«كل ما تلمسه\ كل ما تراه\ كل ما تتذوّقه\ كل ما تشعر به\ وكل ما تحب\ وكل ما تكره\ كل ما لا تثق به\ كل ما تحفظه\ وكل ما تعطيه\ وكل ما تتعامل معه\ وكل ما تشتريه، تتسوّله، تقترضه وتسرقه\ وكل ما تصنعه\ وكل ما تدمره\ وكل ما تفعله\ وكل ما تقوله\ وكل ما تأكله\ وكل من تقابله\ وكل ما تهمله\ وكل من تقاتله\ وكل ما هو الآن \ وكل ما قد كان\ وكل ما سيأتي\ كل شيء تحت الشمس متناغم\ لكن الشمس يكسفها القمر\ ليس هناك جانب مظلم في القمر، حقاّ\ في واقع الأمر، كل شيء مظلم»- «كسوف»، «بينك فلويد» من ألبوم «الجهة المظلمة من القمر» (eclipse, pink Floyd, dark side of the moon).
بينما ينبض لحن «eclipse» (كسوف)، الأغنية الأخيرة من ألبوم «dark side of the moon» للـ«بينك فلويد» بمناخٍ احتفاليّ زاخر، حيث تكرار ضربات الطبول الصاخبة يشي بإماطة اللثام عن سرّ مخبوء، أو بالأحرى، كشف ذي طابع خلاصيّ عن الضباب العارم الذي يخيّم على الجهة المظلمة للقمر... الأرض، وهو خلاص قد انتظرنا طويلاً الإعلان عنه وخصوصاً بعد تراصّ الأغاني الدالة على الفظاعة المتأصلة في الوجود والعبثية الراسخة في العالم، فهو إذاً موعد جدير بالبهجة، إلا أن مجيء «eclipse» (كسوف) سيخلق زيغاً مفاجئاً، سيكون حضوراً للكسوف وتعميماً له، لأن الأغنية التي توقّعنا للوهلة الأولى أنها ستكون كلاماً غنائياً متفائلاً، على شاكلة أن الضوء موجود وسيحلّ علينا في نهاية النفق قد اتضح أنها تأبين لكل بريق وبشارة وعظيّة عن سيطرة الظلام، وما خلناه لحناً احتفائياً تبيّن أنه قرع لأجراس الجنازة، وحقيقة أن أبواب الجنازة مشرعة وسط النهار تثير الكآبة.

غلاف ألبوم «حيوانات»(«Animals»)، «بينك فلويد»>

في «eclipse» اللغة تتكلم وصفياً عن «الكل»، بيد أن تحديد هذا «الكل» غائب، هو مكتفٍ بنفسه، فالحضور الجنائزي دائماً ما يتطلب نزوعاً شبحياً، وضمير الغائب يشغل منصب التعبير عنه. المقطع/ الأغنية الأبوكاليبسيّ الذي غناه روجر واترز تكسوه نبرةً جازمة تصر على توكيد حقيقةٍ ثابتة مفادها أن كل شيء مظلم لكن ما يجعله مرئياً هي أشعة الشمس. النور هنا، كما تشير «بينك فلويد» إليه، استعارة كهف أفلاطون مقلوبة، هي نقيض الأفلاطونية، إذ إن النور هو غشاوة، وما هو «مُنير» يصبو إلى أن يكون وهماً، ما يعني أن الذنب يقع على الشمس باعتبارها وراء «ظلال الكهف»، بالتالي فالشمس رمزٌ خبيث تعمّد إلى الحجب لا الكشف، مهما بدت الأشياء، بفضلها، ظاهرة.
