«اللغة مظهر من مظاهر الابتكار في مجموع الأمة، فإذا هجعت قوة الابتكار توقفت اللغة عن مسارها؛ وفي الوقوف التقهقر، وفي التقهقر الموت والاندثار، فمستقبلها يتوقف على مستقبل الفكر المبدع الكائن في مجموع الأمم التي تتكلمها، فإن كان موجوداً كان مستقبل اللغة عظيماً كماضيها، وإن كان غير موجود فمستقبلها سيكون كحاضر السريانية والعبرانية». هذا ما قاله الأديب جبران خليل جبران، ترى، هل كان يتصور أن العبرية ستتجدد وتقوم من بين الركام بينما العربية تتراجع إلى الصفوف الخلفية؟
غالباً ما يحتج كثيرون بأن اللغة العربية لغة صعبة، بل يجعلونها اللغة الأصعب في العالم، إذ يصنف المتحدثون بالإنجليزية كلغة أولى اللغات الأخرى إلى سهلة ومتوسطة وصعبة؛ أما السهلة فهي اللغات المشابهة للإنجليزية والقريبة منها، مثل الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والإيطالية، والمتوسطة هي اللغات ذات الفوارق الكبيرة عن الإنجليزية، مثل الهندية والروسية والتركية وغيرها؛ في حين تبدأ قائمة أصعب اللغات باللغة العربية ثم اليابانية والصينية والكورية، رغم أن هناك نحو 450 مليون شخص حول العالم يتكلمون اللغة العربية اليوم.

أولاً: إلامَ تُعزى صعوبة اللغة العربية؟

تُعزى صعوبة اللغة العربية إلى بعض ما تختص به:
أ- على صعيد الحروف: مدخل كلّ لغةٍ هو حروفها، وعدد حروف اللغة العربية (27 حرفاً) ضئيلٌ جدّاً بالنسبة لآلاف الحروف في الصينية واليابانية! لكن صعوبة تعلّم حروف اللغة العربية تكمن في:
تعدد أشكالها ما بين الحرف منفصلاً والحرف متصلاً، وتعدد أشكال الحرف بحسب موضعه في الكلمة: في أولها وفي وسطها وفي آخرها؛ قبول بعضها للاتصال من الجهتين، بينما نجد أخرى قابلة للاتصال من جهة اليمين (ر- د-...الخ)؛ إعجامها بالنقاط، تشابُهُ بعضِ الحروفِ في كتابتها كالجيمِ والحاءِ والخاءِ، تشابُهُ بعضِ الحُروفِ المتقاربة المخرج في النُّطق كالضَّادِ والدَّالِ، وجودُ حروفٍ تُكْتَبُ ولا تنْطَق، وأصواتٌ تُنْطَقُ ولا تُكْتَبْ، وجود الأصوات القصيرة (الفتحة، والضمّة، والكسرة)، والأصوات الطويلة (الألف والواو والياء الساكنة)، وضرورة تعلّم كتابة كلّ حرفٍ من حروف اللغة العربية مع كل حرفٍ من حروف المدّ الثلاثة، وجودُ الحُروف المُضَعَّفة أي المُشدَّدة، صعوبةُ تمييزِ النُّطقِ بـ (ال) التعريف في الحروف الشمسيَّة والقمريَّة، صعوبةُ نُطْقِ عين الفِعل لبعض الأفعال...إلخ
ب - على صعيد الإعراب: اللغة العربية معربة، وعلم النحو وهو علم يبحث في ما يطرأ على أواخر الكلمات من تغيرات وفق تغير موضع الكلمة في النص؛ وتكمن صعوبة تعلم النحو في الحشو والاهتمام بما لا يُستخدم ولا يُنتفع به، وعدم تدريس القواعد الوظيفية كما ينبغي.

