يعقوب زيادين *
لكوني لست ناقداً ولا أديباً ولا باحثاً ولا منظّراً ماركسيّاً، وبضغط من الزميل العزيز الدكتور هشام البستاني، أجرؤ أن أخوض معركة النقد والنقد الذاتي لتجربة عمرها 65 عاماً، خضت غمارها شخصاً وضعته ظروفه الصعبة وتحولات تاريخية معينة في مسؤوليات هي أكبر بكثير مما توقّع، فمكّنته من أن يساهم في صنع أحداث، وكان شاهداً عن قرب على أحداث أخرى.
هذه محاولة، أمارسها للمرة الأولى، للنقد والنقد الذاتي لتجربة مريرة حصدنا فيها النجاحات الكبيرة ومارسنا الأخطاء الجسيمة، وهي الآن بين أيديكم. لم أشتم أحداً. الكلّ مارس النضال الشاق سجوناً وحرماناً وفقراً من جانب، لكن الجانب الآخر كان أخطاء وتجاوزات سبّبت الكثير من التراجعات والإساءات، وذكرها في نظري فيه أهمية للأجيال الصاعدة ليتجنبوها. وهذه المحاولة لممارسة النقد والنقد الذاتي ستتناول تجربة حزبي، الحزب الشيوعي الأردني، والتجربة السوفياتية، وأطالب الأحزاب الوطنية الأخرى بعزم ممارسة النقد الذاتي من داخلها ومن خلال قادتها.
حزب ماركسي من دون ماركسيّين
1 ـــــ لماذا سمّيناه الحزب الشيوعي الأردني في بلد صغير بلا صناعة وبلا زراعة متطورة، وبالطبع بلا طبقة عاملة؟
2 ـــــ لماذا ابتعدنا عن الدين بشكل عام؟ علماً بأنّ الحزب لم يتعارض مع الديانات السماوية، لكنه لم يستفد مما يضمّه الدين من دفاع عن الفقر والجوع والاضطهاد. جاء هذا في عديد من الآيات الكريمة في القرآن الكريم والإنجيل، وكان من الممكن الاستفادة منها واتخاذها وسيلة للتقارب مع الجماهير الشعبية في القرى والأرياف في بلد متدين الى أبعد الحدود.
3 ـــــ لماذا لم نتحدث عن حضارتنا العربية الإسلامية وتاريخها المجيد بما فيه من إيجابيات هائلة نتبناها وأخطاء ونواقص نتجنبها؟ لماذا لم نتحدث عن ابن رشد وابن خلدون وعشرات من المفكرين التنويريين حقاً في تاريخنا؟
4 ـــــ نحن حملنا الشيوعية ـــــ الماركسية ـــــ اللينينية في حزب ليس فيه ماركسيون حقيقيون، ولا منظرون، ولا حتى اهتمام بالفكر الاشتراكي العلمي. هذه حقيقة. وبالتالي لم نثقّف ولم نعلّم أعضاء حزبنا ولا جماهيرنا الفكر العلمي الماركسي لنزيد من تمسكه بالاشتراكية العلمية وبالمسلك النضالي الجدي والمستمر.
5 ـــــ من دون وعي علمي جاد، واصلنا الاستعلاء والشللية وحب الظهور والتطلع الى المراكز والتكتلات، مع انعدام النقد والنقد الذاتي، والادعاء السخيف بحمل الحقيقة المطلقة.
