لندن | تبدو عودة لولا دا سيلفا إلى رئاسة البرازيل، شبه محسومة، وفق ما تبيّنه استطلاعات الرأي، التي تُظهر، في المقابل، تأخُّر منافِسه، الرئيس الحالي جايير بولسُنارو، بـ20 نقطة مئوية. لكنّ انبعاث الزعيم «العمّالي» الذي يمثّل آخر أملٍ لغالبية البرازيليين المتعبين من عبث اليمين المتطرّف، لن يكون بالسلاسة المأمولة، وسط استعداد الرئيس الحالي لرفض أيّ نتيجةٍ لا تأتي في مصلحته - حاله في ذلك حالَ حليفه دونالد ترامب -، ما قد يعني إثارة القلاقل في أكبر اقتصادات أميركا الجنوبية والعالم، واضطرابات أهليّة عادةً ما تكتسي طابع العنف الدموي. مع هذا، لا تبدو الولايات المتحدة في وارد الدخول في مغامرات لا طائل منها في هذا التوقيت الحسّاس الذي تفضّل التركيز فيه على المواجهة المستعرة مع روسيا


يشير أحدث استطلاع لنوايا الناخبين في البرازيل، نُشر يوم الإثنين الماضي، إلى أن الرئيس السابق (لدورتَين)، لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، مرشّح ائتلاف «أمل البرازيل» الذي يقوده «حزب العمّال» (يسار الوسط)، قد عزّز حظوظه للفوز بمنصب الرئاسة في الانتخابات التي تجري يوم غدٍ الأحد، وسط ترجيح حسْمه النتيجة من الجولة الأولى، وذلك بعدما تَجاوَز حجم تأييده عتبة الـ50%، متفوّقاً على مجموع المرشّحين الآخرين، بمَن فيهم الرئيس الحالي، زعيم «الحزب الليبرالي» (أقصى اليمين) جايير بولسُنارو، الذي بالكاد تجاوز حجم ناخبيه حاجز الـ30%. ولا يمتلك باقي المرشّحين - بمَن فيهم مرشّحة «الحزب الشيوعي»، صوفيا مانزانو - أيّ فرص واقعيّة في هذا السباق. وستُجرى غداً، بالتزامن، الانتخابات الرئاسية وانتخابات الكونغرس الاتحادي (البرلمان)، فيما سيختار البرازيليون، أيضاً، حكّام الولايات ومجالسها، في اقتراع سيشارك فيه أكثر من 156 مليون ناخب، فيما تفرض الدولة غرامات على مَن يمتنعون عن التصويت. وفي حال لم تُحسم نتيجة الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، سيُدعى الناخبون إلى جولة الإعادة في 30 تشرين الأوّل، للاختيار بين المرشَّحَين اللذَين يحصلان على أعلى نسبة أصوات في الجولة الأولى.
لكنّ وضوح المؤشرات تجاه فوز دا سيلفا قد لا يعني بالضرورة انتقالاً سلساً للسلطة: من أقصى اليمين إلى يسار الوسط، إذ لا يُظهِر بولسنارو (انتُخب في عام 2018) أيّ استعداد لقبول الخسارة بهدوء، وفق ما يجلّيه سيل التصريحات التي يطلقها منذ بعض الوقت. ويشكّك الرئيس الحالي في قدرة نظام التصويت البرازيلي على منْع التزوير، حتى إنه نُقل عنه قوله، على هامش مشاركته في تشييع جنازة الملكة إليزابيث الثانية في لندن، إنه يتوقّع فوزاً حاسماً من الجولة الأولى، وبالتالي فإن أيّ نتيجة مخالفة لتوقّعاته ستُعدّ «دليلاً» على حدوث تدخُّلات لمصلحة الزعيم «العمّالي». ويخشى كثيرون من أن تصريحات بولسنارو قد تعكس سَعْيَه إلى إثارة اضطرابات في الجمهورية التي بدأت لتوّها بالتعافي من تداعيات الأزمة الصحية. ويلقي معظم البرازيليين باللّوم على سوء إدارة حكومة اليمين لوباء «كورونا» الذي أُصيب به أكثر من 21 مليوناً، وخسر ما لا يقلّ عن 800 ألف شخص حياتهم، وسط اتهامات بتوظيف الفيروس في حرب إبادة ضدّ الأقليّات المهمّشة، مثل سكان القارة الأصليين والبرازيليين من أصول أفريقيّة والفقراء.