ما قيس على
كلام العرب هو
من كلام العرب

ج ـ على صعيد المفردات: العربية هي أغنى لغات العالم بما اصطلح على تسميته بالمترادفات (وإن كنت أوافق الدكتور محمد شحرور حين يقول أن لا مترادفات في العربية، إذ لكل كلمة معناها الخاص). مثلا هناك عشرات الأسماء للحب ومقاماته: من تَيْمم، تَعَشُّق، تَعَلُّق، تَلَطُّف، تَوَلُّه، جَوى، حُبّ ، شَغف، شَغَفٌ، صَبابة، صَبْو، صَبْوَة، غَرَام، كَلَف، لاعج، لَوْعَة، مَحَبَّة، مَوَدَّة، هَوى، هُيَام، وَجْد، وَلَع، وَلَه، وُدّ، وُلُوع، وِداد، وِدّ، وِصَال؛ هذا فضلاً عن المتضادات...
د - على صعيد الثنائية اللغوية ما بين الفصحى والعامية: تُستَخْدَمُ الفُصْحى بشكلٍ رئيسٍ في المَحافلِ الإعلاميَّةِ والتَّربويَّةِ والعِلْمِيَّةِ والأَدَبِيَّةِ، بينما تَطْغى اللَّهْجَةُ المَحْكِيّةُ على معظم جوانب حياتنا. وتُحدَّدُ الفُصحى بأحكامِ الصَّرفِ والنَّحوِ بينما يُطلَق العَنانُ للعاميّة. وأدى ذلك الى مزاحمة العامية للغة الفصحى في ميادين ينبغي أن تكون للفصحى دون غيرها، مثل قاعات التدريس حيث تزاحم العاميةُ اللغةَ العربيةَ الفصحى في قاعات الدرس، داخل المدرسة والجامعة، فنجد تدريس العلوم المختلفة يتم بالعامية، فتُهان على يد مَنْ يُفترض فيهم إعلاء شأنها، وإعادة مجدها. إن طلابنا في المدارس والجامعات لا يعرفون الفصحى إلا مكتوبة فقط، أما العامية - التي تحاصرهم في كل مكان - فتقرع آذانهم داخل الصفوف، والمحاضرات العامة، والندوات، والخطب؛ حتى المناقشات الأكاديمية تختلط فيها العامية بالفصحى في معظم الأحيان، مما يذهب برونق الفصحى وجمالها.
هـ - الازدواجية اللغوية ومزاحمة اللغات الأجنبية للغة العربية في عدة ميادين: الحوار اليومي بين المثقفين، الإعلانات الرسمية والتجارية، التدريس في كليات الطب والصيدلة والهندسة باللغات الأجنبية فقط، السماح بتدريس الرياضيات والعلوم باللغة الأجنبية في التعليم الأساسي. ولسنا ضدّ تعليم اللغات الأجنبية وتعلمها، إنما المؤسف أن يحصل ذلك قبل تمكن التلاميذ من لغتهم الأصلية.
و- إفراد المناهج الدراسية حيّزاً واسعاً للغات الأجنبية والمواد التي تدرّس بها.

