كثيرة هي الأسئلة التي لا تجد أجوبة، عمّا حدث في روسيا يوم السبت الماضي. كيف تحوّل يفغيني بريغوجين من «بطل وطني» وصديق للرئيس فلاديمير بوتين، إلى متمرّد يعلن الحرب على وزارة الدفاع الروسية ورئاسة الأركان، ويتجرّأ على إعطاء أوامر بتحريك قوات عسكرية نحو موسكو؟ كيف وصل بريغوجين إلى مدينة تولا من دون أي مقاومة تُذكر؟ لماذا لم يتخذ الجيش الروسي إجراءات دفاعية جديّة للتصدي لقوات «فاغنر»؟ وكيف انتهى التمرّد بخروج بريغوجين إلى بيلاروسيا، الحليف الأقوى لموسكو وبوتين؟يعتقد كثيرون في داخل روسيا وخارجها، أن روسيا لم تتعرّض منذ 30 عاماً، لتهديدٍ كالذي تعرّضت له يوم السبت الماضي. لوهلة، بدا الاقتتال الداخلي في شوارع موسكو وارداً جداً، في تكرار لعام 1917، مع اختلاف الأطراف المتصارعة وظروف الخلاف، وهو ما ذكّر به بوتين في خطابه صباح أول من أمس. وفي داخل روسيا نفسها، من لم يصدّق أن شيئاً جديّاً سيحدث، وأن ما يحصل «مسرحية» ستنتهي قبل غياب شمس السبت.
إلّا أن المؤكّد، أن روسيا تلقّت خسارة معنويّة لصورة الدولة لن يكون ترميمها سهلاً في المرحلة المقبلة. لكنّها أيضاً، تجاوزت قطوعاً نجحت فيه الدولة العميقة في تغليب العقل على القوّة، وحافظت على وحدة روسيا، الدولة والمجتمع. فظهر الحلّ الذي رعاه الرئيس البيلاروسي، أليكساندر لوكاتشينكو، بأقلّ الخسائر، وعلى «الطريقة العربية» بتطييب الخواطر: وضّح بريغوجين موقفه من الرئيس والدولة، وأصدر الرئيس شبه عفو عن المتمردين.
منذ وصوله إلى السلطة، عقد بوتين اتفاق «جينتلمان» مع طبقة الأوليغارشية التي استبدّت بروسيا وخيراتها ونهبتها طوال عشر سنوات حتى عام 2000. حاول الزعيم الآتي من إرث الاتحاد السوفياتي واستخباراته، الموازنة بين شبكة المصالح المحليّة وإدارة التوازنات: «ما مضى قد مضى، لكن من الآن وصاعداً لكم الاقتصاد ولي السياسة»، في محاولة لتجاوز التجاذبات الداخلية ووقف التدخلات الغربية وبناء الدولة من جديد، مستفيداً من ثروات الأوليغارشيين لبناء الاقتصاد الروسي.
إدارة التوازنات، ما لبثت أن انسحبت على القوة العسكرية الروسية، مع ظهور الحاجة إلى شركة أمنية خاصة على غرار شركة «بلاك ووتر» الأميركية، تستقطب إلى عدادها المقاتلين من الجمهوريات السوفياتية السابقة، وتتوسّع عبرها روسيا في ليبيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، من دون تحميل الدولة الروسية المسؤولية الرسمية عن نشاطات الشركة. فكانت «فاغنر»، الذراع الروسية الطويلة غير النظامية، والتي لا تشبه «بلاك ووتر» في الإدارة. فالشركة الأميركية الخاصة تتبع مباشرةً وزارة الدفاع الأميركية، ومتعاقدوها يوقّعون عقوداً مع الوزارة التي يتلقّون منها الأوامر، ويدفعون الضرائب للدولة الأميركية. أما «فاغنر»، فهي مؤسسة خاصة لا تتبع وزارة الدفاع الروسية، وعملياً تتلقّى المهام البعيدة المدى من الكرملين، نظراً إلى الصداقة التي تربط بريغوجين ببوتين.
في سوريا، لم تكن مسيرة المجموعة مثالية. فبريغوجين الذي بنى جيشاً مسلّحاً بأحدث الأسلحة، بنى أيضاً إمبراطورية إعلامية حاول مراراً استخدامها ضد الدولة السورية، وضد حكومات كثيرة في أفريقيا، خدمةً لمصالح مالية وشخصية في الكثير من المرّات. وهو مثلاً، ألقى باللوم في الماضي على القوات الجو ــ فضاء الروسية المتمركزة في قاعدة حميميم، لأنها لم تسانده في معركة «خشام» قرب دير الزور، التي خسر فيها ما لا يقلّ عن مئتي مقاتل جراء قصف من مروحيات أميركية منعت قواته من التقدّم في شرق الفرات مع مقاتلين سوريين آخرين. مع بدء الحرب الأوكرانية، وعلى الرغم من أهمية الدور الذي لعبته وتلعبه فاغنر في الميدان الأوكراني، والدور الثانوي للقوات الشيشانية بقيادة رمضان قاديروف، إلّا أن تسليم الجبهات لقوات غير نظامية روسية، لم يكن أمراً مقبولاً بين جنرالات الحرب في الأركان ووزارة الدفاع.