إذا كنّا جميعنا في ألبوم «الجهة المظلمة من القمر» (Dark side of the moon, 1975) مجانين، كائنات فاقدة للسيطرة هائمة في عالم لا عقلاني مظلم، فقد تمظهرت ملامح العالم أكثر بعد عامين، عقب صدور ألبوم «حيوانات» (1977 ,«Animals»). العالم هنا أكثر وضوحاً، والدال مباشر مثل المدلول. فقد اتضح أن العالم مزرعة حيوان أورويليّة، مزرعة يديرها ملاك رأسمالي نمكث فيها جميعنا بوصفنا حيوانات مختلفة. هناك الكلاب، والنعاج، والخنازير، ثلاثة أنواع مختلفة ترمز إلى منازل طبقية وثقافية تشكل معاً بنية المجتمع و «تنوّعه». ولأن العواء، والمأمأة، والعرير أصوات بريّة، أصوات خام، فلا ميلانكولية الساكسوفون ولا خفة البيانو تعبران عنها، لذلك فقد حلّت في ألبوم «حيوانات» («Animals») خشونة الغيتار، وأصوات الـ«ديستورشن» العالية، والحناجر المتقرّحة جرّاء الصراخ، ومؤثرات صوتيّة تحاكي عرير الخنزير وعواء الكلب ومأمأة النعجة. ولأن الناظر إلى العالم باعتباره مزرعة لن يكون شاعراً يبحث عن الوصف ويكتفي به بل حكّاء غاضباً ينثر مغتاظاً ما يراه، ويسرد بإسراف الغرابة القابعة أمامه، فستكون جمله طويلة محشوّة بالتفاصيل، مسنونة حادّة تنزّ شتائم، فالدهشة هي علة نصّه الطويل (أغاني الألبوم مدتهم عشر دقائق باستثناء الأغنية الأولى والأغنية الأخيرة) والدهشة تتحكم به، كحكّاء أدرك على مضض أنه ينتمي إلى أدنى مرتبة من طبقة «الكلاب» وهو يدعو لإطلاق العنان وإلى خوض معركة مصيرية مع «الخنازير».
إنه عام 1977 وموجة «بانك روك» في أقصى ذروتها. فرق موسيقية مثل«سيكس بيستول» تروج لمقولة إن الروك على الطراز «القديم»، كالنمط الذي تعزفه فرقة «بينك فلويد»، قد مات. استطاع الـ«بانك» أن يخلق صوتاً أجش، صوتاً غليظاً، خشناً، يطابق مناخات ضواحي المدن، وفضاءات المدن المهمشة، ويكون بالإضافة إلى مواضيعه المسيّسة تمثيلاً حقيقياً للمتمردين، والسُفليين، وأبناء الطبقات العاملة. إذا كان الـ«بانك» ينحو إلى أقاصي التجريد، ويصرّ على نزع التناغم ويغوص في كل ما هو سقيم، وقميء عائداً به إلى السلطات ثم يتقصد مشاكستها تباعاً، فقد جاء ألبوم «حيوانات»، في تلك الحقبة، مرفقاً بصورة غلاف: خنزير يحلّق فوق مداخن معامل الكهرباء، ليقول التالي: «من أفدح من الثاني، من الأكثر فجاجة وفظاظة؟ وإن لم تكتف بالغلاف فانتظر ورود الأغاني ونرى من الأكثر بذاءة».
ولأن المفارقة- كون المعنى حمّال أوجه والفن قائماً أساساً على الالتباس- هي في الأساس أسلوبية تتغنى بها «بينك فلويد» فقد تلازمت مع ألبوم «حيوانات» وحضرت معه. فبينما يرمز الخنزير إلى «العدوّ»، فإن الخنزير الطائر هو رمزٌ للتفاؤل، ذلك أن تحليقه في السماء يعني القضاء على نجاسته الأرضية. وعلى النحو المفارق نفسه، تحضر أغنية «خنازير مجنّحة الجزء الأول» (Pigs on the wing part 1) في البدء، كأغنية رومانسية هادئة موجهة إلى الحبيبة (وهي هكذا في حقيقة الأمر، فالأغنية مستوحاة ومهداة إلى عشيقة روجر واترز، الذي اشتغل الألبوم برمته تقريباً لوحده)، وهي الجزء الأول من الثاني لأغنية تحمل العنوان نفسه مضافة إليه مفردة «المقطع الثاني» وتجيء كآخر أغنية في الألبوم، بيد أن الأغنيتين بهدوئهما وسلاستهما بعيدتان كل