ستخفّف حكومة يقودها «العمّال» من إجراءات تقليص موازنات التعليم والرعاية الصحية والتقديمات الاجتماعية


وتحوز البرازيل (200 مليون نسمة) أهميّة استراتيجيّة كبرى بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي لطالما تعاملت مع دول أميركا اللاتينية بوصفها مساحة نفوذ مغلقة لها، وهي على الأغلب لا ترغب في حدوث قلاقل في أكبر اقتصادات أميركا الجنوبية، وثامن أكبر اقتصاد على مستوى العالم، بينما تحاول واشنطن رصّ الصفوف في مواجهة موسكو. وقد أصدر ممثلون عن وزارتَي الخارجية والدفاع الأميركيتَين بيانات للتعبير عن ثقتهم في النظام الانتخابي البرازيلي، ودعوا إلى تجنّب المغامرات. ومن هنا، يَستبعد الخبراء حدوث انقلاب عسكري إذا فاز الزعيم «العمّالي»، على رغم انتشار الشائعات حول تحرّك محتمل. وفي الواقع، لا يتمتّع بولسنارو بتأثير حاسم على الجيش، وإن كان على علاقة وثيقة بالشرطة العسكرية، وهي قوّة مدجّجة بالسلاح، ومؤلّفة من حوالى نصف مليون جندي قَيْد الاستدعاء لأغراض عمليّات حفظ النظام وتتبّع حكّام الولايات.
ولعلّ أسوأ السيناريوات هي أن يُقدِم أنصار بولسنارو على إثارة اضطرابات مدنيّة، وسط امتناع الشرطة العسكرية عن التدخّل، أو تذرّع الرئيس بالفوضى العامة للحصول على سلطات طوارئ إضافية، ما من شأنه تأجيل تنصيب لولا، وتالياً دفْع البلاد إلى حافّة المجهول. وليست مبالغة حقيقة أن الحكومة الحالية سهّلت بشكل غير مسبوق عمليّة حصول المدنيين على السلاح، حتى إن عدد قطع السلاح الفردي المرخّصة في أيدي المواطنين أصبح أكبر من تلك التي بحوزة الشرطة. ويتمتّع بولسنارو بتأييد النُّخب البرجوازيّة الثرية والفئات اليمينية المحافِظة، والأصوليين المسيحيين، وهو عمل بشكل ممنهج، خلال سنوات حكمه، على تطعيم المراكز الحسّاسة في الدولة والإدارات العامة بأنصاره، كما يُعرف عنه علاقاته الوثيقة بالرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. في المقابل، فإن كثيرين يراهنون على سياسة واشنطن المستجدّة بالتسامح مع مبدأ وصول قادة (معتدلين) من منسوبي يسار الوسط إلى السلطة في دول أميركا اللاتينيّة، بعدما فشلت الأنظمة اليمينية بشكل فادح في إدارة بلادها، وراكمت لدى مواطنيها غضباً عريضاً قد يكون نواة لثورات حمراء معادية للولايات المتحدة. ويرأس المكسيك وكولومبيا وتشيلي، وهي دول مركزيّة للسياسة الأميركية في تلك المنطقة من العالم، قادة محسوبون على يسار الوسط انتُخبوا ديموقراطيّاً، وليس هنالك ما يمنع من أن يلتحق دا سيلفا بهم.   
وكان دا سيلفا، الزعيم اليساري المخضرم، قد أنهى، في عام 2010، ولايته الثانية كأكثر الرؤساء شعبيّة في تاريخ البرازيل، لكنّه أدين لاحقاً بتهم تتعلّق بالفساد وتلقّي الرشى، وحُكم عليه بالسجن 12 عاماً قضّى منها 580 يوماً محبوساً. ومع أن إدانته ألغيت في وقت لاحق لنقص الأدلّة وفضْح التلاعب القضائي في قضيّته، إلّا أن سمعته تضرّرت. مع هذا، فهو يمثّل، الآن، الأمل الأخير لغالبية البرازيليين الراغبين في التخلُّص من تطرّف نظام بولسنارو وسياسات حكومته المجحفة بحقّ الفئات الأقلّ حظّاً، ولتحقيق ولو مستوى الحدّ الأدنى من العدالة الاجتماعية. ويقود دا سيلفا، في هذه الانتخابات، تحالفاً من عشرة أحزاب، أكبرها على الإطلاق «حزب العمّال». 
لكن بعيداً من التناقض الإيديولوجي النظريّ الصريح بين المرشحَين الرئيسَين في الانتخابات الرئاسية، فإن الأمور على الأرض ربّما تكون أقلّ وضوحاً. ويشبه النظام السياسي البرازيلي نظيره الإيطالي إلى حدٍّ كبير، خصوصاً لناحية وجود شبكات فساد خفيّة عابرة للأحزاب والتيارات تخترق جميع أوجه الحياة السياسية والاقتصادية. ولا شكّ في أن حكومة يقودها «حزب العمّال» ستخفّف من غلواء ما اتّخذته حكومة بولسنارو من إجراءات لتقليص موازنات التعليم والرعاية الصحية والتقديمات الاجتماعية، وقد توفّر حماية أفضل لأراضي السكان الأصليين من تغوّل مصالح التّعدين والخشب، وتمنح حقوقاً أوسع للمثليين والعابرين جنسياً ومَن في حكمهم، لكنّها لن تجرؤ على إطلاق إصلاحات بنيويّة ذات صفة اشتراكية صريحة، أو أن تعادي سياسات الولايات المتحدة بشكل مباشر.