بات الخطاب الفلسفي المعاصر الذي يأخذ من فلسطين موضوعَه الشاغل مصاباً بنوبة سعال جافّة، يعرفها كل مدخّن شره. لعلّه من الأجدى القول إنّ هذا الانشغال النظري بفلسطين، بما هو انشغال طارئ، ينظر إلى فلسطين على أنها «ثيمة» طارئة، وقد أفرزها الحدث، في حين أنّ فلسطين بوصفها قضيةَ استعمار لم تكن، لا في الحاضر ولا في الماضي القريب، «موضوعاً» شاغلاً لتلك الأوساط المشغولة بها الآن، باستثناء قلّة قليلةٍ، قررت، كما تبيّن، الالتحاق بالقافلة الكبيرة.نقول: إنّ الخطاب الفلسفي المعاصر، المتعلّق بفلسطين، مصابٌ بنوبة سعال جافة يعرفها كل مدخّن شره. والفلاسفة، عموماً، مدخّنون شرهون. يعشقون السيجارة عشقاً خالداً. لا تبحث عن فيلسوف إلّا وتجد له صورةً وهو ممسكٌ بالسيجارة - لإدموند راسل قصة مثيرة عن السيجارة وكيف أنها أنقذت حياته - حتى صار الفيلسوف مدخّناً بالضرورة. هكذا راجت الصورة الكاريكاتورية عنه، فكلّما أراد أحد الاستهزاء به، أو بفكرةٍ ارتأى أنها «فلسفية» الطابع، أشعل سيجارةً وقال: «كل الأجساد ممتدّة». يُقال إنّ الرواقي خريسيبوس مات نتيجة نوبة ضحك هستيرية، أي مات اختناقاً من كثرة الضحك. ولسببٍ ما، على الأرجح لأنّه لم يحصل بعد، لم نقرأ قصة فيلسوف\ة واحد\ة مات\ت اختناقاً جرّاء السعال الناجم عن التدخين. لكن في الآونة الأخيرة، قرأنا مقالات كثيرة، لفلاسفة كثر، بدت نصوصهم ضجيجاً مسعوراً، وكأنها ناجمة عن نوبة سعال حاد، كما لو كانوا يختنقون وهم يكتبون ما كتبوه عن عملية «طوفان الأقصى» لولا أن أسعفتْهم الشهقةُ الأخيرة.
رغم كون النصوص التي نُشرت مؤخراً، والتي جاءت كتعقيب وتنظير وتأويلٍ حول الحرب القائمة، بدءاً من مقالة سلافوي جيجك مروراً بمقالة جوديث بتلر وانتهاءً بمقالة يورغن هابرماس، مكتوبةً من قبل فلاسفة، فإنّ السؤال عن مدى «فلسفيتها» جائزٌ، لأن الإكثار من مفرداتٍ شيّقة وجذابة تقدّم نفسها على أنها هموم أنطولوجية عصرية، كالحداد والإدانة والعنف وإلى آخره، لا يجعل النصَّ فلسفياً. والحاصل أنّ المشترك بين تلك النصوص التي تتفاوت على صعيدَي الأسلوب والمضمون هو حال ذاك الذي يشعل سيجارةً ويكتفي بقوله: «كل الأجساد ممتدّة» ثم يضحك.
إذا امتنعنا عن الابتذال وقفزنا فوق تهمة البروبغندا، سيكون من اللائق اعتبار تلك النصوص بمنزلة كتابِ دليلٍ يحمل توجيهات إرشادية نحو وعي مخاتل يتصوّر أنّ النوم إلى جانب الوحش هو شكل من أشكال اليوتوبيا. كتاب دليل يحوي أجوبةً خالصة وجاهزة عوَضاً عن العثور على أسئلةٍ مرهقة أو دعوة إلى النبش الحثيث في البداهة، كما عوّدتنا الفلسفة. يبقى أنّ تلك النصوص، بغض النظر عن مستوى التقاطع والتلاقي فيما بينها، ليست سواسية، أي إنها لا تندرج، جميعها، في سلّة الهراء. هناك من هزأ بمصطلحاته ونثرها يميناً ويساراً، لأنّ العالم وفقاً لتصوّره أشبه بلعبة كلمات متقاطعة، وأنّ الفلسفة صنو الكولاج: يُمزَّق المصطلح ويُلصق غيره مكانه، أو يبقى دالّه ويحرَّف مدلوله، فتتحول الفلسفة إلى ما يشبه فعل الخيانة أو على الأقل يمارسها خائن. هكذا رمى هابرماس، فجأةً، مقولاته عن «المجال الاجتماعي» أو «الفضاء العام»، وأعلن انتماءه إلى السخام الفظيع، إسرائيل. وهناك من يدين ارتداء المعاطف في جبال القوقاز، مثل جوديث بتلر.
