الغياب خيانة.عزاء المتروك هو الاعتقاد بأنّه سوف يلاقي مَن رموه في الغياب كما التقى يوسف إخوته في مصر.
سوف يلاقيهم في مدىً مجهول، وينكسر الغياب.
وسَنَده في عزائه قولُه لنفسه: تَقَوَّ!
كم من ترّهات تحقّقتْ!
الغياب عمى.
حضور المحبوب عودة الأنفاس إلى مَن كان تائهاً. الأنفاس ليست الهواء بل حضور المرغوب.
الغياب اختناق.
المتسبّب بالغياب معذور، كما هو الجلّاد معذور. كلاهما فوق رأسه واجب. الأوّل مُجْبَر بخُلْقه والثاني بوظيفته. كلاهما مسيَّر. لكن الغياب قاتلٌ غير معذور. الغياب هو ما سَبَق التكوين. لم تستطع الطبيعة احتمال الخواء فتفجّرت من اختناقها ودَحْرَجَتْ صخورها وانجلت الحياة. الحياة التي هي الحضور. الربيع أجمل الحاضرين لأنّه يتدفّق بغير مشورة، مستهتراً بالتقاليد والأخلاق، الربيع الضيف الذي لا يريده أحد أن يرحل.
الغياب هو الوجود ما قبل الله.
مَن يَوَدّ العيشَ بلا وجهٍ يشرقُ عليه إشراقةَ الله؟

■ ■ ■


يتحجّب الحضور أحياناً بوشاح اختفاء كما تتحجّب الشمس بغيمةٍ بيضاء تُقرّب أكثر ممّا تُباعد.

■ ■ ■


اضطرابُ وجه المرأة كاضطراب صفحة الماء: الجواب نَعَم.

■ ■ ■


هو فراغكَ أنت ما يرعبك في دويِّ الغياب، لا خلوّ المدى من الحاضرين.


■ ■ ■


اللحظة الراهنة لدى المرأة تطغى على الذكرى أو النذير. اللحظة قناعٌ نسائيّ. الرجل يصل إلى اللحظة مسربلاً بما كان يشغله أو مسكوناً بما يضنيه. اللحظة مرآةُ الرجل.

■ ■ ■


كما يَحقّ للإنسان أن يرى يَحقّ له أن يُرى. الحقّ الأوّل، قَدْر ما هو جميل، قد يُغْني عن أنشطة الحياة الأخرى. يجب إبدال لفظة تَلَصُّصْ بكلمتي تَشَرُّف وتشريف. مَن يتأمّل فيك ينعم عليك ببخور عينيه، ويُغذّي من مَشْهدكَ كيانه.
أعرف رجلاً لم ينم الليل مذ استطاع التصرّف بوقته. منذ خمسين سنة. لا استمتاعاً بالليل إنّما فزعاً منه. فزعاً إلى أَرَقٍ مضاءْ، أرَق منشغلٍ اصطناعاً، ملتهٍ بالكتاب، بالشاشة، ملتهٍ بوَشيشِ الشّاشة الفارغةِ إلّا من الفضاء، ملتهٍ بأحلامِ اليقظة، ملتهٍ بذكرياتِ لا تسأله رأيه.
لا نوم قبل النهار. لا استسلام قبل مجيء الحضور.
الاستسلام للغيبة في أحضان الحضور.
الحضانة.
الهَدْهَدةُ بَعْد الرشد.
أعظم ما ابتكره الإنسان كان من أجل طَمْر الليل بالنهار.

■ ■ ■


لكنَّ الإقامة في السَهَر أليست اعتناقاً للغياب؟ لا، بل هي وعيٌ فوق لاوعيِ الغياب.
مواربة.
تَوَارٍ.
النومُ في الليل كابوس وفي النهار اختلاس.
أيّهما أخفّ؟
الصدر لا يتنفَّس في رقاد الليل.
الليل كَفَن. أنفاسُ الليل لا تُحْسَب. لا شيء في الليل يُحْسَب إلّا ما يخترقه، يلوي ذراعه.
ظلماتُ الساهرِ لا تطيق ظلمات الأرض.
ظلمات الساهر لا تكفيها شمس المجرَّة.

■ ■ ■


لو أدركَ الحضور حاجةَ المستوحدين إليه لأدركَ المستحيلُ معنى العذاب الذي ينزله بمغلوبيه.

