المواقف الصادرة، حتى الآن، عن مسؤولين في إدارة جو بايدن حيال عدد من الملفات الخارجية المهمّة، تُظهر غلبة منطق الاستمرارية على منطق القطيعة مع السياسات التي اتّبعها دونالد ترامب. سيسارع الكثيرون إلى التأكيد أن الولايات المتحدة، كقوة عظمى، أشبه ما تكون بالسفينة الكبرى. وهي، بحكم حجم مصالحها و»التزاماتها» على النطاق الدولي، لا تستطيع الشروع في استدارات سريعة، بل في تغيير تدريجي لوجهتها. ويخلصون إلى أن من المبكر جدّاً إدراك الأجندة «الفعلية» لإدارة بايدن استناداً إلى هذه التصريحات. ويضيف البعض، كالباحث ستيفين مايلز على موقع «فوكس»، أن «جو بايدن لم يَعِد أبداً بأن يكون ثورياً وأن يسعى لتغيير جذري. لذلك، فإن ما رأيناه الى الآن على مستوى اختيار الأشخاص، والسياسات التي يطرحها، لا ينبغي أن يكون مفاجئاً. وإذا ما أخذنا في الاعتبار مدى تصدّع سياستنا الخارجية، فإن المرحلة الانتقالية ستكون أطول بكثير مما يريده التقدّميون». قد تتضمّن هذه الآراء قدراً من الصحة، لكن حدّة النقد الذي وَجّهه بايدن وفريقه لسياسة ترامب الخارجية وتداعياتها «الكارثية» بالنسبة إلى الولايات المتحدة ومصالحها، رفع سقف التوقّعات بأن تُباشِر الإدارة الجديدة الإعلان عن سياسة خارجية تخالِف بوضوح سابقتها. وما غذّى تلك الآمال هو هوية المعنيّين بهذه السياسة، وخلفيّاتهم الفكرية المتمايزة، إلى حدّ التناقض في بعض الأحيان، عن الاقتناعات الأيديولوجية والعقائدية التي حملها أقطاب إدارة ترامب. لكن التقييم السلبي الصارم للحصيلة الإجمالية لسياسة ترامب الخارجية، بما فيها تلك الخاصة بمنطقتنا، من قِبَل أعضاء فريق بايدن، وتمايز خلفيّاتهم، لم ينعكسا في التصريحات الصادرة عنهم في الأيام الأخيرة، بل اتّضح أن هناك عزماً على البناء على ما حَقّقته الإدارة السابقة. تَجلّى هذا العزم في مداخلة أنتوني بلينكن أمام الكونغرس في جلسة المصادقة على تعيينه وزيراً للخارجية، عندما حرص على إظهار تشدّد كبير ضدّ الصين وروسيا، وعلى تذكير المشرّعين باعترافه والإدارة بالقدس المحتلة عاصمة للكيان الصهيوني، والتوضيح أن العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران ستستغرق الكثير من الوقت. وحذت أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية، في الجلسة المخصّصة للمصادقة على تعيينها، حذوَه عندما قالت، بالنسبة للعودة إلى الاتفاق، إن الادارة، باعتقادها، «بصراحة، على مسافة بعيدة عن ذلك».
غير أن المعطيات المتقدّمة التي تكشف، في ما يتعلّق بمنطقتنا، استمرارية الانحياز الأميركي الكامل وغير المشروط لإسرائيل، لا تُلغي مؤشرات أخرى عن احتمال تغيير في مقاربة واشنطن لملفّات كالحرب على اليمن والعلاقات «الخاصة» مع السعودية، وإمكانية تعامل أكثر «مرونة» مع طهران. بين هذه المؤشرات، يأتي تعيين أشخاص كجايك سوليفان رئيساً لمجلس الأمن القومي، وجو فاينر نائباً له، وبريت ماك غورك مسؤولاً للشرق الأوسط في المجلس، والمعلومات المُسرّبة عن احتمال اختيار روبرت مالي مبعوثاً رئاسياً خاصاً لإيران، وما أثارته من اعتراض محموم من قِبَل أوساط صهيونية متطرّفة وجماعات ضغط مرتبطة بدول خليجية أو بالمعارضتين الإيرانية والسورية. ونظراً إلى مركزية الدور الذي يضطلع به مجلس الأمن القومي في عملية صناعة القرار الخاص بالسياسة الخارجية، نتيجة لتفاعله اليومي مع رئيس البلاد، والذي تَضخّم كثيراً في العقود الماضية إلى درجة أنه بات يفوق في الكثير من الأحيان ذلك الذي تقوم به وزارة الخارجية، فإن الالتفات إلى خلفيّات القادمين الجدد إلى هذا المجلس واقتناعاتهم قد يساعد في إدراك وجهة التعديلات الممكنة التي قد تطرأ على السياسة الخارجية، تجاه الشرق الأوسط تحديداً، وربّما مداها. هؤلاء بين أكثر أعضاء فريق بايدن إلماماً بقضايا المنطقة، وهناك قدر من الانسجام في تصوّراتهم حول كيفية التوصّل إلى حدّ من تخفيض التوتر في الإقليم يناسب المصالح الأميركية، وجدول أعمال الإدارة الذي يقتضي تأمين الشروط الملائمة للتفرّغ للمواجهة الرئيسة مع الصين وروسيا. وتشير معلومات واردة من واشنطن إلى أن العمل المشترك بينهم أيّام إدارة أوباما على ملفّات المنطقة، والصلات القوية التي تجمعهم، قد تكون بين العوامل المساعدة على تسهيل مهمّاتهم الشاقة، والتي ستلاقي ضغوطاً لا يستهان بها من قِبَل لوبيات وكتل وازنة في الولايات المتحدة.