«أبعث لكم بكلماتي هذه، وقد ذاب شَحمي ولحمي ونُخر عظمي وضَعُفتْ قُواي من سجني في الرملة الحبيبة الفلسطينية الأصيلة، وصيتي هذه لأهلي وأبنائي وزوجتي وشعبي»[من وصية الشهيد الشيخ خضر عدنان]

من صحيح القول أنَّ جوهر اقتباسات النِّتاج المعرفي ينسحب بذاته على رَفاعة وقدرةِ الرؤية والتحليل والفهم المُمنهج، ذلك أن أيّ نتاج إنساني سواء كان علمياً أو أخلاقياً يبدو ظاهرياً على أنه أتى من مجرّد ألم، في حين هو تجسيد لقدرة العقل - الثقافة على غور الظاهري من خلال امتلاء معرفي ما، إن كان بسيطاً أو معقّداً.
قدرة الفعل النضالي المميز لا تنتُج إلّا عن خزَّانِ معرفة حقيقية، وعن اكتناز فحوى الهُويّة ثم تنامي القيم الإنسانية والأخلاقية في جنبات المرء الواعي وعقله ودواخله، هنا تتشكل الشخصية المناضلة بتلقائيّتها، فهي قد امتلكت مسارها الحقيقي المنفصل عن النفعية والانتهاز، وهي بذلك تضحّي تلقائياً قادرةً على سَبْك الروح التضحوية السامية بناءً على فكرة الإيثار التي هي عكس الانتهاز من جانب توصيفي.
ما سبق يعني ويطال، ليس فقط يساريي الفكر، بل يشمل مؤمني الفكرة ذاتها من مختلف المشارب والقناعات، لذا يبدو الإسلامي - لا المتأسلم الشكلاني اللفظي - المؤمن في العمق، شقيقاً لليساري والقومي والوجودي. إنها ليست لحظة تطابق فهم كنه مسارات الهدف ومفرداته، بقدر ما هي تشابك لشوارع الصدقيّة ودروبها في دُوَّارٍ تاريخي واحد موحَّد.
يفهم الفلسطيني ذلك تماماً، ليس من زاوية معرفية دراسية بقدر ما يدركه من خلال تجربة قاسية وطويلة تخلّلتها كل أنواع المجازر والخيانات وسَيلُ التضحيات أيضاً. إنها اكتساب لواقع المعرفية شِبْهِ القسريَّة المبلّلة بدم الضحايا والبيوت المهدمة المشفوعة بقذارة موقف العالم وظلاميّته في آن معاً.
تُروِّجُ مشيخاتُ أنظمة التطبيع والإبراهيمية الموسادية مفاهيمَ تُحاكي بعضَ الإسلام في تاريخيته وجوهريته، لتُختصَرَ العبادةُ بالصلاة دون الجهاد والمجاهدة والنضال، والزكاة دون توجيهها للصمود الإنساني، ومن ذلك تغريبُ رَفْد الثورات والمقاومات وتحويلها إلى ما يمكن توصيفه بزكاة الشحاذين لا المحتاجين طبقياً. في حين لا إسلامَ بلا جهاد ونضال من أجل نصرة الإنسانية، فالتقاعس عن جوهريته الشمولية ينفي الانتماء ذاته، وهذا جوهره في أصوله المحمّديَّة الأولى. ويبدو هنا المؤمنون المناضلون المتديّنون في فلسطين عموماً مدركين لذلك بعمق، إلا من سخطَهُ ربي فتقزَّمتْ روحه الإنسانية. يمكن القولُ جزماً بأن هذا ما كان يؤمن به عَيناً بيّناً الشهيد المؤمن المميّز خضر عدنان بكامل شجاعته ووضوحيته.
إنّها ليست لحظة تطابق فهم كنه مسارات الهدف ومفرداته، بقدر ما هي تشابك لشوارع الصدقيّة ودروبها في دُوَّارٍ تاريخي واحد موحَّد


ليست المسألة أبداً مديحاً لشهيد، فقد رسَمَ الرجل حياته المعرفية ومساراتها بكل عناية وذكاء ويقين مُدركاً ثمن ذلك، وهذا لا يجدي ولا يكتمل إلا بشخصية الفدائي الواعي المثقف. اُدرس الرياضيات الاقتصادية كي تناضل جيداً، وإن قُتِلت فعليك أن تُقتَل بثمن يليق بما تعبتَ من أجل قناعاتك - لا أشكّ بأنه فكّر بغير ذلك.
ينتمي خضر عدنان إلى قرية عرابة في جنين القسام، إنها القرية ذاتها التي ينتمي إليها الشهيد أبو علي مصطفى، هذه القرية التي يزرع أهلها الأشجارَ على التلال لتُظلّل قبورهم إن هُم استشهدوا فتنغرس قاماتهم عميقاً في تربة فلسطين الجليلة. هناك كان خضر يصعد مع كتبه المدرسية ويتفكّر في السماء والكون والألوهية إلى أن وصل عقيدته الإيمانية المطلقة.
وُلد خضر عدنان موسى في عرابة - جنين يوم 24 مارس 1978. أنهى مرحلتَي الدراسة الأساسية والثانوية العامة في مسقط رأسه، واجتاز المرحلة الثانوية بتقدير جيد جداً، ثم التحق بجامعة بيرزيت في رام الله، وحصل عام 2001 على البكالوريوس في الرياضيات الاقتصادية، ثمّ على الماجستير في تخصص الاقتصاد. وفي 2017 غادرت روح السيدة نوال توفيق موسى التي أنجبت خضر، لكنها انغرست في تراب وروح فلسطين بكامل تأثيراتها التربوية القِيَميَّة، ومع نهايات عام 2020 توفي بفيروس «كورونا» عدنان موسى والد شهيد اليوم خضر عدنان.
كدأب الفلسطينيين، أدركَ خضر عدنان أن معركة البقاء الكبرى تتطلّب إنجاب أولاد احتياطياً، فأنجب تسعة منهم ومن رحم السيدة الفاضلة رندة موسى التي لا تقلّ شأناً عن المناضلين الكبار. ولسوف أذكر هنا ذلك الجيل الذي عاش النكبة والمجازر النازية الصهيونية، من بينهم أمّي وأبي اللذان أنجبا أحد عشر ولداً وبنتاً، وفي كل مرة تسأل أحدهما أو كلاهما يردَّان بأن هناك إنجاباً احتياطياً، فإن قتلَ الصهاينةُ أو الأنظمة التابعة العميلة خمسةً مثلاً، بقي ستة على قيد الحياة. هذا الأمر لا يرتبط بالتخلف الاجتماعي والنزعة القروية، كما يشير الاحتلال، بِقدر ما هو فهم فطري للصراع واستدراك عميق ضدَّ إمكانية الفناء. السيدة رندة قالت عقب استشهاد رفيق عمرها: «احفظوا ملامح أولادي جيداً»، وفي ذلك إشارة بليغة إلى استمرارية النهج الثوري!
ذلك يُعزز بذكاءٍ هاجسَ النازي الصهيوني المُصارع بكامل جبنه وخسّته، إنه يقتل وهو يرتعش من النتائج الاستراتيجية وإشارات المستقبل، لكن حياته وبقاءه برمّتهما تتلخّص بجملة واحدة: طالما أنك تملك القوة المعدنية، اقتل كي تبقى ففي القتل حياتك، والقتل فقط!