لندن | التقت رئيسة الوزراء الإيطالية، جيورجيا ميلوني، نظيرها البريطاني ريشي سوناك بحلول نهاية الأسبوع الماضي (الخميس والجمعة)، في زيارتها الأولى للندن، والتي تأتي في إطار حملة تسويق تسعى من ورائها لإقناع أوروبا بأنها محافِظة ومعتدلة سياسيّاً، أكثر منها فاشيّة ومتطرّفة، كما يصوّرها الإعلام. وفي تصريحات أدلت بها على هامش زيارتها، أشادت ميلوني بـ«العلاقات القويّة جدّاً» بين لندن وروما، وقدّمت دعماً معنويّاً لسوناك الذي يتعرّض لانتقادات من قِبَل بروكسل (مقرّ الاتحاد الأوروبي) على خلفية سياسة حكومته القاضية باحتجاز طالبي اللجوء الذين يَعبرون القنال الإنكليزي من البرّ الأوروبي، وترحيلهم إلى رواندا. وقالت ميلوني مخاطبةً سوناك: «إن التصدّي للمهرّبين والهجرة غير الشرعية أمر تقوم به حكومتكم بشكل جيّد للغاية، وأنا أتّفق تماماً مع سياستك في هذا الشأن، وأعتقد أن هنالك العديد من الأشياء التي يمكننا القيام بها معاً»، علماً أن نصّ البيان المشترك اكتفى بالإشارة إلى فرص التعاون بين البلدين في شأن الهجرة، تجنُّباً - في ما يبدو - لإثارة جدل مع بروكسل في هذا الخصوص.وبحسب مطّلعين على تفاصيل الزيارة، حملت ميلوني معها إلى لندن ملفّات تتّصل بعدد من التهديدات «الوجوديّة» التي تواجهها القارة الأوروبية، وعلى رأسها تنسيق تدفُّق المساعدات العسكرية للنظام الأوكراني في مواجهته مع روسيا، إضافة إلى القضيتَين المتشابكتَين: تدفُّق المهاجرين من دول الجنوب على متن القوارب، وانخفاض معدّل خصوبة النساء في أوروبا.
والتزمت ميلوني، التي تقود، منذ تشرين الأوّل الماضي، ائتلافاً حكوميّاً من أحزاب يمينيّة، بسياسة سلفها الليبرالي، ماريو دراغي، دعْم نظام كييف وإمداده بالسلاح، على رغم أن بعض مكوّنات حكومتها تتحفّظ على هذه السياسة. وبذلك، هي انتقلت من مربّع مواقف اليمين الإيطالي المتطرّف التي انتُخبت استناداً إليها، إلى مواقف أقرب إلى الوسط، متماهيةً مع رغبات الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. أمّا قضيّة المهاجرين من دول الجنوب، والتي كانت الحكومات الإيطالية المتعاقبة قد لجمتها إلى حدٍّ بعيد من خلال التعاون الوثيق مع قادة الميليشيات الليبية المتنازعة لمنع الساعين إلى الهجرة شمالاً من ركوب القوارب، فعادت لتسبّب صداعاً متجدّداً لروما، ولا سيما أن عدد المهاجرين الذي تمكّن من الوصول إلى الأراضي الإيطالية عبر البحر، خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام الجاري، زاد عن العدد الذي نجح بالوصول إلى بريطانيا وفرنسا معاً طوال العام الماضي (2022). وكانت ميلوني أعلنت حالة طوارئ وطنية لمواجهة أزمة المهاجرين إلى إيطاليا. وهناك خشية عبّرت عنها عدّة أطراف في روما من وصول ما قد يصل إلى مليون مهاجر من تونس إذا اهتزّ استقرار السلطة فيها، إضافةً إلى حوالى 700 ألف آخرين موجودين بالفعل في ليبيا ويقنصون الفرص للهجرة شمالاً، و300 ألف قد يلتحقون بهم بسبب النزاع المسلّح الأحدث في السودان. وستكون هذه الأرقام، في حال تحقُّقها، بمثابة كارثة ليس لإيطاليا فحسب، وإنّما أيضاً لأوروبا وبريطانيا، حيث يكمل كثيرون رحلة الهجرة عبر إيطاليا نحو قلب أوروبا وشمالها الأكثر ثراءً، إضافة إلى إصرار كثيرين على الوصول في النهاية إلى الجزيرة البريطانية.
تأمل ميلوني في أن يشكّل التعاون الأوروبي في مسألة الهجرة بوّابتها الشخصيّة لتُحسِّن صورتها


وتشكّل مسألة الهجرة بالقوارب من فرنسا عبر القنال الإنكليزي إلى بريطانيا همّاً لليمين البريطاني على رغم محدوديّتها بالمقارنة مع الأعداد التي تصل إلى مختلف دول الاتحاد الأوروبي، كألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا واليونان. وبينما رحّب اليمين الحاكم في لندن بحرارة بالمهاجرين الأوكران، وقدّم لهم تسهيلات غير مسبوقة، فإن ما يقلق السلطات هم القادمون من دول الجنوب «الذين لا يشبهوننا». ولهذا الغرض، عَقدت لندن اتفاقاً مثيراً للجدل مع رواندا تعيد بموجبه، مقابل دعم مالي، تصدير المهاجرين (غير الشرعيين، على حدّ وصف الحكومة البريطانية) إلى البلد الأفريقي الذي لا يتمتّع نظامه الحاكم بسمعة طيبة في ما يتّصل بحقوق الإنسان بعد حرب أهليّة هناك ذُبح فيها الملايين من الأبرياء.