وبين هابرماس، الذي لا يشغلنا في هذا النص، وجوديث بتلر التي نكرّس لها هذا المقال، فروقات طفيفة في منسوب الخزي، وحزنٌ شديد، لا على موت الإنسان بل على موت الفلسفة. إذ إنّ أي قارئ فلسفيّ عندما ينتهي من قراءة نصّ هابرماس المعنوَن بـ«مبادئ التضامن»، ويقارنه بنظريّاته الفرانكفورتية (نسبةً إلى مدرسة فرانكفورت النقدية) الأخرى، سينتبه إلى أن دراسة الأخير، المختص بـ«التواصلية» وبـ«الآخر»، في غاية الأهمية إذا ما أراد تعلم أصول التجارة والترانزيت. أما بتلر، فسنعود إليها لاحقاً.
يبدو أن التفكير في الواقع انطلاقاً منه، أي الواقع بوصفه موضوعاً، منه يكون الانطلاق ومنه تنبثق المسائل وفيه تدشّن الحلول، قد أصبح موضةً قديمةً لا تتوافق مع تريند «فلسفة الأكاديميا»، تلك التي تطرد المحايثة خارج حرمها وتشدّد على الترفّع عن الميدان. هو المنهج الذي يبتعد عن التوغّل في شبكة العلاقات ورصد عناصرها من كثب ملتفتاً، عوضاً عن ذلك، صوب التصوّر الخام: يبدأ من تصوّره العقليّ ثم يرفقه بعملية إسقاط ليجيء السياق مركّباً، يستحيل التفريق فيه بين الهامش والمتن، بغايةٍ تزعم الحؤول إلى خلاصةٍ منطقية ممنهجة ولا تهتم بفحص الحدث والإحاطة به. وفحص الحدث كخطوةٍ سبّاقة على الإحاطة به يعني مساءَلته، والتمعّن فيه، ورصد إرهاصاته ومآلاته. على هذا النحو، ترسم البوصلة سهمها، ومن بعدها يكون الجنوح نحو وجهتها. مع «فلسفة الأكاديميا» - والأكاديميون يحبّون التلصّص لا التوغّل والمشاركة - فإنّ المسار يأتي معكوساً. سيكون الموصوف الملحَق بصفةٍ موسوماً بها مسبقاً، فنحصل مثلاً على «بوصلة الحداد»، كالموقف التي استنتجته، أو اتّخذته، جوديث بتلر في مقالتها الأخيرة عن الحرب في فلسطين.
«بوصلة الحداد... تكتب جوديث بتلر عن العنف وإدانته»، وفقاً لترجمة حسام الموصللي المنشورة على موقع رمان؛ عنوان مقالة جوديث بتلر المنشور في مجلة «لندن بوكس ريفيو» بعد أيامٍ قليلة من مجزرة المعمداني. في المقاطع الأولى من نصّها الطويل، تبدو جوديث بتلر في اشتغالها الكتابيّ وكأنها قررت انتهاج البيكيتيّة (وفقاً لصموئيل بيكيت)، إذ كلّما أسهبت في الكتابة وأسرفت فيها، ظلّ صمتها عمّا يجب قوله بمنزلة قولها الوحيد. رغم هذا، فالمقاطع التي بانت فيها حججها متراصّة، في كتابة ساطعة تطوف على السطح، فقد كانت فيها أقرب إلى الكلام الشفهي منها إلى الكتابة، حيث التداعي البارز يحيل على أنها أمام كاميرا «بيضاء» تحاور إعلامياً سمجاً لا يكفّ عن الدوران حتى يحصل على إدانة لحماس، وقد حصل ذلك، وليس أمام كتابة فلسفية رصينة.