البعد عن صخب الألبوم وعنفه، ولولاهما لكان الألبوم مجرد صيحات عالية غاضبة، كما صرّح واترز مرة. لكن كما سيتبيّن لاحقاً، فلولا الأغنيتين وما يرمزان إليه، لكانت المزرعة جحيماً منغلقاً مسدوداً، لا يمكن الفكاك من لزاجة وحله. «إن كنت لا تهتمين بما حدث لي\ وأنا لم أهتم بك\ فسنسير بطريقٍ متعرجة\ عبر الملل والألم\ وفي بعض الأحيان سنلقي نظرة خاطفة على المطر\ متسائلين أياً من التافهين يقع عليه اللوم\ ونراقب الخنازير تحلّق». أمام صورة حزينة تحاكي شعور الوحدة، يغدو الحب، في هذه الأغنية، علاقة قائمة على تشابك أيادي العشاق والتحامها: يد الحبيب على يد المحبوب، فالحب أشبه بخلاص يأتي نتيجة «كفاح» عشيقين لعالم ممل ومؤلم تكتسحه الخنازير، لكن من هي الخنازير ولماذا ترد دوماً؟
العالم مزرعة حيوانات مؤلفة من ثلاثة طبقات، هكذا لقد قسّمت بينك فلويد المجتمع المعاصر. «الخنازير» وهم المتحكمون بكل مفاصل السلطة، نتحدث عن: المديرون التنفيذيون، ملّاك المصانع، أصحاب البنوك، صناع القرار، النخب المحافظة التي تمد السلطة بالخطاب والأخلاق والمعايير. و«الخنازير» تستغل «الكلاب»، أي الطبقة الوسطى التي تتعرض بدورها لابتزاز الخنازير كلما ارتأت التموضع إلى جانب «النعاج» أو الطبقة العاملة الكادحة. «عندما تكون يدك على قلبك\ مع رأسك موضوعاً في أسفل الحصالة* (تكون عادةً على شكل الخنزير*)\ تقول: استمر بالحفر\ وصمة الخنزير على ذقنك السمين\ ماذا تأمل أن تجد في منجم الخنازير* (الحصالة*)؟». منذ اللحظة التي نشأت الفرقة فيها، كانت الـ«بينك فلويد» في بحثٍ حثيث وانشغالٍ محموم ينصب على الفضاء الخارجي، كالمكان والمساحة والحيّز، في حين أن ألبوم «حيوانات» هو توق معاكس لما كانت المجموعة مهجوسة بأسئلته وهمومه، الفضاء في «حيوانات» داخلي، والبحث يجري عن قاع النفس البشرية، وعن العلاقات الممتدة بين أبناء الجنس الواحد. ففي «حيوانات» فضح مكشوف «للخنزرة» المستترة في الجوهر البشري، فالخنزرة بما هي فوق التخمة، تعدّ على الشبع، إذ هي ماهية الخنازير التي تشكل، في علم الاقتصاد، طبقة الواحد في المئة فيما تسيطر على تسع وتسعين في المئة من ثروات الأرض. هكذا تستنفذ الخنازير ما تستنفذه، وتُلطخ ما تلطخه، ولا تترك وراءها سوى فضلات شرهها وبعض آثار العض. وبينما يبدو النهم والنهش، كأهم سمات الخنزرة، للوهلة الأولى، مظاهر مقززة وشرسة، إلا أن النهِم والناهش في النهاية هو «جزمة صلبة\عجلة كبيرة\ هاهاها تمثيلية هزلية أنت». لكن بقدر ما أن الخنزير «جوكر» مضحك بقدر ما هو وغد شرير، وليس هناك من صورةٍ دافئة غير مشاهدة «الخنازير» تطير، ترتحل بعيداً، تضمحل. فذلك المعجب بـ«الإحساس بالحماوة\ المثير الذي يرتدي قبعة بدبوس\ يتسلى بتحسسه المسدس\ أنت مهزلة فعلاً\ لكنك مأساة حقاً» بإمكانه تصفية البشرية إن لم يستطع هضمها بعد التهامه لها. الخنزرة تهدد العالم فإذاً، تبسط سيطرتها على مزرعة الحيوان وتهيمن عليها، ومن ثم تدنو من مرتبتها «الكلاب». سنرى أن من ارتأينا أنه حكاء، وأصغينا على ملحمته الهوميرية المتمثلة في ألبوم «حيوانات»، يتماهى مع تلك المرتبة الوسطى، بل ينتمي إليها، كما يخبرنا في أغنية «خنازير يجنحون القسم الثاني»: «تعلمين