لكنّ الثغرات التي ظهرت في أداء الجيش الروسي، سنحت لـ»فاغنر» أن تقدّم نموذجاً قتالياً وبطولياً في المعارك، ولا سيّما في المعركة الأخيرة في باخموت. واستفادت المجموعة من الغطاء الممنوح لها من الكرملين لتجنيد المساجين ونشر الإعلانات في شوارع موسكو وعلى الطرقات الرئيسة وعلى وسائل الإعلام، ومن الدعم التسليحي غير المحدود لقواتها. وعلى خط مواز، كان الجيش الروسي يشتري الوقت لكي يعيد تنظيم صفوفه ويطوّر من أساليب عمله ومعالجة الثغرات في ألويته وكتائبه وتحسين عملياته اللوجستية، وهو ما يظهر جليّاً في المعارك الأخيرة على الجبهات الأوكرانية. قبل أشهر، صدر القرار داخل الدولة العميقة بمركزة قرار العمليات العسكرية والقوات المسلّحة، فيما بريغوجين، الذي كان يوجّه انتقادات بعضها محقّ إلى الأركان والقيادة العسكرية عمّن يتحمّل مسؤولية الفشل في بعض العمليات العسكرية، بالغ في الهجوم على الجنرالات الذين يشكّلون عماد الجيش الروسي ويحاولون في العمق تحسين وضع الجيش والاستفادة من الأخطاء.
حاول بوتين ممارسة سياسة التوازن نفسها؛ إذ إن موسكو تحتاج إلى «فاغنر» طبعاً، لكنها تحتاج أكثر إلى الجيش الحديث. طلبت وزارة الدفاع من بريغوجين الانضواء تحت قيادتها، إلا أنه بدأ بالتمرّد الإعلامي أوّلاً، إلى أن وصل به الأمر إلى الخروج عن طوع بوتين نفسه، بالدخول إلى روستوف ثم إعلان توجّهه نحو موسكو. في وزارة الدفاع، لم يكن تحرّك بريغوجين مفاجئاً، بل ربّما تُرك الرجل لكي يقع في «تهوّره»، فكان ما كان ليل الجمعة ــ السبت بتحريك قوات عسكرية من «فاغنر». بعد كل ما حصل، لم يتهم أحد بريغوجين بالخيانة، سوى بيان جهاز الأمن الفيدرالي. بوتين نفسه لم يسمّه في خطابه، بل تحدّث عن «هؤلاء الخونة...» بالمطلق. يمكن تفسير موقف بوتين بأنه من جهة، لا يريد تسميته كي لا يضطر حتماً إلى عقابه كخائن، ومن جهة ثانية لكي لا يتحول إلى بطل يستثمر فيه الغرب مستقبلاً. وبينما صمت جميع القادة العسكريين، من وزير الدفاع سيرغي شويغو إلى رئيس الأركان فاليري غراسيموف، تولّى تهديد بريغوجين، صديقه الجنرال المتمرّس نائب قائد العملية العسكرية في أوكرانيا، سيرغي سوروفيكن.
صحيح أن الجيش الروسي لم يحرّك قوات الدفاع عن موسكو، لكنّه وجّه تحذيراً شديد اللهجة وصل إلى بريغوجين بعد ظهر أمس، مفاده أنه سيُقتل في حال أكمل تمرّده، وأن باب العودة إلى كنف الدولة لا يزال مفتوحاً، فيما تولّى الرئيس البيلاروسي المفاوضات. ثمّة من يؤكّد أن تغييرات سوف تطرأ على المشهد في وزارة الدفاع الروسية، وأن بريغوجين نفسه قد يعود إلى موسكو بعد عام أو عامين مستفيداً من عفو الرئيس، من دون أن تعود «فاغنر». لكن منع حدوث انعكاسات على واقع الجبهات الأوكرانية، واستيعاب «فاغنر» في القوات المسلّحة والاستفادة من خبرتها، كل ذلك يبدو المهمة المقبلة للأركان، كما الاستمرار في إدارة أعمال «فاغنر» في الخارج، في ظلّ «عطلة» بريغوجين القسرية في مينسك.
على أن بريغوجين ليس وحده من يشكّل تحدّياً للدولة الروسية؛ إذ ثمة الكثير من التحديات القادمة على موسكو في محيطها الحيوي من كازاخستان إلى صربيا إلى الشرق الروسي، وفي داخلها أيضاً. لكنّ الروس، وعلى مرّ التاريخ، كانوا يصنعون النصر من المحن.