كان لافتاً للانتباه أن شخصيات سياسية وأكاديمية وإعلامية، من فريق 14 آذار، قد بادرت إلى الهجوم على «الأخبار» وعلى مسربي وثائق الخارجية السعودية. هؤلاء لا يمارسون تضامناً مع زملاء لهم في «الكار»، بل يعتقدون بأنهم يقومون بـ»هجوم وقائي»، حتى إذا ما ظهرت وثائق تخصهم، خرجوا للقول إنها مفبركة، وإن ناشرها، أي «الأخبار»، ليس ذا مصداقية.
هذا اهتمام قلة، وقلة قليلة من حشد كبير لبناني وعربي وعالمي، مارست الوضاعة وهي تشحذ الأموال من النظام السعودي مقابل ولاء وتبعية. لكنّ هناك هجوماً وقائياً صامتاً، يقوده النظام السعودي بنفسه، وهو لا يستهدف، فقط، احتواء المضاعفات السلبية لما نشر، بل محاولة الحد، مسبقاً، من الآثار الأكثر سلبية لما سيرد في القسم غير المنشور بعد من وثائق الخارجية السعودية.
في حالتي واهب المال والشحاذ، يجب إيراد الملاحظات الآتية:
أولاً: يحاول فريق 14 آذار التعامل مع فضائح الوثائق وكأنها مسألة سياسية. يعتقد هؤلاء أن بالإمكان الاحتيال على الجمهور بالقول: كلنا نرتشي، نحن من السعودية وغيرنا من إيران! يعرف هؤلاء أنهم صاروا محل استهزاء وسط جمهورهم، وهم، أصلاً، محل إدانة لدى خصومهم. وستكشف المرحلة المقبلة أن هذا الصنف من السياسيين والإعلاميين والأمنيين ليسوا أكثر من شحاذين، وهم، بالفعل، أكثر وضاعة من كل الخونة.

كيف جزمت الخارجية
السعودية بأن لديها وثائق
لم تتعرض للاختراق؟


ثانياً: يتجاهل هؤلاء أن الحقارة وقلة الوطنية اللتين أبدوهما في وثائق وزارة الخارجية الأميركية لا تساويان شيئاً أمام الإذلال عند أبواب السلاطين بحثاً عن حفنة من الدولارات. وبعد، هل يدرك هؤلاء أنه يصعب عليهم، بعد اليوم، مساءلة أحد ما لم يثبتوا أن موقفهم غير مدفوع الأجر؟!
ثالثاً: خرج الناطق باسم وزارة الخارجية السعودية ليقول إن بلاده تقوم بالتحقيق في الخرق الإلكتروني. لكنه أضاف أن هناك وثائق مصنفة تحت بند الحماية العالية لم تتعرض للاختراق، قبل أن يتوعد المسرّبين بالملاحقة القانونية في كل العالم.
لكن، هل يقول لنا الناطق إن ما نشر ليس مهماً، وإن المهم تم إخضاعه لبرامج حماية خاصة؟ علماً بأنه لم يوضح لنا كيف عرف أن ما هو مصنف تحت بند الحماية العالية لم يتم اختراقه. وهل هو واثق من أن اختراق وزارة الخارجية لم يشمل كل ما في أرشيفها من وثائق نصية... وربما أكثر؟
رابعاً: يعرف النظام السعودي أن كل محاولات حجب الوثائق، أو منع نشرها أو تداولها، أمر معقد وصعب للغاية، وكلفته كبيرة جداً جداً، ولا ضمانات في أن يتم بصورة فعّالة. لكن الذي يعرفه النظام السعودي أن هذه الوثائق باللغة العربية، وأنها باتت متاحة للعموم، وأن أكبر محركات البحث الالكتروني في العالم تقدم هذه الخدمة بصورة مفتوحة، وأن مواقع التواصل الاجتماعي وآلاف المواقع الإلكترونية مليئة بالوثائق، وأن إلغاء الانترنت، ووقف كل أنواع الاتصالات، وإقفال الفضائيات، وتدمير آلات الفاكس، لن تنفع في منع التداول بهذه الوثائق.
خامساً: يتجاهل النظام السعودي الخلاصة التي وصل إليها الأميركيون، بأن الأمر لا يتعلق بعملية فضائحية يلجأ إليها الكثيرون، بل القصة ترتبط بأن فكرة «ويكيليكس» تقوم، أساساً وقبل كل شيء، على مواجهة احتكار السلطات للمعلومات، وعلى مواجهة إخفاء السلطات المعلومات الحقيقية عن الجمهور، وعلى مواجهة الآثار المدمرة للعمليات السرية السياسية والاقتصادية والمالية... وأن ما تقوم به منظمة «ويكيليكس» إنما هدفه كسر هذا الاحتكار، وهو ما حصل، وهو ما سيكون أكثر توسعاً في المستقبل، علماً بأن اللجوء إلى برامج حماية معلوماتية يبقى في إطار محاولة تأخير انكشاف أمر كل ما هو محجوب، وهو مسألة وقت فقط.
من المفارقات التي يجري تجاهلها في تقييم الوثائق أن الخارجية السعودية تفتقد أبسط القواعد المهنية. إذ تثبت الوثائق أن من يكتبها بحاجة إلى دورة في اللغة العربية، أو إلى مدقق لغوي يقرأ التقرير بعده. كذلك تثبت أن الفريق المسؤول عن الأرشيف في الوزارة بحاجة إلى تدريب وإلى برامج جديدة، حتى إذا ما احتاج المسؤولون إلى وثيقة ما، يقدرون على استخراجها بالسهولة المطلوبة. وأيضاً، فإن الفريق الدبلوماسي والإداري والأمني يحتاج إلى دورات تخصصية في كيفية كتابة التقارير التي ترفع إلى الإدارة المركزية. على أن الطامة الكبرى هي في أن العقل الذي يدير هذا النظام لم يكن يعتقد أنه سيصير محل تدقيق ومتابعة كما يحصل الآن...
أما ما يدعو إلى السخرية، فهو أن بعض «الشحاذين»، وخصوصاً في لبنان، يريدون الآن تحصيل تعويضات من النظام السعودي نفسه، لأن وزارة الخارجية لم تحترم تعهداتها بإبقاء المعلومات عنهم سرية. لكن، ثمة ما هو أكثر إثارة للسخرية:
يقول زميل إن إحدى المؤسسات التي كشفت الوثائق عن تلقيها الدعم المالي من السعودية، تدّعي أنها قبضت مبلغاً أقل بكثير من ذاك المشار إليه في الوثائق. وهي تريد الآن، وقبل أي حديث آخر، الحصول على بقية المبلغ، وهو ما يعيدنا إلى التحقيقات السابقة مع عملاء لجهاز الاستخبارات الأميركية، حيث بان أنهم كانوا يوقّعون على إيصالات بتسلّم مبالغ مالية تساوي، فعلياً، ضعف ما يحصلون عليه من الموظف المشغل!؟…
انتظروا، بعدنا بالأول!