شاء سرب البطّ الذي اعتاد أن يحط يومياً في مسبح طوني سوبرانو أن يقلع عن المجيء ذات يومٍ ويختفي. كان طوني سوبرانو مولعاً بذلك البطّ ومتعلّقاً به بشكلٍ مضطرب، وكأن صلة من القرابة تربطهم ببعضهم ولغة واحدة تجمعهم يتقنونها بطلاقة. عندما لم يأت البط على غير عادةٍ في أحد الصباحات، أصيب الأخير بهزة وجودية؛ ارتبك وتلعثم كمن انعقد لسانه فجأة وخسر النطق القويم. بقي طوني سوبرانو على مدى أيامٍ يخرج إلى باحته الخلفية فور استيقاظه من النوم، ويرمي الكثير من قطع الخبز في المسبح آملاً استدراجها من جديد لكن محاولاته برمتها باءت بالفشل. لم يقف اختفاء البطّ المفاجئ على عتبة الصدمة، بل تعدّاها ليكون بمثابة ضربةٍ قاضية سحقته. ثمة لغة مفقودة لم تعد بالمتناول. لقد آثر فيه هذا الغياب وتلقّاه كابتعاد قسريّ غير مبرر أو رحيل لا وداع فيه. بدا غياب البطّ تهديداً مسّه شخصياً تركه أمام رعبٍ مجهول أفقده عقاله. وقع طوني سوبرانو في خواء مرعب سرعان ما كبر واتسع حتى ابتلعه، عندما تهاوى وسقط أرضاً مغمياً عليه بسبب نوبة هلع أصابته.كان طوني سوبرانو، بطل مسلسل سوبرانوز، زعيم مافيا إيطالية تقطن في أميركا، لديه من السلطة والنفوذ ما يخولانه إدارة نيوجرسي وشؤونها كحاكم ظلّ يعمل في الخفاء. وكان يتماهى مع المكانة التي يتمتع بها كقائد «كبير» لعائلة مافيوزية، فهو رجل ذو هيئة كبيرة، رجل ضخم، غير أن ضخامته تلك لم تكن حصناً واقياً من قلق وجودي عقيم سيودي به بمتاعب شتّى لن تنجيه منها المهدئات ولا جلسات التحليل النفسي المكثفة. ستطول رحلة طوني سوبرانو المترنحة بين عوالم متناقضة، أحدها منغمس في الجريمة وعالم ليلي سفليّ وآخر رقيق وهشّ، دراميّ مثير للبكاء، تتراوح بين مطبخ زوجته وعيادة معالجته النفسية، لكن نقطة الانطلاق تبدأ من تلك المأساة الكامنة في غياب سرب البطّ عن مسبحه، وما نجم عن هذا الغياب من نوبات هلعٍ لا تستكين وقلق جارف كشلال.


غالباً ما تبدأ سيرة الأبطال في الروايات وكذلك في الأفلام والمسلسلات بعد إصابتها بنكسةٍ أو بتحولٍ ما طالها. بشيء أقرب إلى النصيحة من الاختصار، يلخص الناقد الأدبي عبد الفتاح كيليطو البناء السردي في كتابه «الأدب والغرابة» بالآتي: «السرد يبتدئ عادة بوصف سفر أو انصراف أو ذهاب. ما أكثر الروايات والأفلام التي تفتتح بمشهد طائرة تقلع أو سيارة تندفع أو فرس ينطلق أو قطار يستعد لمغادرة المحطة أو طائر يطير أو باخرة تبحر!». يظهر المرعب عند طوني سوبرانو منذ البدء، في الحلقة الأولى من المسلسل، متمظهراً بإحدى المفارقات النادر حصولها: نحن أمام رجلٍ كبير يصاب بانهيار عصبي بسبب غياب كائن ضئيل الحجم كالبطة اعتاد كل يومٍ أن يسبح معها.