6 ـــــ لماذا حرص الحزب منذ البداية على إيجاد ستالين خاص بنا وعلى قياسنا ويتصرف بفردية؟
7 ـــــ لماذا ومنذ اليوم الأول لقيام الحزب، وعلى رغم عدم وجود اتصال بالخارج، قررنا الالتزام بما يقوله الشيوعيون في الاتحاد السوفياتي، متجاهلين أوضاع بلدنا وبلداننا العربية ومشاكلها المتعددة؟
8 ـــــ بأي حق قاومنا وبشدّة تقسيم فلسطين حتى آخر لحظة، ثم وافقنا على ذلك صباح اليوم التالي تنفيذاً لرغبة الصديق والرفيق السوفياتي؟
9 ـــــ ماذا استفدنا من مذابح العراق بين الشيوعيين والبعثيين، وفي سوريا بين البعث والإسلاميين؟ ومن استفاد من القتال الدامي بين الأحزاب اليسارية والوطنية غير العدو الرئيس والمشترك في المنطقة والمتمثل بالاستعمار البريطاني والفرنسي والأميركي وإسرائيل العدوانية والصهيونية؟
10 ــــــ لماذا ارتضى البعض منا التمويل الأجنبي اللئيم من مراكز استعمارية، ما حوّل العديد من الرفاق الى موظفين؟
في انهيار الاتحاد السوفياتي
منذ بدايات التاريخ ومع نشوء الاستغلال وتسلط الإنسان على الإنسان، ظهر الحلم بمجتمع تسوده العدالة والمساواة بين البشر، وشهدت القرون المتعاقبة محاولات وتجارب مختلفة لترجمة هذا الحلم الى واقع، تمثلت بثورات وتمردات العبيد والفقراء المظلومين وسعيهم لإقامة مجتمعات اشتراكية بأشكالها البدائية في رقاع مختلفة من الأرض، وعرفت الأرض العربية بعضاً منها مثل ثورة الزنج وحركة القرامطة. الفلسفة الاشتراكية العلمية ـــــ الماركسية تميزت بميزة عظيمة هي العمل على تغيير العالم لا الاكتفاء بفهمه وشرحه. وقد توصل ماركس وإنجلز من خلال المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية الى نظرية الصراع الطبقي. وأدّت الماركسية اللينينية (النظرية والممارسة) دوراً أساسياً في تغيير العالم.
لم تكن التجربة الاشتراكية السوفياتية التي افتتحتها ثورة أكتوبر 1917 في روسيا، ولاحقاً تجارب البناء الاشتراكي في عديد من بلدان أوروبا وآسيا وأميركا الوسطى والجنوبية، إلا امتداداً لذلك المسعى النبيل. على أن الفارق الجوهري بين هذه التجارب وسابقاتها يكمن في استنادها إلى فكر حديث ناضج، ونظرية علمية تقوم على أحدث وأرقى معارف الإنسان في شتى الميادين.
ما هي مصادر الخلل في تلك التجارب ومن المسؤول عنها؟ وهل يعود انهيارها الى الأفكار التي وراءها أم الى التطبيق أم الى كليهما معاً؟ إنّ المقاربة الصحيحة لهذه القضية تفترض الانطلاق من واقع أن المشكلات نشأت بفعل عوامل اقتصادية وغير اقتصادية، داخلية وخارجية، معقدة ومتناقضة وطويلة المدى. وكل تضخيم لدور العوامل الخارجية في وقوع الانهيار، وكل تقليل لدور العوامل الداخلية، سيؤديان الى استنتاجات لا تخدم مسعى قوى اليسار والشيوعيين للوصول الى الحقيقة.
لسنا هنا بصدد تعداد الإنجازات التي تحققت في البلدان الاشتراكية على أكثر من صعيد: الاقتصاد (التصنيع)، والمجتمع (التعليم والصحة والسكن)، وتفكيك النظام الكولونيالي، وتحقيق الاستقلال السياسي في العديد من البلدان. نجن هنا بصدد تحليل الخلل، فما حدث بعد الانهيار كان مرعباً: انخفض الإنتاج الوطني في روسيا بين عامي 1991-1998 50 في المئة، وبلغ الانخفاض في الصناعة النسبة نفسها، وفي الزراعة 60 في المئة، وتحولت الهيمنة الى عصابات من المافيا تدير أعمالها من خلال آلاف الواجهات من شركات وبنوك.
جاءت ثورة أكتوبر تعبيراً عن تفجير تناقضات الرأسمالية في واحدة من أضعف حلقاتها، ثورة انطلقت من أعماق المجتمع الروسي بمشاركة واسعة من جماهير الفلاحين المسحوقة في الريف والطبقة العاملة النشيطة وأقسام واسعة من الطبقة الوسطى ضد السلطات القيصرية وضد طغيان الملاكين والإقطاعيين، وانبثقت من رحمها «سوفيتات» مجالس العمال والفلاحين والجنود.
لم يكن خافياً على لينين لحظة الاستيلاء على السلطة أن روسيا لم تكن تمتلك الشروط المادية لقيام الاشتراكية فيها، وقد تحدث لينين عن عدم النضوج الكافي لإنجاز البناء الاشتراكي، مخالفاً بهذا ماركس والمناشفة واشتراكيين آخرين منهم تروتسكي، ومعتمداً على قيام ثورات عمالية في بلدان متطورة رأسمالياً (مثل ألمانيا وبريطانيا) لم تحدث أو لم تنتصر.