وفي هذا الجانب، تأمل ميلوني في أن يشكّل التعاون الأوروبي في مسألة الهجرة بوّابتها الشخصيّة لتُحسِّن صورتها أمام الأفرقاء الأوروبيين، إضافة بالطبع إلى محاولتها حشْد التأييد داخل أروقة الاتحاد لسياسات موحّدة أكثر صرامة في التعامل مع المهاجرين غير الأوروبيين. ويرتبط ملفّ الهجرة بما تسمّيه ميلوني «الانتحار البطيء لأوروبا»، حيث تتراجع نسب الولادات في القارة العجوز إلى مستويات مقلقة، فيما تستمرّ معدّلات الأعمار بالارتفاع بسبب تحسُّن مستوى الخدمات الصحية بشكل مطّرد. وفيما كانت إيطاليا تاريخياً واحداً من أكثر المجتمعات الأوروبية خصوبة، فإن لديها الآن واحداً من أدنى معدّلات الخصوبة في العالم عند 1.2 ولادة لكل امرأة. وانخفض عدد المواليد العام الماضي (2022) إلى أقلّ من 393 ألف ولادة بتراجع عدّة آلاف عن عددهم في عام 2021، وهو التراجع السنوي الـ14 على التوالي. وانخفض عدد سكّان إيطاليا، منذ عام 2014، بنحو 1.4 مليون نسمة، ويُتوقّع أن ينهار العدد من 59 مليوناً حالياً إلى أقلّ من 48 مليوناً خلال 50 عاماً. وفيما يبدو معدّل الخصوبة في بريطانيا أفضل نسبياً من إيطاليا - عند مستوى 1.6 ولادة لكلّ امرأة -، فهو لا يزال أقلّ بكثير من معدّل الولادات اللازم للحفاظ على عدد السكان، أي 2.1 ولادة.
وتنعكس هذه المسألة الديموغرافيّة سلباً على الاقتصادات، ما اضطرّ عدّة دول أوروبية إلى رفع سنّ التقاعد إلى ما معدّله في الاتحاد الأوروبي 66 عاماً (68 عاماً في بريطانيا، وفرضت فرنسا أخيراً زيادة من 62 إلى 64 عاماً)، ليكون في مقدور صناديق التقاعد الوفاء بالتزاماتها في ظلّ نقص المواليد وزيادة معدّلات الأعمار. ومن جهته، يجادل اليسار الليبرالي الأوروبي بأنّه ينبغي الترحيب بالمهاجرين إلى القارة، إن لم يكن لأسباب أخلاقيّة، فعلى الأقلّ بسبب الحاجة إلى أيدٍ عاملة جديدة تدفع اشتراكات صناديق التقاعد التي تموّل شيخوخة الأوروبيين. لكنّ اليمين الإيطالي تحديداً يَعتبر ذلك هراء محضاً، مع وجود ثلث الإيطاليين في سنّ العمل خارج التوظيف، وارتفاع نسبة البطالة بين الشبّان الإيطاليين إلى نحو 25%، ما يجعل فرص كسْب الرزق أمام المهاجرين محدودة للغاية.
وبدلاً من استيراد كتل سكانيّة ذات خصائص ثقافية وعرقية مختلفة عن المجتمعات الأوروبيّة، ترى ميلوني أنه ينبغي تشجيع النساء الأوروبيات على إنجاب مزيد من الأطفال - الذين يشبهوننا -. وتعتزم من أجل ذلك، تبنّي عدّة إجراءات تتضمّن إعفاءات ضريبية بقيمة 10 آلاف يورو سنويّاً لكلّ طفل حتى وصوله إلى الثامنة عشرة، وتسهيلات وحوافز إضافية للأمّهات العاملات، وكذلك الحدّ من تسجيل الأزواج المثليين كآباء. لكن هذه الخطّة لا تحظى بتأييد اليسار الليبرالي الأوروبي، إذ يقود «الحزب الديموقراطي الإيطالي» - وريث «الحزب الشيوعي الإيطالي» وأكبر أحزاب المعارضة - حرباً ضروساً ضدّها. ويبدو أن ميلوني تأمل في تعاون الأحزاب الأوروبية (والبريطانية) المحافِظة، للدفع معها في اتّجاه بناء توجُّه استراتيجي لإنقاذ القارة من الهاوية التي يجرّها إليها اليسار الليبرالي.
وإذا كانت مسألة هجرة القوارب حرجة ومهمّة بالنسبة إلى حكومة سوناك بحُكم الموقف العنصري للحزب الحاكم تجاه المهاجرين، فإن تحدّي تراجع الخصوبة لا يبدو أولويّة - على الأقلّ في المدى القريب -، حيث تواجه لندن تحدّيات اقتصاديّة عاجلة، وتراجعاً حادّاً في التأييد الشعبي لليمين قد يتسبّب بخروج المحافظين من السلطة في الانتخابات العامة المقبلة، بعد أقلّ من سنتَين. ومع ذلك، فإن تحذيرات ميلوني قد تثير جدلاً مؤجّلاً بين أجنحة الحزب الحاكم حيث يمين ليبرالي يريد تخفيض الإنفاق الحكومي على الطبقات الفقيرة، ويمين تقليدي لا يمانع باجتراح طرق لزيادة إنجاب البريطانيين حصراً كوسيلة لمحاربة الهجرة.