يشترط السرد فإذاً وصف تغيرٍ معيّن حصل، إنه بالتالي، يقوم على انتقال بين فسحتين: «من» «إلى» بحركةٍ أقرب ما تكون إلى حركة التاريخ البشري الذي إن أردنا وصفها بمفردة واحدة فستكون الترحال. مغادرة جغرافيا معينة والركون إلى غيرها، مثلما نشأت الحضارة مثلاً، أو كما انبثقت الملاحم حيث دائماً ما كان الذهاب والإياب أو الانتقال من تجربةٍ إلى أخرى ثيمة الملحمة وقوامها. وربما لأن الترحال مضنٍ فالحضارة منذ نشأتها محفوفة بالقلق ومجبولة بطينه. يكاد الأمر يكون جينياً، محمولاً بالذاكرة ومتوارثاً، ذلك أن كل انتقال يجلب معه اهتزازاً، قد يكون رضّة عابرة أو دوخة متكررة أو شعوراً مهيباً بالخواء، إننا في نهاية المطاف نسميه قلقاً. هناك خسارة ناجمة عن النزوح حتى ولو قابلها تعويضٌ في الكثير من الأحيان. يبدأ السرد في لحظة الانصراف، أو التقويض، أو الانعطاف عن مسارٍ كان مرسوماً لسياق محدد استمر لمدة غير قصيرة من الوقت. إنّ التاريخ البشري المدوّن هو شكل من أشكال السرد مهما حاول السارد أن يعود إلى «ما قبل» ويقبض على اللحظة صفر، يبقى أنه لو ما طرأ شيء على تلك السكة لم يكن للسارد، الذي يفضل أن نطلق عليه وصف المؤرخ، أن يكتبه أو أن يفكر بكتابته. ولعلّ هذا هو السبب في أن التاريخ برمته مرعب. في المحصلة، نستنتج أن السرد يحمل رعباً بطبيعته، وهذا كفيل بأن يجعلنا نبتعد عن كتابته. لكن إذا كان السرد يبدأ بوصف تغيرٍ طارئ، أي في تتبع انتقالات الـ«من» «إلى»، وهو ما يوازي حركة التاريخ البشري، ألا يعني أن الرعب كامن في كل خطوة نخطوها؟ من المؤكد أن المشي هو دائماً السير بين حقل ألغام ولا أحد يعلم متى ينفجر اللغم، أو تندلع الحرب، أو ندخل السلم، أو يغيب سرب بطّ اعتاد أن يظهر كل يوم. يبقى علينا التذكر أن الرعب موجود حتى ولو لم نستطع تحديد بؤره؛ بما أننا في حالة من التأرجح والانتقال الدائمان فإن القلق سيلوّح إلينا من بعيد، غير أنّ السرد وحده ما يجعل مواجهة هذا القلق المرعب ممكناً.
عندما غاب سرب البطّ عن طوني سوبرانو، غاب الأخير عن وعيه. تبدأ سردية طوني سوبرانو، أي قصته، من هنا. كان بوسع طوني سوبرانو أن يحطم وجه خصمه إذا أراد، أن يدهسه، أن يهشمه، لكن بطّة اعتاد أن يسبح معها كل يوم رحلت ولم تعد، دفعه غيابها إلى حافة الجنون. ذلك أن سرب البطّ كما سندرك لاحقاً بفضل إفصاحه وبوحه ثم تحليل معالجتِه، شكّل بالنسبة إليه رمزاً دالاً على وحدة العائلة، وعاطفة المقربين، وكان صورة مطمئنة عن حاضر مستقر عصيّ على التفرقة، فيما حفز هذا الغياب رعباً جوّانياً سحيقاً كان مضمراً مخبوءاً ما لبث أن استيقظ إثر هذا الفلول. حمل غياب البطّ صورة عن حقيقة مرعبة أبى وعيه أن يتقبلها. لم يرد طوني سوبرانو الانسلاخ عن محيطه الآمن والانفكاك عن الألفة الذي اعتادها، وما كان أكثر رعباً بالنسبة إليه، هو ما حدث معه: أن يسلخه الوجود عن ملاذه، فالانسلاخ في الحالة هذه، أقسى وأكثر وجلاً لأنه قهريّ، لاإراديّ أي غير قابل للسيطرة واللجم ما يعني استحالة التدخل لمنعه.