ثم نشبت الحرب الأهلية مع العديد من أطياف الرجعيين، وهو ما أدى الى مركزة للسلطة أدت دوراً كبيراً في تحديد الملامح اللاحقة للنظام السياسي والحقوقي السوفياتي، وفي غرس جذور الإشكالية الديموقراطية. وعلى رغم تأكيد لينين خصوصية الظرف واستثنائيته فإن هذا الوضع تحول لاحقاً الى قاعدة عامة شاملة أدت الى اندماج السوفيتات بالدولة وخضوعها لها بدلاً من العكس.
ولأجل بناء القاعدة الاقتصادية قامت السلطة بتأميم الأراضي وإلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعمدت الى التحول الى التصنيع الثقيل، وهو ما أدى الى مركزة القدرة الاقتصادية في يد الدولة التي تعززت في ظل نظام شيوعية الحرب، وتبع ذلك تراجع دور السوفيتات والنقابات والمنظمات الاجتماعية، وكان الخراب من الجسامة بحيث كفّت البروليتاريا عن الوجود كبروليتاريا، كما وصف لينين الأوضاع عام 1921.
بعدها جاءت السياسة الاقتصادية الجديدة (NEP) التي أوجدها لينين لتعالج الآثار السلبية للحرب الأهلية والخراب الواسع. كانت الظروف الجديدة حافزاً لتحويل البيروقراطية الجديدة من سلوك فردي صغير الى شريحة اجتماعية متميزة بفعل إمساكها بالجانب التنفيذي للسلطة، وقد طرح هذا الواقع الجديد مسألة ماهية القوى الاجتماعية التي ستتحكم بعملية توزيع الفائض بين الشرائح الاجتماعية المختلفة، وهنا بدأت هذه الشريحة المتميزة تؤدي دوراً متنامياً سيؤثر على اتجاهات التطور اللاحقة.
ستالين وسياسة حرق المراحل
جاء ستالين بعد وفاة لينين، ملغياً الـNEP، عامداً الى سياسة حرق المراحل التاريخية، مقرراً التعجيل بعملية تمركز الإنتاج الصناعي الزراعي الذي اعتمده حتى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي في عام 1956. واقترنت عملية تعجيل التصنيع بنشوء نظام التخطيط المركزي ذي الطبيعة الإدارية والأوامرية وتوطيد دوره في حياة البلاد الاقتصادية والاجتماعية وتحوله الى عامل معرقل للتحول الديموقراطي في النظام الاشتراكي.
كل هذا أدى في النهاية الى حصر سلطة القرار بيد قيادة الحزب الشيوعي الذي أصبح منذ عام 1922 الحزب الوحيد في السلطة، ومع اضطرار البلاشفة في مواجهة الحرب الأهلية وللحفاظ على السلطة الاشتراكية إلى اللجوء الى العنف لقمع قوى الثورة المضادة المدعومة خارجياً، اضمحل دور السوفيتات وبرزت الميول الشخصية الفردية لستالين، وأعقب ذلك نشوء البيروقراطية وتطورها.
ساهم الميل نحو المركزية المفرطة، على صعيد القرار السياسي والاقتصادي، في نمو البيروقراطية لتشمل مختلف ميادين النشاط الاقتصادي والسياسي والثقافي على حساب الهيئات التمثيلية وآليات اتخاذ القرار.
لقد انتبه لينين في وقت مبكر الى نمو سيطرة البيروقراطية وشدد على ضرورة محاربة هذا الانحراف، ولكن رحيله المبكر عام 1924 فعل فعله، وباسم الحزب تحكمت البيروقراطية بالإنتاج، وأصبحت لديها مصالح خاصة تتعارض وإشاعة الديموقراطية وتوسيع المشاركة في القرار السياسي.
محاولات الإصلاح بدأت في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي عام 1956 على يد خروتشوف، ولم يتسنَّ إعطاء تحليل ماركسي عميق لما جرى، لكن المؤتمر دعا الى تحرير الاشتراكية فكراً وأحزاباً وسلطاتٍ عبر تعدد الانتقال الى الاشتراكية. ومثلت فترة الركود 1964-1983 في عهد بريجنيف مرحلة سلبية لا فقط في تطور الاتحاد السوفيتي بل في تأثيراتها على المستوى الدولي. وجاءت محاولة أخرى برئاسة أندروبوف لم يكتب لها النجاح لمعالجة المشكلات، وأدرك الموت أندروبوف باكراً.
غورباتشوف ورصاصة الرحمة
بعدها جاءت البيريسترويكا المشهورة بقيادة غورباتشوف بشعار جديد «مزيد من الاشتراكية... مزيد من الديموقراطية»، ولم يفضِ تجديد الاشتراكية الذي تزعّمه غورباتشوف سوى الى انهيار الاشتراكية.
