المخيّم للتركمان ردود فعل متفاوتة، وسط اتّهامات للسلطات التركية بـ«التمييز العرقي»، ربطت شخصيات سورية معارضة الإجراء الأخير بالانتخابات التركية، ولجوء الحزب الحاكم إلى استثارة «العاطفة القومية» للتأثير على عمليات الاقتراع، ولا سيما أن ثنائية «القومية والدين» تشكّل عاملاً رئيساً في سياسة رجب طيب إردوغان، الذي يحاول الموازنة بين النزعتَين بما يضمن فوزه بالانتخابات المقرَّرة في حزيران من العام المقبل، والتي سيكون فيها لقضيتَي اللاجئين والأكراد دور بارز، سيعمل الرئيس التركي على استثماره ما استطاع. وعلى رغم ارتباط قضية اللاجئين وتسريع وتيرة التخلّص منهم بمشروع «مدن الطوب»، إلّا أن الأخير يبدو ذا صلة أكبر وأعمق بعمليات التغيير الديموغرافي الجارية في الشمال السوري، حيث تعمل تركيا على تجذير حضورها من خلال تشكيل حزام بشري مضمون الولاء لها، وطرد السكّان الأكراد من مناطقهم التاريخية في ريف حلب (عفرين ومحيطها مثلاً)، وإعادة توطين سوريين من ريف دمشق وغيره من المناطق مكانهم. ولا تشذّ تلك العمليات عن سياق مخطّط كان الرئيس التركي قد أعلنه غير مرّة، ويقضي بإقامة ما سمّاه «منطقة آمنة» بعمق 30 كيلومتراً على طول الحدود بين البلدَين، كمقدّمة لقضم هذه المنطقة مستقبلاً على غرار ما جرى في لواء إسكندرون.
عملت أنقرة على تقسيم مناطق نفوذها في سوريا جغرافياً وربطها إدارياً بأربع ولايات تركية


وعملت أنقرة، سابقاً، على تقسيم مناطق نفوذها في سوريا جغرافياً، وربطها إدارياً بأربع ولايات تركية، هي: هاتاي وكلّس وغازي عنتاب وأورفا، تشرف على إدارة تلك المناطق من طريق مجالس محليّة تمّ تشكيلها بعناية لضمان تبعيتها، وضبطها بمحدّدات من قَبيل: فرض التعامل بالليرة التركية، وحصْر ميزانياتها ورواتب العاملين فيها بالمصارف التركية، والإشراف المباشر على المشاريع التي يتمّ تنفيذها، بالإضافة إلى تتريك المدارس، وإعادة تسمية الأحياء والشوارع والساحات العامة بمسمّيات تركية، وإبراز العلم التركي في المكاتب الرسمية للمجالس المحلّية وفي جميع المؤسّسات الإدارية، بما فيها المدارس، بالإضافة إلى ربط دائرة السجلّ المدني (تسجيل الولادات والوفيات) بالدوائر التركية في الولايات الأربع، والتي تقوم بإصدار بطاقات ووثائق يُطلَق عليها صفة «المؤقتة» لتنظيم الأمور.
وفي سياق تلك الهندسة، لا يُعدّ تسريع عمليات بناء التجمّعات السكنية، والذي يهدف أوّلاً إلى تحقيق رقم قريب من ذلك الذي أعلنه إردوغان الراغب في إعادة مليون لاجئ سوري، مفاجئاً، بل هو تتويج لخطّة تمّ تنفيذ خطواتها بدقّة، بدأت بفتح تركيا أبوابها أمام السوريين وحثّهم على اللجوء إليها مع بداية الحرب في عام 2011، ثمّ استثمارهم في قضايا عديدة؛ من بينها الصراع التركي - الأوروبي، واستعمالهم كغطاء للتدخُّل العسكري الذي انتقل من مرحلة دعم الفصائل المعارِضة إلى الدخول المباشر في عام 2016. وفي أعقاب ذلك، انطلقت خطوات جديدة تمثَّلت في إقامة سور اسمنتي على طول الحدود، والتضييق المستمرّ على محاولات الدخول إليها عبر شبكات التهريب، وصولاً أخيراً إلى مرحلة إعادة اللاجئين إلى مساكن جديدة قرب الحدود، يتمّ إنشاؤها بأقلّ التكاليف والتجهيزات الممكنة، على أن يقوم قاطنوها بإعادة إعمارها مستقبَلاً بعد نقل ملكيّتها إليهم، مقابل السكن فيها لعشرة أعوام متواصلة.
وإلى جانب تحصين الحدود بين سوريا وتركيا بجدار اسمنتي يمتدّ على طول أكثر من 800 كيلومتر، تمهّد أنقرة الطريق - أمنياً وعسكرياً - لدفع مزيد من اللاجئين نحو العودة، سواء من خلال محاولتها توحيد الفصائل تحت مظلّة واحدة، أو عبر خلْق حدود وهمية في الداخل السوري، من طريق إقامة سواتر اسمنتية في بعض خطوط التماس بين «قسد» ومعاقل النفوذ التركي في ريف حلب الشمالي، أو حفر الخنادق في منطقة الباب في ريف حلب الشمالي الشرقي، أو الدفع بمزيد من القوات العسكرية ونشرها في نقاط متقاربة (بقعة خفض التصعيد في ريف إدلب)، بهدف تحصينها عسكرياً. والظاهر أن هذه الخطوات توطّئ للانتقال من ميدان القتال إلى ميادين السياسة، بعدما فشلت أنقرة في الحصول على ضوء أخضر روسي وحتى أميركي لشنّ عملية عسكرية ضدّ المناطق الواقعة تحت سيطرة «الإدارة الذاتية، وأشهرت رغبتها في تطبيع علاقتها مع دمشق، والذي لا يزال يعترضه تجذير وجودها في الشمال، في ظلّ تمسّك الحكومة السورية بمجموعة أُسس، في مقدّمها الانسحاب العسكري التركي.