تصبو قصة طوني سوبرانو المهتز، الغارق في كوابيسه المرعبة إلى أن تكون قصة جيل بكامله. نتحدث عن جيل التسعينيات الذي ولد في خضم متغيّرات كانت بمثابة انسلاخٍ، لكنه ينعطف عن السرد علماً أن تصوراته عن المُرعب زاخرة تجعل منه سيرة يكتنفها الهلع. على النحو نفسه من قصة طوني سوبرانو، إن نشأة جيل التسعينيات، وخصوصاً في لبنان، تبدأ مع تغيرٍ ما قد طرأ. يبلغ السرد في هذه الحالة قمة الانسيابية. فالسارد ليس بحاجة إلى التفتيش عن حبكة ولا النبش في مناجم الماضي بحثاً عن تغير حصل ليتتبعه ويصفه بل إنّ الجوهرة ماثلة أمامه: هناك انسلاخ من مرحلةٍ عدمية دامت طويلاً إلى مرحلةٍ أخرى مفرطة بالتفاؤل. وبما أن هذا الانتقال بين المرحلتين، وهو انسلاخٌ بالضرورة لأنه عوضاً عن كتابة مرحلة فقد استعملت الممحاة، يتجاوز وعي هذا الجيل، ما يعني عجزه التّام عن معرفة ما كانت الأمور عليه، فقد جاء هذا الانسلاخ بالنسخة المماثلة التي حلّت على طوني سوبرانو حين شاء البط أن يغيب عنه؛ حدثَ بشكلٍ جبريّ بعيد تمام البعد عن الإقرار الإراديّ. الولادتان مقرونتان بانسلاخٍ، الفارق بينهما يكمن في أن طوني سوبرانو، الرجل الضخم كان هشاً أمام كائنٍ ضئيل، فيما جيل التسعينيات يرتعب من «الضخامة» بل ثبت أنها كابوسه المرعب. وما دامت هذه الضخامة المرعبة تقطن خارجاً، ولأن علاقة بين المُرعب والمرعوب قائمة على تأثر وتأثير بأسلوب يماثل الانتقال وفق مسار «من» «إلى»، فسنتنقل هذه الضخامة المرعبة، إلى داخل هذا الجيل وتتركه ظلها، وهذا الانعكاس هو ما سيكون لاحقاً الرعب بعينه.
يبدأ السرد، كما قلنا، في لحظة الرحيل، أو الانصراف أو حتى الحضور. ستكون ولادة السرد متزامنة مع عملية ولادة جيل التسعينيات، هكذا ستبدأ قصة مرعبة لكنها غير ناجزة ولم تًسرد بعد. كان وقع المدافع لا يزال مدّوياً حين شاء رجل أعمال «كبير» اسمه رفيق الحريري أن يحضر. حضر الأخير وغابت مرحلة بقدر ما كانت متخمة بالرصاص بقدر ما كانت خاوية. وقد كانت هيئة رفيق الحريري تشبه المكانة التي تمتع بها، فهو رجل ذو هيئةٍ كبيرة، رجل ضخم، وتلك الضخامة التي كان يحظى بها على صعيد المكانة التي شغلها ترجمت نفسها بسلاسةٍ وبسهولة، وقد فرز عنها وعود «كبيرة»، وشعارات «كبيرة»، ومدينة «كبيرة»، ورأس مال «كبير».
نحن مرة جديدة أمام تلاقٍ آخر يجمع بين جيل التسعينيات وبين طوني سوبرانو. إذا كان طوني سوبرانو يتنقل بين عالمين متناقضين، عالم الجريمة وعالم المنزل متصارعاً مع الحيرة، فإن جيل التسعينيات كان يترنح في هاتين الفسحتين كذلك، عالم الحرب وعالم السلم، وفي هذين العالمين «الكبيرين»، كان الرعب بادياً. لقي الانتقال المستجدّ من الحطام إلى «الكبير» بادئ ذي بدء دهشة عارمة، غير أنّ الدهشة بذاتها لهي صدمة خاطفة جرّاء المرعب، وسيرة المصدوم تؤكد أنه حين يستفيق من صدمته يكون مزاجه هابطاً.