انطوى برنامج البيريسترويكا على تشخيص نقدي صحيح إجمالاً لمظاهر الخلل التي كانت تعترض نمو الاقتصاد وتطور المجتمع وغياب الديموقراطية، لكن هذا الجهد انصبّ على إبراز الخلل من دون تحليل جذوره الاجتماعية والسياسية الكامنة خلفه، وتهيئة البدائل المناسبة له.
الواقع في نهاية القرن العشرين أصبح أعقد بكثير من الواقع الذي تعامل معه ماركس ومن بعده لينين. كانت هناك ضرورة لتغيير جميع جوانب الحياة في المجتمع السوفياتي: أصبحت ملكية الدولة شكل الملكية الوحيد في كل الأراضي السوفياتية، وأصبح الحزب هو العامل الذاتي لتطور جميع بنى المجتمع الاشتراكي، وأساليب الأمر والنهي في الزراعة كانت تقتل مبادرة الفلاحين. المركزية المتصلبة كانت لها مزايا في المرحلة الأولى من البناء الاشتراكي، وفي سنوات الإعمار الأولى، وفي سنوات الحرب العظمى، وفي حقبة الإعمار بعد الحرب، ولكنها استنفدت أغراضها في نهاية الستينيات. في بداية الثمانينيات ظهرت بوضوح التناقضات بين علاقات الإنتاج المجمدة والقدرة الإنتاجية المجمدة، بين سياسة الإلحاد الرسمية وتديّن الشعب الواقعي، زد على ذلك تفاقم تناقضات أخرى مختلفة داخل منظومة البلدان الاشتراكية.
مما ذكرنا آنفاً نصل إلى الاستنتاجات التالية:
1 ـــــ قامت أول تجربة من تجارب بناء الاشتراكية في بلد نضجت فيه الشروط السياسية من دون أن يمتلك القاعدة المادية المتقدمة التي اعتبرها ماركس شرطاً لانتصار الاشتراكية.
2 ـــــ اتسمت التجربة السوفياتية الاشتراكية بضعف المكوّن الديموقراطي، وتكرست فيها هيمنة الحزب التي أدت الى تكريس هيمنة الفرد.
3 ـــــ دُمج في كل العهود الحزب بالدولة، وأضيفت إليها في أحيان كثيرة أجهزة الاستخبارات والأمن، وهنا تحول الحزب عن دوره الثوري.
4 ـــــ بالتلازم مع ظواهر المركزية المفرطة على صعيدي الاقتصاد والإدارة، تفاقمت البيروقراطية، وتنامت سيطرة الأجهزة الأمنية.
5 ـــــ إهمال وتجاهل العوامل غير الاقتصادية التي سماها ماركس العوامل الروحية.
6 ـــــ تضاءلت أهميّة الربط بين النظرية والواقع.
7 ـــــ دور سباق التسلح وأثره في استنزاف القدرات المالية للاتحاد السوفياتي وباقي البلدان الاشتراكية.
9 ـــــ شدة الهجوم الأيديولوجي للرأسمالية التي ركزت تنظيراتها على نواقص التجربة وثغراتها.
وأخيراً، إن أحد أهم الأسئلة التي أثارها الانهيار، يتعلق بالمرجعية الفكرية والنظرية لهذه التجربة، ومدى كونها تجسيداً حقيقياً أو نتيجةً أمينةً للفكر الماركسي ولمفهوم الاشتراكية. وهناك سؤال آخر ينصبّ على ما تداعى وشاخ من منظومة الأفكار والمبادئ التي تأسست عليها التجربة السوفيتية، وحددت معالم رؤيتنا للاشتراكية.
هناك تحدّيان متميزان ومترابطان، في آن واحد، ينهضان أمام القوى والأحزاب التي تناضل ضد الرأسمالية:
من جهة، إعادة قراءة وفحص الأطروحات الماركسية الكلاسيكية حول الاشتراكية في ضوء الدراسات والاستنتاجات المستخلصة من تجارب البناء الاشتراكي السابقة، وتحريرها من الجمود التقديسي الذي فرض عليها في الفترة الستالينية، ثمّ الكشف عن الجديد في حقل القوانين الداخلية المحركة للرأسمالية المعاصرة وصيرورة تناقضاتها في وقت لا تواجه فيه منافسة أو تهديد نظام بديل.
* الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي الأردني

• مداخلة أُلقيَت في 21/10/2007 في منتدى الفكر الاشتراكي في عمّان في ذكرى ثورة أكتوبر الاشتراكية.