■ ■ ■


يتقلّب إنسانُ الليل بين ثلاث حالات: شيطانٌ يتحدّى قواعد التوازن، دخانٌ أرعش من ضوء الشمعة، دعاءٌ لا ينتهي ويتأرجح بين سجودِ الملاك وعواء الذئب.

■ ■ ■


في نهايةِ طريق الوحدة يشعر المرء بأنّه اعتاد... غادرته الحاجةُ إلى الرفقة، إلى الأنس. يتساوى النوم والأرق. يصبح اللقاء بشخصٍ آخر مؤلماً كالشوكة، كالغربة. أين انتصارك يا دهر؟

■ ■ ■


عندما يكتشف المرء أنّ الوحدة قَدَر، أنّ ملجأه هو نفسه الهاوية،
عندما يكتشف الشاعر أنّ الشعرَ لم يكن حلّاً بل كان تطبيعاً للوحدة، ويكتشف العاشق أنّ الحبّ كان وَثْباً من إخفاقٍ إلى إخفاق،
عندما تصطدم النفس بحائطِ الفصل القاطع...
مريعةٌ صدمةُ الوحدة حين هي ختام.
لا يبارح ذاكرتي عنوان إحدى القصص البوليسيّة: «سوف تكون وحدك في تابوتك». في مهدك أيضاً، رغم نظر الأمّ. من المهد إلى اللحد، رغم المحطّات والمناظر من القطار وأحاديث الركّاب. تمويه. ما نسعد به ونشقى ونُنتج ونصرخ، هو فتات الآلهة. ما يتكوّر في اللحظات السعيدة، أو الحارقة والحرّاقة، مجموعات قَبَسٍ مهرولة نحو العتمة.
المشاركة مستحيلة. بعض الأحيان يتراءى أنْ حتّى المشاركات الجزئيّة مستحيلة لفرط ما يستهتر القَدَر. نعيشُ مُبْصِرين في صميم العمى ونتمرّن منذ اليوم الأوّل على تجاهل الحوت الذي نحن فيه.
والدويُّ الذي نسمعه هو صدى سكون الوحدة بين مدّ انفتاحها وجَزْر انغلاقها، وصدى ارتطامنا بجدران الفراغ.

■ ■ ■


رغم استحالة المشاركة، هناك في مكانٍ ما مَن يبحث عنّا، مَن ينتظرنا.
مَن يجعلنا ننتظر.
مَن يجعلهم ينتظرون.
لو كنت أغنية لكانت تلك لازمتي.

■ ■ ■


دع هذه الفكرة نَصْب عينيك.
لا تستكنْ.
لا ترفع نظرك عمّا تتفرّس فيه.
أشعّة عينيك من إرسال الدماغ الأكبر.

■ ■ ■


لذلك نُعظّم ما يُعْلينا على المصير. ما يرتفع بنا، ولو دقيقة، عن الحضيض. الفنّ، الحلم، الجمال، الدهشة، المفاجأة، الجبين المسحور، الكلمة، الانخطاف، الإشراق، الخرافة الرائعة، المعجزة التي لا يحقّقها إلّا الحبّ.
لا، الشعر ليس وَهْماً، بل هو روحٌ يهديها المحكوم بالإعدام إلى عَدَمٍ لا يعبأ به.
الحبّ ليس حماقة، بل هو همزة الوصل الوحيدة بين الممكن والمستحيل.
الوَهْم هو العاجز عنهما. الحماقةُ هي الحائل دونهما.
لولا هذان الجنونان لكانت الأرض أرملة.

■ ■ ■


في صحارى الوحدة والوحشة والعجز والجهد الضائع، يكمن شيءٌ قد نصادفه، نلتقطه، يلتقطنا، فيضيء منّا العيون بغير نورِ البَصَر، بنورٍ لم نَعْهده. نورٌ يحوّلُ أقدامنا الزاحفة زَحْفاً إلى أجنحة.
عندئذٍ دعِ الباقي وتَشَبَّثْ بهذا الصديق. الباقي مقدمة لهذا.

■ ■ ■


إعجابكَ بها يضيء وجهك.
إنْ لم تُجِبْكَ على هذا النور بنورٍ انعكاسه على وجهها، لا تُواصلْ، الباب مغلق.

■ ■ ■


حضوركِ متقطّع. غيابكِ جَسَدُكِ ملء التمنّي.
الكمال أنْ يكون في حضوركِ امتلاءُ ذلك الغياب.

■ ■ ■


آبائي هم الرحماء.
أجدادي هم حُماةُ الضعفاء.
إلهي هو الحبّ.
باركي يا نفسي.
هَلِّلويا!