والحداد الذي تدعو إليه بتلر، كما يتّضح، له طابع تجريديّ غامض، كما لو أنه استعارة رمزية مقفلة على ذاتها. سهم «بوصلة الحداد» الخاصّة بها لا يشير إلى مشهدية جنائزية أو ملحمية مكوّنة من فعل وفاعل ومفعول به بل إلى مشهد ضبابي غائم: مناخ تغمره فضاءات الحرب يعاني فيه الجميع من الكرب واليأس والموت على حدّ سواء. فالمراد التعبير عنه هنا أنّ الحداد هو الحداد، مثلما أن الإنسان هو الإنسان. خيطٌ رقيق يفصل بين أن يكون المصطلح هلامياً وبين أن يكون تجريديّاً. بين التنظير وبين النظر. بين التعبير كإفصاح وجداني هائم وبين التوصيف الذي يرمي إلى الدقّة. فالفلسفة ليست فرضاً من فروض الإنشاء، كما أن بوصلة بحثها السعي، ويستحيل أن تكون (البوصلة) محدّدة المسار سلفاً. لكن في وسعنا استشفاف أنّ مسار السهم، سهم بوصلتها، يعمل وفقاً للآتي: حيثما يكون هناك ما يُثير الحداد يشير سهم البوصلة. ستنقاد بتلر، وفقاً للوجهة التي فرضتها بوصلتها عليها، إلى الجلوس مع أيّ متفرّج سلبي يعرف فلسطين من التلفاز، ومسامرته كأنه نديمها. ومثله، جوديث بتلر لا ترى أن ثمة فاجعة مأساوية تحصل في فلسطين، الأمر الذي يستحقّ التوقّف والتفكير في وجهةٍ ستقود، بالضرورة، إلى خلق مقاومة. بل ترى أن فلسطين، بذاتها، مأساة وفاجعة. وهذا مردّه إلى أنها تنطلق من مسلّمة وجود إسرائيل، وبالتالي فالبوصلة هذه فاقدة للمكان، ولجغرافيا الحداد أيضاً. إذاً، لن يكون غريباً على صاحبة البوصلة أن تجد في الإدانة الحادّة «للفعل المقذع»، أي لمن خطّ لنفسه مساراً مقاوماً، ركناً لها.
إذا كان الحداد هو لحظة التصالح مع الذي جرى فقدانه بعد إدراكه والشبع من التأسف عليه، فإن صيرورة الفلسطينيين تثبت رفضهم القاطع تقبّل الفقدان والتعايش معه. في السياق الفلسطيني، وكذلك العربي، الحداد متوافر حدّ التخمة، وما كان الحداد يوماً إلّا شكلاً من أشكال الهزيمة أو مخدراً للتخفيف منه، قبل إعادة إنتاجه من جديد. في استطاعتنا، بمطالعة موجزة، رصد أسمى مظاهره، إذا لم تقنعك أغنية «دا حلمنا» فأدبيات جامعة الأنظمة العربية الغارقة في معجم الإدانة والشجن، والشجب والتنديد (والتآمر)، سخية بذلك.
أمام الانحياز للصاروخ أو الغرق في صميم الوجدان البشري، يختار المنظّر الأخلاقي الخيار الثاني ويراهن على الضمير. وجوديث بتلر، التي تماهي، على الطريقة الكانطية، بين الأخلاق والسياسة، سارت تبعاً للخيار الثاني من دون أن تثير أسئلة على شاكلة: مصلحة من تخدم هذه الأخلاق؟ علامَ تقوم؟ ما نوع الأخلاق التي يجب التحلّي بها أمام شخصية «لا أخلاقية»؟ ريبتها. لكن مجدداً، مثلما أن الحداد هو الحداد والإنسان هو الإنسان، فالضمير هو الضمير، وهو مقرّ الكينونة. لربما غفلت بتلر عن أنّ طبيعة هذا الضمير منسوجة في مقرّ «الحكومات العالمية»، التي تُحدِّد تباعاً «مرتبة» الكينونة. وعلى القاعدة نفسها، فإن العنف عند بتلر هو العنف. لا فرق بين عنف ثوريّ وعنف قهريّ، بين عنف بوصلته التحرّر من الإخضاع الممارَس عليه وبين الإخضاع كعنفٍ ممارس بحق الآخر. كل عنف مستهجنٌ عندها وهو مطرح إدانة.