عندما استوت تلك «الضخامة» وفقدت بريقها تحوّلت بتمظهراتها إلى ما يشبه عناصر خارجة للتوّ من سينما جمهورية فايمر. كانت التعبيرية الألمانية التي نشأت في أوائل القرن العشرين تعبّر بشكلٍ جلّي عن الخوف والرعب والخواء الذي أصاب الألمان بعد الحرب العالمية الأولى عندما أصيبوا بهزائم وأحاطتهم الكوارث. اعتمدت تلك السينما إظهار الأشكال الكبيرة، وتبيين العناصر غير المتناسقة في ديكورات فظّة وحادة مثلت المدينة والشارع، كما لعبت على الإنارة والضوء والظل تماماً كحال بيروت الغارقة بالظلمة. حين انطفأ بريق تلك المشاريع «الكبيرة» الضخمة اتضح سريعاً أنها كانت مغروسة بالرعب، وأن تاريخاً دموياً زعموا أنه انتهى عاد ليظهر من جديد. على أنّ كل تلك المزاعم ليست في الحقيقة سوى جوهر ذلك المحو المؤسس للانسلاخ. تغدو هذه المزاعم فاتورة بات جيل التسعينيات يدفع ثمنها مضاعفاً لما يسمى بورشة إعادة الإعمار. سنجد أنّ العمارة البيروتية المعاصرة التي تزامنت مع ولادة جيل التسعينيات وكانت من ضمن البرامج «الكبيرة» الضخمة، وأخذت زوراً تسمية ما بعد الحداثة، صارت أشبه بعمارة الباروك الزائفة. حارات برجوازية تمتد من وسط المدينة إلى أقصى حدود البحر تزدحم فيها بنايات عملاقة متراصة ومتجاورة أرادت في البداية أن تبدو معقدة ومتقنة، غير أنها صارت أشبه بأنصاب عبثية، أو أعمدة باردة تكيّفت مع سذاجتها، تحث من يخاف العلو على النفور منها أو مجرد النظر إليها. بنايات كبيرة تخجل أن تعرّف عن نفسها بناطحات سحابٍ، بعضها مزخرف وبعضها الآخر مقوّس منحنٍ، فيما أخرى شامخة لا تهتز، كلها عموماً تمثيلات متنوعة عن وجوه متجهمة تنذر بغدٍ معطل. ثمة شعور طافح بالخلاء والهجران يزيدان من هيبة «الباروكية البيروتية» حيث معظم تلك المباني باتت فارغة وخالية من قاطنيها، وكأن الحياة طردت من نوافذها الكبيرة أو أنّ العيش فيها أو بالقرب منها غير مأهولٍ.
غير أنّ الرعب من «الضخامة» أو الكبر، هو نفسه الرعب من غياب البطّة عند سوبرانو، سينسحب رمزياً إلى مجالاتٍ شتّى، وهو ما يشكّل شبحاً مرعباً لا يكف عن مطاردة جيل التسعينيات. فالرعب من «الضخامة» ليس محصوراً في الماديّ الملموس كمبنى أو حارة سكنية، أو بلاطة وجدت في البحر من نفس نوعية البلاط الذي استعمله رجل أعمال «كبير» من بلادي عندما بلّط البحر، بل يطاول التجريديّ والرمزي، بشيء يماثل صورة البطة التي هلع طوني سوبرانو إزاء غيابها. فـ«الكبير» المُرعب قد يكون مثلاً وعدٌ من تلك الوعود «الكبيرة»، مثل انتهاء الحرب ثم الاصطدام بالحقيقة المعاكسة لها، ما ينتج من هذا تنافراً معرفياً؛ احتدام الذات وانقلابها على حالها بسبب صعوبة التصديق والتأقلم مع واقع مفرط بانزياحه في أنه على عكس ما يقال عنه. لم يكن هناك ملامح محددة أو واحدة، ولم يكن من داعٍ لرسم ملامحه في الخيال، فالسمَع كان سبّاقاً على النظر، وهذا أمر مألوف ويصادق عليه جيل التسعينيات الذين يعرفون تمام المعرفة ما الذي تعنيه عبارة الجدران تسمع أو أنّ للجدران آذاناً. جيلٌ سمع بشخص «كبير» قبل أنّ يترعرع على فكرة المسؤول «الكبير»، والمنصب «الكبير»، والضابط «الكبير»، من دون أن ننسى بالطبع الأخ الكبير، وبالتالي فقد تلقفوا قواعد الكبائر والصغائر، وتحديداً في الشأن السياسيّ منذ ما يقال عنه إنشائياً «نعومة أظفارهم». فإذا كان العلم والتعلم مرتبطين دوماً برعب الأساتذة والمدرسة، فجيل التسعينيات العربي تعلم عن الرعب والمرعب خارج أسوار المدرسة كما في داخلها.
