رام الله ــ يوسف الشايبلا يكاد يرن هاتف عبد الرحمن أبو شمالة، الصحافي الذي تربى في أزقة مخيم جباليا للاجئين في غزة، ويعيش حالياً في رام الله، حتى يتملكه الخوف من خبر مفجع عن إصابة شقيق، أو قصف منزل العائلة، أو ما هو أشد.
منذ بدء العدوان على القطاع، وجرس الهاتف يرعب أبو شمالة، وخصوصاً أنه لم يرَ عائلته منذ عشرة أعوام. توفي والداه، ولم يتمكن من زيارة القطاع لوداعهما، والمشاركة في دفنهما. هكذا أرادت سلطات الاحتلال. أكثر من خمسين شخصاً من أقربائه، الذين تعرفوا إلى الحياة من دونه، تجمعوا في منزل واحد وسط مخيم جباليا.
أبو شمالة، الذي أكد أنه يشعر بالعجز كغيره، يتمنى أن يكون بين أشقائه وأقاربه هذه الأيام، مع أنهم «يحمدون الله أنه بعيد عن شبح القصف ورائحة الموت اليومي» في جباليا، وباقي مناطق القطاع. يقول: «العجز يتعمق يوماً بعد يوم. أنا متعب للغاية وعاجز عن ممارسة حياتي بصورتها الطبيعية. ولا أدري ماذا أفعل لأخفف عنهم هذا المصاب».
ويضيف أبو شمالة أنهم «يعيشون حالة من التقشف «نص بطن، ونص حرام، ونص شربة مي. باتت حياتهم مرهونة بالساعات التي لا يغيب فيها التيار الكهربائي عن المنطقة، وغالباً ما يضطرون إلى إعداد الخبز بعد منتصف الليل». ويؤكد أن «المشكلة ليست مادية بالأساس، ولو كانت كذلك لأرسلت لهم كل ما أملك».
في رام اللّه وغالبية مناطق الضفة الغربية، يعيش الآلاف من الفلسطينيين ذوي الأصول الغزية، إضافة إلى اللاجئين الذين لا يزال أكثر من نصفهم في مخيمات القطاع.
ولا تختلف حالة وفاء عبد الرحمن، مديرة مؤسسة فلسطينيات في رام الله، عن أبو شمالة. هي دائمة القلق على أشقائها وأبنائهم المقيمين في مدينة غزة ودير البلح. وتقول: «منذ بداية العدوان على غزة، ونحن نجلس أمام شاشات التلفزيون، نتلقف بقلق الأخبار العاجلة، ونتابعها بنهم لمعرفة المكان الذي تعرض للقصف، والضحايا وأسمائهم».
وتشير عبد الرحمن إلى أن رد الفعل الأولي إزاء ما يحدث كان الحزن الشديد للغاية، «لكنني تجاوزت مرحلة الحزن، وبتّ غاضبة من الجميع وعلى الجميع».
وتروي عبد الرحمن بعضاً من حكايتها، وهي الغزية السجينة في مدينة رام اللّه منذ عام 2001. تضحك من نفسها كل عام، تماماً كباقي البشر في هذه البلاد اليتيمة. تمني نفسها بعام أفضل، وبباقات الورد والهدايا. تتذكر قائلة: «في عام 2002، خرجت وأختي وبعض الأصدقاء إلى دوار المنارة، حملنا شموعنا وأضأناها لكل من مضى، ومن سيمضي بعد حين! أما اليوم، فقد بدا مخالفاً للأمس. في اليوم الأول للعدوان، خرجت للشارع مع من خرج في اليوم الأول والثاني و... في اليوم العاشر، قررت عدم الخروج».
تعترف عبد الرحمن، «نعم انهزمت في غفلة مني، انهزمت بالتدريج. روحي الضفيّة المتعالية كما جبال الضفة لم تنتبه إلى أن الإسرائيلي المحتل قد نجح في تدمير صخوري الجبلية. نجح في جعلي أعتاد القبول بالواقع والتعايش مع فُتات. القبول بسجن رام الله قد حطم تلك الروح التي لا تقبل أن تنحني لأحد. هزم الاحتلال الإسرائيلي نصفي الضفي».
كأن شيئاً في داخلها رفض السكوت. بدت كمن يحاول بالكلام، تضميد جروحها ودماء أهلها في القطاع، وربما مواساة نفسها. تتابع: «انهزم قلبي الغزي، انتبه منذ وقت إلى أن الاحتلال مرة أخرى يستنزفه، يجفف ماءه. تجمدت بعد محاولاتي الفاشلة خلال ثلاثة أعوام، لإخراج والديّ المسنين للعلاج، لم أنتبه كثيراً إلى أنني كنت أفقد جزءاً من كبريائي وطاقتي ببطء شديد».
وقبل أن تعود إلى عالمها الحزين، تقول عبد الرحمن: «أشعر بالهرم الشديد. السجناء لا كاميرات تصورهم كي يبصقوا في وجهها. السجناء لا يفاوضون ولا يقاومون. فقط يصمدون!».