كأن ذاك الذي نقول عنه أحمق لأنّه نظر إلى الإصبع عندما أشرت له إلى القمر، مثَلٌ ينطبق على بتلر. ولأنّها مفكرة استثنائية في عالم اللغة والرمز والإشارة، هي القائلة «تسمية الشيء امتلاكه»، ستكون حماقتها قاتلة؛ لإشاحتها النظر عن العنف الرمزي الذي يمارسه العالم في منعه، وعقابه و«كنسَلتِه» فلسطين وكل ما يخص فلسطين أولاً، والإدانة الصادرة منها بعد قراءة بانورامية تبسيطية سريعة عن «زمن» حماس دون أي حفر جدّي في «الزمن» الإسرائيلي. إدانة تشبه إلى حدّ ما الأحكام الاعتباطية العسكرية. تكتب بتلر: «ومع ذلك، إذا كان ممنوعاً علينا الإشارة إلى «الاحتلال» (وهذا من ضمن المحظور الفكريِّ المعاصر في ألمانيا)، وإذا لم يكن في مقدورنا حتَّى تنظيم مناقشة بصدد ما إذا كان الحكم العسكريُّ الإسرائيليُّ للمنطقة استعماراً أو نظام فصلٍ عنصريّ، فإنَّه ما من أملٍ في فهم كلٍّ من الماضي والحاضر والمستقبل» (عن العنف وإدانته، جوديث بتلر تكتب عن العنف وإدانته، ترجمة حسام موصللي، موقع رمان). ثمة ما يشبه الإذعان التام خلف هذه الإنشائية الضحلة التي تقرّ، من تلقاء ذاتها، بالعجز وبفقدان القدرة. بدلاً من أن يشير سهم البوصلة إلى التنقيب في ظاهرة الاحتلال، وتصيّد قوى أمر الواقع، وبدلاً من أن تبدأ رحلة الكشف عن السبب وراء حظر التسمية، تأخذ بتلر الطريق السهل، وتنحو صوب إدانة حماس. ولكن أليس تغييب أيّ خطاب هو حضور لخطاب آخر محلّه، وهو ما يستدعي أقصى أنواع الإدانة، وهو بحد ذاته دليل على الجرم وعلى الفاعل؟ وإذا أرادت بتلر، بنفسها، مقاومة الحظر، وعدم انصياعها لطمس المصطلح وتغييب اللغة، هل تكون، هي، مطرح إدانة؟
فيما بعد، ستُعبّئ هذه الفراغات بالهواء، بنبرةٍ لا تثير الحفيظة، ذلك لكي تحافظ على «الموضوعية» ربما أو تفاعلاً مع الفظاعة التي «تشاهدها». تدين جوديث بتلر في مقالتها إسرائيل بنقدٍ خجول متردّد، حيث ما يقال إنه «إدانة» يوازي من حيث المقام مستوى الانتقاد التي توجّهه جريدة «هآرتس» إلى حكومتها. تكتب: «هناك من يستخدمُ تاريخ العنف الإسرائيليِّ في المنطقة كذريعةٍ لتبرئة حماس، لكنَّهم يستخدمون صيغةً فاسدةً من الاستدلال الأخلاقيِّ لتحقيق تلك الغاية. لنكن واضحين، إنَّ العنف الإسرائيليَّ ضدَّ الفلسطينيّين طاغٍ وساحق: قصفٌ بلا هوادة، وقتلٌ للناس من مختلف الأعمار داخل منازلهم وفي الشوارع، وتعذيب في السجون الإسرائيليَّة، وأساليب تجويع مختلفة في غزَّة، وسلبٌ للمنازل. وكلُّ هذا العنف، بأشكاله المختلفة، مُمارسٌ ضدَّ شعبٍ يرزح تحت قوانين الفصل العنصريّ، والحكم الاستعماريّ، وانعدام الجنسيَّة. لكن، عندما تُصدِر لجنة التضامن الفلسطينيّ في جامعة هارفرد بياناً تدَّعي فيه أنَّ «نظام الفصل العنصريّ هو وحده المُلام» عن الهجمات القاتلة التي شنَّتها حماس ضدَّ أهدافٍ إسرائيليَّة، فإنَّها بذلك ترتكبُ خطأً. من الخطأ تقسيم المسؤوليَّة على هذا النحو، وما من شيءٍ في مقدوره إعفاء حماس من مسؤوليَّتها بصدد ما ارتكبته من أعمال قتل بشعة».
وعلى خطى الطفل الذي يسارع في تلاوة الاعتذار عندما يخطئ، تسير بتلر، حيث كلما أتت على توصيفها فظاعةَ إسرائيل بمصطلحاتٍ فجّة، سرعان ما تلجم نفسها وتكبح نبرتَها. هكذا نراها توارب وتضع المسألة في إطارٍ آخر. كأنَّ «الاستدعاء» الذي تكلّم عنه ألتوسير، حين يصرخ شرطي سير في الشارع: «هاي...أنتَ» فتخال أنه يستدعيك؛ استدعاءٌ يشي بسطوة الأيديولوجيا وترسُّخِها في الخيال، يصيب بتلر ويحيط بوعيها. هكذا نرى أنها كلما انتقدت إسرائيل تذكرت «حدود اللغة»، فزادت من منسوب إدانتها، في المقاطع التالية، حماس و«عنفَها».