كان الخروج من هذا الجحيم المرعب يتطلب من جملة ما يطلبه، تحصيلاً علمياً كبيراً، يكفل حال صاحبه ويضمن له استقراره. شهدت فترة التسعينيات وعوداً عالمية كبرى ترافقت مع نشأة سريعة للنيو-ليبرالية وأخلاقها البروتيستانتية التي بشرت بالعمل الدؤوب وإمكانية الحصول على ثروة ومراكمتها بحال نال المرء وظيفة «كبيرة». سيشرح ألان دو بوتون هذه المسألة جملةً وتفصيلاً في كتابه «قلق السعي إلى المكانة». ولّدت وصية الأهل في تحفيز أبنائهم على الترقي للوصول إلى المركز «الكبير» عبئاً على الابن، حتى شعر الأخير أنّ عجزه عن الصعود شبراً للقبض على «الكبير» المبتغى، بشعور الهزالة والضآلةٍ لا يستحق أن ينتهي مصيره عندهما، أو أن يشعر بهما ولا أن يتكبد عناءهما. يذكرنا هذا الإخفاق، أو هذا الشعور بالتعثر وعدم إنجاز المطلوب باعتباره ما ينبغي أن يكون، بحال معظم من ولد في التسعينيات ومن رافق هذا الجيل، وخطابهم السياسي المذعن أو الرضوخ لاستحالة فعل أي تأثير، ثقافيّ كان أم غيره، بحجة أن حيتان «كبيرة» تدير العالم وتدبر شؤونه، في وقت أننا لسنا سوى عناصر صغيرة يتم التلاعب بها حسب أهواء «الكبار» الذين يكتبون لنا مصائرنا وطرق عيشنا. وكأن الوجود أشبه بماريونات، إذ تحرّك تلك «الحيتان الكبيرة» الخيوط وما نحن سوى الدمى.
يغدو العيش المرهون لكل هذا الخوف، المنطوي على هذا القدر من القلق مرعباً، وطريقاً وعرة يصير المشي فيها في غاية الصعوبة بل مستحيلاً. لقد تحول القلق عند طوني سوبرانو إلى أصفادٍ كبّلته حتى شلّت حركته. عندما اهتزّ طوني سوبرانو وجودياً وارتبك وتلعثم أي عندما فقد لغته ولم يعد قادراً على العيش التجأ إلى التحليل النفسي ووصفت له المهدئات. لربما كانت القروض المصرفية، أو جرعة بسيطة من الحرية، أو خطوة إصلاحية من هنا وإنماء هزيل من هناك، وصناديق صغيرة تسمى إعاشة، بمثابة مهدئات تكبح جنوح قلق هذا الجيل وتخفف من روع هذا المرعب. اختار جيل التسعينيات أن ينعطف عن حكي ما يجب أن يُحكى، وعن سرد ما يجب أن يُسرد وبدلاً من هذا تبنى سردياتٍ أسهمت في تضخيم رعبه أي تكبيره، يبقى أنّ هذا السرد المؤجل ما هو إلا عيشٌ مؤجل وسط حاضرٍ معلّق لجمته المخاوف، وأوقعته تصوراته المرعبة في خواء كبير لا يبدو الخروج منه أمراً يسيراً.
ما يزال مصير طوني سوبرانو ملتبساً. بدأت قصته مع الهلع وانتهت بشاشةٍ سوداء ظهرت فجأةً. مهما كثر التأويل حول دلالتها تبقى أن الصورة السوداء تلك تتماهى حد الامّحاء مع الإغماء والغيبوبة. هذا السواد نفسه سنجده كلما قررنا اقتفاء أثر جيل التسعينيات ومتى التفتنا لننظر عن مكانه اليوم.
يدفعنا الرعب من رمز «الكبير» إلى الهاوية. يتركنا أمام هلعٍ أبكم لا يصدر عنه سوى أنين في السرّ وتذمر وثرثرة في العلن. والحال، لا نزال نتجول بين تلك الأبنية «الكبيرة»، ونصغي إلى عجز الصاغر «للكبير»، ونبحث عن منقذٍ «كبير»، كما لو أن الانتقال جائز فقط للخارجي عنا، فنكون دوماً عرضة للانسلاخ الجبريّ، معتكفين عن المراهنة بمصيرنا:، في حالة تحفظ عن سرد ما يجب عيشه وسط حاضرٍ معلّق لجمته المخاوف من ذلك المرعب. لكن أليس هذا الجمود شاشة سوداء (كبيرة حقاً) وهي حالة الإغماء الطويلة؟