أنني أكترث\ بما يحدث لك\ وأعلم أنك تكترثين\ بأمري أيضاً\ لذلك فأنا لا أشعر بالوحدة\ ولا بثقل العالم\ الآن وقد وجدت مكاناً آمناً أدفن فيه عظامي\ وكل مغفل يعلم أن الكلب يحتاج إلى منزل\ إلى ملاذ من الخنازير المجنحة». بيد أن أغنية «كلاب» (Dogs)، وهي الأغنية الثانية في الألبوم، قد سبقَ وتضمنت شطراً أشبه بتصريحٍ، وأقرب ما يكون إلى اعترافٍ حميم مفاده: «أشعر أنني ضائع\ يبدو لي في بعض الأحيان\ أنني مُستغَل». لا قرار مستقلاً عند «الكلاب» ولا صورة مكتملة لهم خارجة عن تمظهرات «الخنازير». فالمنتمي إلى «الكلاب» يجب أن يضرب عندما تحين اللحظة بدون تفكير، لكي يرتقي إلى منزلة «الخنازير»، فمن مترتبات الطبقة الوسطى «العمل على الأسلوب\مثل ارتداء ربطة العنق\ المصافحة الحازمة\ نظرة عين وابتسامة خفيفة\ يجب أن تكون محط ثقة\ للأشخاص التي تكذب عليهم\ حتى عندما يديرون ظهرهم\ تستطيع طعنهم بالخنجر». يبقى أن الحبّ وحده كفيل بشق طريق الخلاص- والحيازة عليها- من وحشية الخنزرة، ذلك أنه من خلال وجود الحب يكون الحكاء (روجر واترز) مطمئناً، يعتريه الشعور بأنه محصن. الصيحات الساخطة في أغنية «الكلاب» (Dogs) فصيحة تلامس بلاغة كلمات الأغنية (أعدّها شخصياً كواحدة من أفضل ما قدمته بينك فلويد على صعيد الأغاني)، وهي إن دلّت على شيء، فعلى رحلة «التطهّر» أي النفي الطبقي الذي يقدم عليها الحكاء\«الكلب» بغية تجرده التامّ من طبقته، وانتزاع نفسه عنها، ليس لأنه وجد الحبّ فحسب بل لأنه انتفض على واقعه الزائف، ولأنه يريد للنعاج الموسومة بصورة ذلك الـ«وديع ومطيع أنت تتبع القائد في أسفل الممرات التي تودي إلى وادي الفولاذ» أن يكون لها ملاذها أيضاً.
لم تكن حرب «بينك فلويد» مع الخنزرة إشهاراً فصيحاً، ولا خطوة استباقية للحقبة التي ستلي صدور الألبوم، عندما طفح العالم بالثمانينات بـ«الخنازير»، وأذعنت «الكلاب» لهيمنة المسيطر، فيما «النعاج» بقت تمأمئ وحيدة حتى مماتها، بل كانت حرباً نظرية أقامتها مع الحضارة «المدنية» وإرثها السياسي السلطوي وسمسارها: توماس هوبز وليفياثان الخاص به. فعندما أقرّ هوبز أن الإنسان شرير بطبعه، ولا يمكن تخيل الحياة بدون حكومة تكبح شرّ المرء وتزيح عنه «حالته الطبيعية»، ارتأت الـ«بينك فلويد» أن وظيفة هذه الحكومة، أولاً وآخراً، تحقيق «حرب الجميع ضد الجميع». ذلك أن «الحالة الطبيعية» عند هوبز تعني: «في هذه الحالة: لا يوجد مكان للصناعة لأن إنتاجها غير مؤكد، وبالتالي لا توجد ثقافة للأرض، ولا ملاحة، ولا استخدام للسلع التي يمكن استيرادها عن طريق البحر، ولا مبنى حضارياً. لا توجد أدوات للتحرك، والإزالة، وأشياء كهذه تتطلب الكثير من القوة، ولا علم لوجه الأرض، ولا يوجد حساب للوقت، ولا فنون، ولا خطابات، ولا مجتمع. الأسوأ من ذلك كله هو الخوف المستمر وخطر الموت العنيف، وحياة الإنسان المنعزلة، والفقيرة، والشريرة، والبهيمية، والقصيرة». على كل حال، فقد ورد كل ما يتضمنه هذا المقطع -وأكثر- بطريقةٍ جمالية أكثر، وفنيّة أكثر، وإنسانية أكثر، في ألبوم «حيوانات» حيث «الخنازير»- الذين يمثلون أرقى نموذج للـ«حالة المدنية»- في «خنزرتهم» على العالم يؤدون مهمة ما أراد توماس هوبز التبرؤ منه.