ثانياً: إجراءات علاجية

أ- حبذا لو يُعتمد حلّ الشيخ العلامة عبد الله العلايلي لإشكالية العامية عبر «تهذيب العاميّ القابل للتفصيح وإجرائه على موازين الفصحى»، أو «إفساح الفصحى لتبنِّي مفردات العاميَّة التي ترجع إلى أصلٍ فصيح ولو محرَّفًا...». وتجربة مارون عبود في هذا المجال نموذج يُحتذى. كما يرى العلايلي أنَّ اللُّغة المهذَّبة ويسمِّيها «المعطيَّة» (لغة الحياة عند جبران خليل جبران)، تحتاج «لتستقيم وتنتشر الى اعتمادها في مراحل التَّعليم المختلفة، وبذلك تقترب من اللُّغة الأدبيَّة الرفيعة وتتَّصل بها صلةً متينة».
ب - ضرورة قيام التفتيش التربوي والإرشاد والتوجيه والمنسقين في المدارس، وكذلك الإعلام والجمعيات الثقافية والأدبية والمؤسسات التربوية والجامعية بتوعية الجمهور العربي على خطر تدهور اللغة العربية وما ينتج عن الالتزام بالفصحى من تفاهم بين أبناء الوطن العربي وحفاظ على التراث العربي الأصيل.
ج - تشجيع المسؤولين والإعلاميين كي يكونوا قدوة صالحة بالتمسك بالفصحى.
د - إعادة النظر في فرض تعليم المواد المختلفة باللغات الأجنبية في التعليم الأساسي.
ه- تشريع القوانين اللازمة - أو تفعليها في حال وجودها - لمنع استعمال اللغات الأجنبية في الإعلانات الرسمية والتجارية، وأسماء الشركات والمصانع، والمحلات التجارية، والمنتجات، الخ. على غرار مشروع «إلزامية اللغة الفرنسية» المشرع في فرنسا سنة 1994، فنردّ للغة العربية كيانها وعزتها التي كادت تفقدها بين أهلها.
و- العمل على تكوين قاعدة علمية في الوطن العربي، تكون نقطة الانطلاق للمشاركة في التقدم التقنيّ، ليكون العالم العربي مشاركاً في صنع التكنولوجيا، لا مجرد مستهلك لها.
ز ـ العمل على تعريب التعليم الجامعي ما أمكن. لكن لا ينبغي أن تملأ لغتنا بكلمات أجنبيَّة معرَّبة من دون رادع، ونذكر هنا بما قاله العلايلي عن ضرورة إحياء ما دعت إليه مدرسة الكوفة، وإباحته للمستعمل والواضح: فما «قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب». واشترط أن «يُنقل المصطلح على مقتضى نطق الحروف العربيَّة البحتة، وأن يراعى في المنقول وزن عربي محفوظ لا يزيد على سبعة أحرف، فإذا زاد أُنقص بشكلٍ لا يخلُّ بالعلم».
ح - مواكبة التقدم العلمي بوضع مصطلحات علمية موحدّة، وهنا دور مجامع اللغة العربية في توحيد المصطلحات بين العرب ونشرها كي لا تظل رهينة المعاجم. والأفضل وضع المصطلحات بدلاً من تعريبها.
ط- تسهيل تعلم العربية وإتقان تعليمها: اذا أردنا النهوض بالعربية نحو مجتمع المعرفة، فلا مناص من العمل على إتقان المعلمين لها وتيسير تعلّمها وتعليمها وتطوير مناهجها باستمرار، وتحديث استراتيجيات التعليم وتطويرها باستعمال أحدث التقنيات، واستخدام أدوات الانترنت في التعليم. لذا المطلوب هو إعداد معلمي العربية وإعادة تأهيلهم على نحو مستدام، ومحو الأمية المعلوماتية عندهم لأن غرفة الصف في هذا العصر هي غرفة بلا جدران. وكذلك تدريبهم على التواصل الفعال مع طلابهم كي ينظروا الى ماضي تراثنا بعين الناقد، ويروا الماضي بعيون الحاضر. فلنتواصل مع التراث: لا احتماءً بالماضي أو نكوصاً إلى الوراء في آلية دفاعية، بل بآلية نهضوية هي العودة إلى أصول نحييها بما يتجاوز الماضي إلى الحاضر والمستقبل دون انقطاع عن تراثنا، وبما يتناسب مع قدراتنا وتطلعاتنا. لذا من الضروري إعادة النظر بمحتوى منهاج اللغة العربية كي يلقي الضوء على المحطات الكبرى في تراثنا الأدبي واللغوي، مع التركيز على مهارات التفكير العليا من تحليل وتركيب وتقييم لأننا نريد شعراء وأدباء وروائيين ومفكرين ومبدعين باللغة العربية. نريد من يتابع مسيرة العربية قُدُماً، كي لا نَقَرَّ في كهوف التاريخ.
* خبيرة تربوية

* للمشاركة في صفحة «تعليم» التواصل عبر البريد الإلكتروني: [email protected]