على أنّ النداء الذي تكلّم عنه ألتوسير لا يفضح المستورَ أثناء كتابة بتلر فقط، إنما كفيل أن يشرح لنا نظرتها إلى الفلسطينيّ الذي لا «فلسطين لديه» بل إطار سياسي - اجتماعي محكومٌ به، وفهم سبب الزيغ التي تعاني منه، أو «الدلتونية»، بما هي عمى الألوان، في السياسة هو: اللامساواة؛ لأنّ التفرقة بين الألوان تعني تمييز واحدٍ على آخر، وفي الخطاب: الغشاوة التي تختبئ الغاية والقصد في طياتها كادّعاء أخلاقٍ كانطية، وفي الفلسفة: السفسطة. إذ إنّ بتلر لا تسمع نداء الفلسطينيين، وإن سمعت شيئاً تخاله طلب النجدة، فالفلسطينيون بالنسبة إليها بلا اسم بل مناسبةٌ «فلسفية» للحداد. غير أن بتلر، في الآن عينه، تسمع نداءً «أخلاقياً» يمنع «العنف»، وتنصاع لنداءٍ آخر يحدّد اللغة، ويعيّن المسموحَ قوله من الممنوع. على أن النداءين نابعان من حنجرةٍ صادحة - لأنها مهيمنة - واحدة. تريد بتلر من وعظتها الطويلة أن تُسمع، وأن يؤخذ طرحها كنداءٍ، إلى ما يشبه مانيفستو لحلّ موضوع «العنف المتجذّر» عند كلا الطرفين. وجوديث بتلر، القريبة من معشر البنيويّين، على دراية بأن البنى تنتج ذوات، ولكنّ الذات التي رفضت الانصياع للمجال الرمزي (الاسم المفروض عليها) واختارت الخيالي تبدو مرفوضة عندها، ما يعني أن «الهوية» إما تكون حصيلة تماهي الإمحاء مع القوى والبنى القائمة، على شاكلة «التذويت» الذي حذّر منه فوكو، وإما تكون مرفوضةً. يبقى أنّ كل طرح أو خيال نحو مستقبلٍ أفضل، مهما سبقته توصيفات، مثل «الفصل العنصري» و«الحكم الاستعماري»... إلخ، لا يقرّ بهويةٍ ارتضت ابتداعَ ذاتها وهويتها، وفقاً لمساراتٍ خاصّةٍ بها، ما هو سوى مسايرة لأمر الواقع، ودعوة إلى عيشٍ لا صوت له بل حسيس.
تحلم جوديث بتلر بعالمٍ يشبه العالم الذي عبّر جون لينون عن توقه الشديد إليه في أغنيته الشهيرة «تخيل». «أريدُ عالماً يعارضُ التطبيع مع الحكم الاستعماريّ، ويدعم حقَّ الفلسطينيِّين في الحرِّيَّة وتقرير المصير؛ أريدُ عالماً تنعتق فيه الرغبات العميقة لكلِّ سكَّان تلك الأراضي بالعيش المشترك في مناخٍ تسوده الحرِّيَّة واللاعنف والمساواة والعدالة. لا شكَّ في أنَّ كثيرين يرون هذه الآمال ساذجة، بل حتَّى مُستحيلة. ومع ذلك، يتعيَّن على البعض منَّا أن يتشبَّث بها بكلِّ ما أوتي من قوَّة، رافضاً تصديق أنَّ البنى السائدة الآن ستظلُّ كذلك للأبد. ولتحقيق هذا نحتاجُ إلى شعرائنا وحالمينا، مجانيننا الجامحين، الذين يعرفون كيفيَّة تنظيم الصفوف». تُذكّرنا خاتمة بتلر بعبارة هيدغر الشهيرة «وحده إله ما زال في إمكانه أن يخلّصنا». وعندما كان هايدغر يندّد بـ«نسيان الوجود»، والانشغال الدؤوب في تحقيق الأصالة، نرى أنّ بعضاً من «مجانيننا الجامحين الذين يعرفون كيفية تنظيم الصفوف» يخوضون تجربة الوجود الأصيل هذه. والحقّ أنهم يكتبون مصيرهم في الميدان، ويحقّقون ما سَبَق أن كتبه شعراؤهم والحالمون؛ وكثيرٌ من الحالمين يحلمون في السجون. لكن جوديث بتلر لا يمكنها أن تراهم، أو أنهم غابوا عن نظرها.